كان أخي ( هشام ) لا يتجاوز عمره الأربع أو الخمس سنوات ..وأنا : أول ثانوي تحديداً ..عندما جعلني أخرج عن طوري ..،، فقد كنتُ معتاداً في تلك المرحلة على شراء ( علبة فول أو علبة تونة صغيرة ) يومياً ..لاحظوا : قلت تونة صغيرة : يعني يا دوب أكمّن لقمة ..،،

هشام يترصدني عند التونة بالذات ..وعندما تصبح أمامي تماماً : يجلس بلا استئذان و بكل ( برادة ) الأطفال ..يشمط علبة التونة بسرعة فائقة ..ويقوم دون شكر ..وأبقى أنا في جوعي آكل خبزي الحاف ..،، أول مرّة فعلها كنتُ مبسوطاً ..ثاني مرّة كنتُ أقل انبساطاً ..ثالث مرّة أكيد انقهرت ..رابع مرّة حاولتُ أن أجد مكاناً لا يراني فيه ولكنه رآني و شمط التونة وذهب ..خامس مرّة نبهته بعنف شديد ولكنه طفل لا يعي مدى القهر الذي حطّ بداخلي ..نفسي أتهنى بعلبة تونة ..،،

وأخيراً ..وجدتُ الحل ..فكرة جهنمية ..اشتريتُ التونة كالمعتاد ..وجلستُ أمام الصحن ..جلس هشام أيضاً ..أخرجتُ ( مرطبان الفلفل الأسود ) رششتُ كمشة على التونة ..أكل هشام أول لقمة ..قلتُ لنفسي : الآن سيقوم ..،، لم ينظر إليّ حتى وواصل التهامه ..،، وضعتُ كمشةً أخرى ..وهو يواصل نضاله ..وضعتُ كمشة ثالثة ..أصبح لون التونة أسودَ تماماً ..رفع هشام رأسه للأعلى ..وأخرج نفساً حاراً ..،، ابتسمتُ أنا ..بدأ يشعر بالحرورة ..وضعتُ كمشة جديدة ولكنها كبيرة جداً ..نعم : أردتُ الانتقام لقهري ووضع حد له و لهشام معاً ..تناول هشام لقمة جديدة ..أنفاسه الحرّى تتصاعد ..يضع يده على فمه يحاول إطفاء النار التي في فمه ..ترك الخبزة وقام ...أخيراً قام ..،، الآن انتصرت ..ولو على طفل صغير ..ولو كان الطفل أخي ..،،

أقل من دقيقة ..عاد هشام ..ومعه كأس ماء ..وجلس أمام صحن التونة الأسود..يأكل لقمة و يشرب شفطة ..ثم يأكل لقمة و يشرب شفطة ..،، ومن ذلك اليوم حلفتُ ما أجيب تونة و هشام بالبيت ..،،

وكبر هشام ..وصار الآن بعمر الورد ..وهو قادر على شراء ما شاء من التونة كل يوم ..ولكنه لا يشتريها : ليس كرهاً فيها ..بل انتظاراً لي كي يمسكني متلبساً بشرائها ..،،

أمّا لماذا أسوق لكم تلك الحكاية ..فقط كي أقول لكم : يمكن أعتبار ( هشام الطفل المدلل ) هو الفساد المدلل الذي لا يتوقف : مع اعتذاري الشديد من هشام لهذا التشبيه القاسي ..ويمكن اعتباري أنا : الشعب الذي كلما وضعتُ الفلفل الأسود كلما فتحتُ شهية الفساد على البقاء أمام الصحن ..،، و الحل فقط : - من يأخذ الصحن و يتوقف تماماً عن شراء التونة ..؟،، فقط أوقفوا تدليع الفساد ..ولا تضعوا صحناً أمامه ..،،


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   كامل النصيرات   جريدة الدستور