يرى أهل الأدب أن التكثيف وإطلاق فضاءات التصور في ذهن القارئ وإبراز الجمال في لغة الضاد، وتنمية الذوق الفني، وإمتاع القارئ وتثبيت المعاني والأفكار وتنزيلها في محلها.. هي بعض أغراض (الشعرية) في القصة القصيرة.
يقول الدكتور الطاهر أحمد مكي في كتابه: (القصة القصيرة.. دراسة ومختارات): "القصة القصيرة أقرب ألوان النثر إلى الشعر وفيها الكثير من خصائصه... يجمع بينهما أن عماد كل منهما التكثيف والتوتر والتلاحم العاطفي والجمالي، وإبداع القصة كإبداع الشعر يومض فجأة وينبثق كشرارة ويجيء عفوياً".
أما القاصة فرجينا وولف فرأت: "أن النثر قد أخفق في أن يخدم غايات القرن العشرين، لذا فإن حل المشكلة يمكن أن يتم على يد القصة الشعرية وذلك بأن تتبنى القصة شيئاً من سمو الشعر، وكثيراً من طبيعة النثر".
وأديبنا أبو زياد الأستاذ محمد حمدان السيد من المنتمين إلى هذه المدرسة، مدرسة (الشعرية في القصة).. ولن أكون مغالياً إذا قلت: إنه من المبدعين في هذه المدرسة الأنيقة الجميلة..
عرّف محمد السيد الناقد الكبير الأستاذ عبد الله الطنطاوي بجملة لا تزيد على سطر واحد تحيي في النفوس جوامع الكلم، وذلك في تقديمه لمجموعة "شاطئ الرؤى الخضر" بقوله: "كاتب هذه المجموعة هو الأديب محمد السيد، الفلسطيني الجذر، الدمشقي المنشأ، العربي الأرومة، الإسلامي الفكر والمنهج والحركة.".
أما العبد الفقير، فقد حار في تعريفه.. ليس الآن فقط.. بل منذ ما يزيد على سبع سنين وذلك في مقابلة أجريتها معه ونشرت في جريدة (اللواء) الأردنية.. وذلك بالقول: يحار المرء بأي صفة يقدمه: "الأديب" أم "السياسي".. فهو أديب قبل كل شيء.. ولكن السياسة.. "تلبسته".. رغماً عنه، وسببت له الكثير من المعاناة التي يحتسبها راضياً في جنب الله عز وجل.
أنس إلى الأدب منذ بواكير حياته الحافلة بالهجرة التي ابتدأت من بيارات البرتقال في يافا وحيفا والأرض التي باركها رب العزة.
استأثرت الدعوة إلى الله عز وجل بالكثير من وقته وجهده، فبذل لها العطاء وتنقل في صفوفها لا يضن عليها برأي أو فكر أو نصيحة. وكان لقلمه حضور متميز يكتب السياسة بروح الأدب فتأتي مقالاته قطعاً فنية لا تقدم المعلومة وحسب.. وإنما الجمال الذي يقطر حلاوة.
كتب أديبنا في معظم الموضوعات التي تخدم الدعوة إلى الله: الأدب والسياسة والتربية والفكر والثقافة، وفي النقد..
كما نشر في العديد من الصحف والمجلات مثل: المجتمع، النور والمشكاة "المغربية"، والمسلمون، واللواء، والقدس العربي، والأمة "الأردنية".
أما العنوانات التي كتب فيها فهي كثيرة ومتنوعة جداً.. سنقتصر على ذكر أمثلة منها:
- في القصة القصيرة: له خمس مجموعات: خط اللقاء، وثورة الندم، وشاطئ الرؤى الخضر، وتكلم الحجر، والمطر المر..
- في التربية والإعلام: كتب في رسالة الإخوان تحت عنوان "قضية ورأي" ولماذا الإعلام؟ ما يزيد على مئتين وخمسين مقالة.. ولا يزال.. كما كتب في التربية القرآنية.. وغيرها.
- في الفكر والثقافة: كتب تحت عنوان: "في الثقافة والفكر" العديد من المقالات في المجتمع والنور واللواء.
- وفي النقد: كتب "كيف تصبح كاتباً" و"الحداثة إلى أين؟" و"دراسة عن مجموعة قصصية لمحمود مفلح"... إلخ ومقالات أخرى نشرت في المسلمون والمجتمع.
- وفي السياسة والفكر: كتب في القدس العربي واللواء والمجتمع والبيان، الكثير من المقالات: "منها زكي نجيب.. أضواء على الفكر التضليلي" و"الصحوة الإسلامية والتحديات" و"100 سؤال وجواب عن الفرق" و"ردود على كتاب البوطي – الجهاد" وغيرها..
ولم تغادر أديبنا هذه الشعرية في أي من موضوعاته.. بل إن له مقالة عن الشيخ أحمد ياسين تتردد كثيراً في تصنيفها مع المقالة أم القصيدة.
والشعرية، في أي موضع جاءت فيه، وبصورة خاصة في قصصه لم تكن متكلفة أو مصنوعة.. بل هي تتدفق في مسارب القصة مؤكدة لمعنى أو مجلية لفكرة أو مطلقة العنان لمتتالية من عمليات التصور تتفاعل في ذهن القارئ دون حدود.
شاطئ الرؤى الخضر
انظروا قصته "شاطئ الرؤى الخضر" التي وهبت المجموعة القصصية اسمها.. تجدوا إبداعاً في قصة تكاد تتكرر كل يوم حيث شباك الغي منصوبة توقع الضحايا وتصطاد الغافلات اللاهثات وراء الدعوات الزائفة عن الحرية والمساواة والمتع المتحررة من كل قيد.. يقول أديبنا في وصف واحدة من هذه الشراك الآثمة:
"ما أطيب الأنفاس العليلة مضمخة بعبير الحرية.. العيش بقرب آدم دون قيود والانطلاق إلى ما لا نهاية دون عوائق، والشراع يسير لا قيود عليه، ولا كبت فيه ولا فوارق.. آدم وحواء يجمعهما الإنسان".
ولكن الشراع الذي "تقوده سواعد متوحشة" يسوق إلى لجة ملؤها الزيف والتقليد وتتفيه المرأة واختزالها لتصبح مجرد متاع رخيص وشهوة حيوانية حيث يمتص ما فيها من رحيق ثم ترمى في دروب الضياع لتكون من سقط المتاع..
اسمعوا أديبنا يصف ما آلت إليه تلك الحياة:
"ليل لم يلد الأقمار، وأمواج تلدها أرحام جهنمية، وأشرعة لطختها كلمات دنسة برزت في أطر مزهرة، ونهار ضاعت شمسه في لجة لا نهاية لها، وبيان كيف ينعق الغراب، وشياطين تدعو بصور إنسانية".
"وهم هذه الحياة، خبال لا يطلع فيها إلا ليل ولا ينبت فيها إلا شوك، ولا يسكن فيها إلا الشيطان ولا يرتع فيها إلا كل ذليل، ويأكل من شوكها كل أثيم".
تفاؤل
إلا أن (السيد) ينحاز للتفاؤل، وينتصر لمن يغلبن كل كريم ولا يغلبهن إلا لئيم.. حيث تؤوب المغدورة إلى صوابها، وإن "انحدر العمر في خريف رمادي قاتم" لتحط الرحال هناك على "شاطئ الرؤى الخضر" حيث تتفنن ريشة السيد في اقتناص هذه اللحظات السامية فيقول:
"أطبق السبات عينيها على رؤيا جميلة: الشاطئ تغفو فوقه الأحلام الوردية، حيث الرمال تسبح بين جدائل الشمس الذهبية، والناس ينامون ملء جفونهم ويستيقظون على صلوات الملائكة.. حيث زرع الإنسان الكلمة الطيبة ورواه بالعسل وماء الورد فأثمرت الحب والطهر والنقاء..
حيث تنساب همسات السحر الحلال من شفاه الليل الذي تقطر أذياله بندى الأقمار العلوية وتتضمخ أثوابه بنسمات عطرية هي صدى هبات رحمانية.. وأفاقت تتمتم لقد وجدته.. وجدت الشراع المنقذ.. إنه الموصل إلى شاطئ الرؤى الخضر.. وحبات من الدمع المتلألئ بنور الإيمان تنسكب على الوجنتين المتغضنتين".
فإذا نظرنا تلقاء مجموعة السيد (وتكلم الحجر) في قصة (الطفل القادم) وجدناه يبدأها باستهلالة شعرية ذات جمل قصيرة رشيقة.. يضعك أمام مفارقة حياتية كبرى تستغرق القصة – القصيدة كلها- هذه المفارقة تكمن في بيان معيشة الإنسان العربي النائم وإلى جنبه الإنسان الفلسطيني الذي يعاني بدءاً من الطفل وانتهاء بالمرأة والشيخ العجوز.. وهي مفارقة نكدة لا تزال بواجهتها البائسة على المشهد العربي الفلسطيني كله.. تقول الاستهلالة:
"فنجان قهوة، وصباح وليد، ونسمة ناعمة ناعسة، وشرف حالمة، تتعلق بأذيال غيمة صيفية ندية، وصوت مذيع يتذبذب بين الصحو والغفو يأتيك بنبأ...".
ألا توحي لك هذه الجمل بطراوة الحياة واللامبالاة التي يعيشها المواطن العربي، في حين أن الجزء الثاني من الاستهلالة يضعك في صورة المعاناة على الضفة الأخرى بقوله:
"طفل لم يمض على قدومه إلى الحياة طويل زمن، يجوب في شوارع القدس بقارورة حليب فارغة، يبحث عن مأوى على الأرض التي تلقت أول نسمة حياة خرجت من صدره، يرنو إلى المسجد بعيني ذاكرة المجد العميقة.. إلى القبة التي تجوب بحر عينيه؛ شراع أمل ومحبة وسلام.. يرفع إصبعين علامة نصر.. ثم يصحو من كابوس فقدان الحس...".
هذه الاستهلالة الذكية الشعرية.. بألفاظها المتجاوبة مع المعاني الممضة.. تستغرق القصة كلها.. بالنفس الشعري نفسه لتوضح تلك المفارقة من جوانبها المتعددة وألوانها المختلفة.. اسمعه يقول بلهجة عالية صريحة صارخة مبيناً نوعاً من المفارقة:
"ويأتيك صوت المذيع قوياً عارماً: هذه المرة.. في فندق الأحلام.. حفل للحياة مطربة الجيل.. راقصة من نوع ناري.. تسكب الدماء في الوجنات الناعمة فيطيب الراح وتطير الأرواح.. بادروا إلى الحجز من نوافذ الحجز في كل شرفات الأوطان التي يحتلها الرقص والراح والنوم..".
ثم اسمعوه يقول:
"تفرك عينيك لتطرد غزو النوم، تثاقل إلى الأرض وتعلو هامات نفسك تثاؤبة حمقى، ولكن بقايا نخوة ترتاد تخومك، تنفض عن وجهك آثار الغزوة، فتهب واقفاً صائحاً:
ألق عن كاهلك سر النوم، وابتسم للحجر السحر، واكتب على ظهر حجر: غداً يختبئ يهود خلف حجر.. ترتعد فرائصك للفكرة، وتنتفض جوارحك وتنداح العبارة الأخيرة في أفقك وتردد: خلف حجر.. خلف حجر.. ويسكن الحزن تقاطيع وجهك، وتناوش الغفوة بوابات عينيك، ويعاود التثاؤب غزوه وينصب فتحة عين، ونصف إغفاءة رحت تدندن:
أضناني سهر الليل وراء الخميلة..
أقعدني الوسط عن الفضيلة..
ألهمني الذل إلى باب لا يفتحه إلا النوم.. إلا الصمت.. إلا العجز".
يا لها من حوارات وسرد امتلأ بالشعر المجنح الغارق في كثيف المعاني والأبعاد ووارف الظلال.. وكل ذلك خادم للموضوع المراد إبرازه وهو المفارقة بكفاءة عالية.. ودون اعتداء على مجريات الحدث الرمزي..

المراجع

odabasham.net

التصانيف

قصص   روايات   فنون   كتب   روايات وكتب ادبية   الآداب