في هذا المقال نعيش ـ ومعنا قراؤنا ـ مع قصيدة واحدة من قرابة ستة آلاف بيت، والرقم صحيح ، نعم القصيدة من قرابة ستة آلاف بيت.
وأغرب من العدد أنها جاءت على بحر واحد هو "الكامل".. وروى واحد هو النون.. إنها نونية ابن القيم.
وابن القيم هو شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي الشهير "بابن قيم الجوزية" الذي عاش ستين عامًا (من سنة 691هـ ـ إلى سنة 751م) وهو أشهر تلاميذ الإمام المجاهد ابن تيمية.
***
وهذه القصيدة التي بلغت قرابة ستة آلاف بيت على بحر واحد، وقافية واحدة، جاءت معرضًا طيبًا حافلاً بكثير جدًّا من أصول العقيدة والتوحيد، والقيم الإنسانية والخلقية، وتعظيم القيم الروحية والحديث الشريف، وصفات أهله المشتغلين به، وأحوال الدنيا والآخرة والحساب، وحياة الأنبياء، ومكانتهم، وما أعده الله لعباده الصالحين في الجنة.
ويجمل ابن القيم ـ في قصيدته ـ حملات صاعقة على الزنادقة والملاحدة، والفرق الضالة المضلة، والبدع والخرافات التي يأخذ العوام أنفسهم بها.
***
يستهل ابن القيم مطولته بما يمكن أن نسميهُ "الغزل الرمزي" ، وتكثر فيه المصطلحات "القضائية والشرعية ، ليخلص بعد ذلك إلى مسائل العقيدة والأخلاق، وما دار في هذا الفلك. يقول ابن القيم في مستهل قصيدته:
حُكْمُ المحبةِ ثابتُ الأَرْكَان..
ما للصَّدود بفسْخ ذاكَ يَدانِ
أنَّي؟ وقاضِيِ الحسْن نَفذ حكمها
فَلَذا أقرَّ بذلك الخَصْمان
وأَتَتْ شهودُ الوصل تشَهدُ أنه.
حق جَرَى في مجلس الإحسان
فتأكَّد الحكم العزيز فلم يجد..
فسخُ الوشَاة إليه من سُلطانِ
وكأنما شعر ابنُ القيم بجفاف هذه الكلمات الاصطلاحية، فشرع يوظف حاستهُ الجمالية في استكمال معزوفتِه الغزلية.
فيقول:
واها لقلب لا يفارقُ طيرُهُ الْـ
أغصانَ قائمةُ على الكثبانِ
ويظلُّ يسجع فوقها ولغيره.
منها الثمارُ وكلَّ قَطْفٍ دَانِ
ويبيت يبكي، والمواصل ضاحك
ويِظَل يشكو وهو ذو شكران
هذا، ولو أَنَّ الجمال معلق
بالنجمِ همَّ إليه بالطيرانِ
ومن ركائز الإيمان الاعتمادُ ـ بصفة أساسية ـ على كتاب الله وسنة نبيه، مصدرًا، ومرجعًا، والتزامًا في القول والعمل، وهذا ما سماه ابن القيم "بالهجرتين" إذ يقول:
واجعل لقلبك هجرتين، ولا تَنَمْ
فهما على كل امرئ فرْضَانِ
فالهجرةُ الأولى إلى الرحمن بالـ
إخلاص في سرٍّ، وفي إعلانِ
فالقصدُ وجهُ الله بالأقوالِ والـ
أعمال والطاعات والشركانِ
والهجرة الأخرى إلى المبعوث بالـ
ـحق المبينَ، وواضحِ البرهانِ
فَيَدوُرُ مع قولِ الرسولِ وفعله
نفيًا وإثباتًا بلا رَوَغانِ
***
ويؤكد ابن القيم ذلك في بيان حدود العلم الصحيح الذي يطمئن إليه المؤمن، وينفي عنه دَعاوَى المتعالين من الزنادقة والمتأولين تأولاً فاسدًا:
العلمُ قاَل اللهُ، قال رسولُه
قال الصحابةُ هم أولو العرْفانِ
ما العلمُ نصْبُكَ للخلاف سَفَاهة
بينَ الرسولِ وبين رأى فُلانِ
كلا، ولا جَحْدُ الصفاتِ لربنا
في قالب التنزيه والسَّبَحَانِ
كلاَّ ولا التأويلُ والتبديلُ
والتحريفُ للوحْيينِ بالبهتانِ
كلا، ولا الإشكال والتشكيك
والوقفُ الذي ما فيه عرفانِ
***
وهناك تجارة كاسبة لا تبور، تقود المؤمن إلى الجنة، والثمن هو العمل الصالح والتقوى وحسن الخلق.. وفي ذلك يقول ابن القيم:
يا من تريد تجارة تنجيه من
غضب الإله وموقَدِ النيرانِ
وتفيده الأرباحُ بالجنات والـ
ـحور الحسانِ ورحمةِ الرحمنِ
في جنة طابتْ، ودامَ نعيمُها
ما للفناءِ عليه من سُلطانِ
هيئ لها ثمنًا يباع بمثلها
لا تشتري بالزيف من أثمان
وفي شفافية روحية، وبحاسة إيمانية متوهجة يناجي ابن القيم الجنة أو "سلعة الرحمن" كما يسميها:
يا سلعة الرحمنِ لستِ رخيصةَ
بل أنت غاليةُ على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالَها
في الألف إلا واحدُ لا اثنانِ
يا سلعةَ الرحمِن ماذا كفؤها
إلا أولو التقوى مع الإيمانِ
يا سلعة الرحمن أين المشتري
فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب
فالمهر قبل الموتِ ذو إمكانِ
يا سلعةَ الرحمنِ كيف تصبر الـ
خطابُ عنكِ وهمْ ذَوُو إمكان
***
ويوظف ابنُ القيم كثيرًا من الأفكار والقيم التي عالجتها الأحاديث النبوية الشريفة، كما نرى في قوله إذ يصف الدنيا:
وإذا أردتَ ترى حقيقتها فخذ
منه مثالا ًواحدًا ذا شانِ
أدخل بجهدك أصبعا في اليم وان
ظره ما تعلقه إذا بعيانِ
هذا هُوَ الدنيا كذا قال الرسو
ل ممثلاً، والحق ذو تبيان
وكذاك مثلها يظل الدوح في
وقت الحرور لقائل الركبانِ
هذا ولو عدلت جناح بعوضة
عند الإله الحق في الميزان
لم يسق منها كافرًا من شربة
ماء، وكان الحق بالحرمانِ
(القائل: المستريح وقبت القيلولة.)
***
ومن قبيل الترغيب يفصل ابن القيم في عرض مشاهد النعيم في الجنة، وما فيها من مظاهر العظمة، والجمال، والجلال، فيتحدث عن بنائها، وأرضيها، وحصبائها، وتربها، وصفة غرفاتها، وأرائكها، وسررها، وأشجارها وثمارها، وظلالها، وطعام أهلها، وشرابهم، وملبسهم، وفرشهم، وحليهم، وهو في كل أولئك يعتمد على ما جاء من آيات القرآن الكريم، وما جاء في الأحاديث النبوية الصحاح.
.. ففي طعام أهل الجنة يقول ابن القيم:
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم
ولحومهم طير ناعم وسمان
وفواكه شتى بحسب مناهم
يا شبعة كملت لذي الإيمان
وصحافهم ذهب تطوف عليهم
بأكف خدام من الولدان.
***
وفي شراب أهل الجنة يقول:
يسقون فيها من رحيق ختمه
بالمسك أوله كمثل الثاني
مع خمرة لذات لشاربها بلا
غول ولا داء، ولا نقصان
***
ومما قاله في ملابس أهل الجنة:
ولباسهم من سندس خضر ومن
استبرق نوعان معروفان
بيض وخضر ثم صفر ثم حمـ
ر كالرباط بأحسن الألوانِ
لا تقرب الدنس المقرب للبلى
ما للبلى فيهن من سلطان
***
وما قدمناه يعد قليلاً جدًّا، من كثير جدًّا، من نونية ابن القيم التي بلغت قرابة ستة آلاف بيت على وزن واحد، وقافية واحدة، وواضح أنه من شعر الفقهاء، وهو الشعر الذي يكون للفكرة فيه المقام الأول، ويتأخر فيه الجانب الجمالي والجانب الوجداني إلى المقام الثاني .
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب