فجأة ..وأنا في طريق عودتي من الغور إلى عمّان ..كنتُ أدندن لا شعوريّاً بأغنية شعبية قديمة ( ما تبكيش عليّا يمّا ما تبكيش ) ..ولا أعلم عن شهرة هذه الأغنية ..إلاّ إنني في مرحلة من مراحل عمري كنتُ مغرماً بهاً : فهي بُكائية مصريّة تُعبّر عن ( الولد الفقير الذي يتغرّب عن حضن أمّه من أجل العيش ..) ..،، هي أغنية لا تصلح إلاّ للفقراء ..بينما قد يبكي عليها ذوو الإحساس العالي من الطبقات الأخرى ..،،.
قلتُ لكم : الأغنية نواحيّة بامتياز ..تذكرتها وأنا غير مغترب في وطني ..ولكنّ مجرّد السلام على أمّي وهي بالغور و مجرد أن أقوللها : ( بخاطرك ) ..هو شعور كامل بالغربة ..،، وأنا لا أتكلّم عن نفسي ..بل عن ملايين الفقراء الذين يدسّون آلام غربتهم في جيوب قلوبهم و يمضون بحثاً عن توفير ( لقمة خبز ) دائمة ..،، وقد تكون الأغنية قد حطمتني في مقطعها الرائع ((يمّا ادعيلي و قولي يا قادرْ ...أرجعلك مجبور الخاطر ..ناس بتروّح وناس بتسافر ..كلو يمّا على أكل العيش ..)) ..يا الله كم في جملة ( أرجعلك مجبور الخاطر ) من دموع ..،، لأننا غرباء ..و غربتنا ليس فيها جبر خواطر في أوطاننا العربية التي تُطعمنا كسراً ..و تشربنا اللطم المُركّز ..،،.
هل هذه الأغنية من الممكن أن يضعها ( ابن حوت ) وهو يسافر باتجاه (تلقيط اللذائذ ) ..،، وهل من الممكن أن يترنّم عليها ( ابن مسؤول عربي كبير ) وهو يضع ( الهتفون ) على أذنيه ..،، أم هي لذلك الفقير الذي يطلب ( بهدلة الغربة ) من أجل ( العيش ) ..ولم يتجرّأ على قول ( العيش الكريم ) ..بل العيش فقط ..،،.
ملعون أبو العيش الذي يحوّلنا إلى ( ماسحي صحون و ماسحي أحذية) بينما ( ماسحو الجوخ ) يتنعّمون بحريرْ لا يدركون نعومته ..،، ملعون أبو العيش الذي يجعل خروجي خطوتين من بيتي ( غُربة ) ..ويجعل سفر (أبناء الحيتان ) حول العالم ( رحلات استجمام ) ..،، ملعون أبو العيش الذي يحاسبني على ما تبقّى في كيس الخبز وهل يكفي للوجبة المؤجّلة للصباح ..بينما في حاوياتهم ما يكفي قريتي شهراً كاملاً ..،،.
يا ناس مهلاً ..ليس العيش إلا عيش الآخرة ..ورح نشوف من يضحك بالآخرة أكثر ..،، و ما تبكيش عليّا يمّا ما تبكيش ..،،.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة كامل النصيرات جريدة الدستور