إنما يضع الشاعر عنوانا لقصيدة كتبها في حال من حالات الإلهام الشعري، لأنه يحس بأن الذي مر به من التجربة، وخضع له من الرؤيا، قبل الكتابة وأثناءها، يحتاج إلى علامة تدل عليه، فإذا هو قريب من القارئ حين القراءة الشعرية التي تنحو فيما تريده من كشف الأسرار، وتعرف الأخبار،تنحو نحوين اثنين
النحو الأول، وفيه تدرك هذه القراءة أنها أمام نص أدبي مسلوك فيما له من الفنية، مملوك بما له من الشعرية، فلا مفر إذن من النظر إليه على أنه نص مخالف عن النصوص الأخرى التي تجعل من الفائدة في المجال الكلامي مبلغ همها، ومنتهى قصدها.
والنحو الثاني، وفيه تمارس القراءة فاعليتها وفعاليتها في متن القصيدة، فإذا هي مطلعة على ما أراده الشاعر من المعاني والمجاني، وما لم يرده من الدقائق والرقائق،فجاء في السياق الشعري ليدل عليه هذا السياق بما أوتي من العبارات والإشارات التي تجد ذاتها ووجهتها، في النسيج التركيبي من جهة،وفي الجمالية الفنية والفنية الجمالية من الجهة الأخرى. غير أن العنوان يوضع، في كثير من الأحيان، على رأس القصيدة من غير أن تكون له علاقة دلالية بها، فيكون وجوده إذن وجودا شكليا، ومع ذلك تضطر القراءة إلى أن تتخذه مدخلا إلى عوالم هذه القصيدة، فيكون ما يكون من التحليل والتأويل الذين يصلان إلى نتائج من الكشف تبهر بجدتها وجديتها في مجال هو مجال الإبداع الشعري. فكيف نوفق إذن بين اعتباطية العنوان، واتخاذه معتمدا لملامسة القصيدة بكل تلاحينها وتلاوينها؟ أليست القراءة من هنا قراءة اعتباطية لاعلاقة لها بالقصيدة؟ قد يذهب الرأي إلى هذا الطرح فيقر بوجوب صلة العنوان بالقصيدة صلة مباشرة، وقد يذهب إلى طرح آخر ومؤداه ما أشرنا إليه من انتفاء العلاقة بين العنوان والقصيدة بطريقة مباشرة، ومع ذلك تستطيع القراءة أن تتوصل إلى ما يروق من التحليل،
ويشوق من التأويل، مما له علاقة بعوالم القصيدة. كيف تنتفي العلاقة بين العنوان والقصيدة، ويدل العنوان في الوقت نفسه على هذه القصيدة؟ أليس هذا الذي نذكره تناقضا لا يستقيم في الرأي، ولا يتسق مع العقل؟ غير أننا عندما ندرك بأن القراءة في المجال الشعري لا تخضع للمنهج العقلي، ولا تقر بوجود ما يفطن إليه هذا العقل من التناقض لأنها قراءة فنية إبداعية، عندما ندرك هذا نؤكد أن العنوان، وإن كان ظاهره غياب العلاقة بينه وبين القصيدة، موصول بها في لا شعور الشاعر، وهو يكتب تحت تأثير الدفقة الشعرية التي لا تعترف بالسدود والقيود، وما هو من قبيل الضبط والتقنين. وتبقى حال ثالثة ومفادها وجود العنوان الذي له علاقة بالقصيدة، ولكن بطريقة إيحائية موحية. وفي هذا يمكن إدراج قصيدة (بلاغة الهدهد) للشاعر الجزائري نور الدين مبخوتي، وهي قصيدة قصيرة كثفت المعاني فيها تكثيفا قصارى ما يقال عنه وفيه أنه تكثيف دال بما في البلاغة الشعرية من الإشارة التي تغني السياق الشعري بلمحاتها، وتثريه بومضاتها. فما هي العلاقة في العنوان بين البلاغة والهدهد، وما هي الصلة بين هذا العنوان والقصيدة؟ إنه يبدو ولأول وهلة أن تركيب العنوان، من الوجهة النحوية الكلامية، تركيب إضافي، فإذا أضفنا إليه اسم الإشارة (هذه)
وهو من المعارف أصبح كالتالي هذه بلاغة الهدهد، فيكون التركيب من هنا تركيبا إسناديا من ناحية، وإضافيا من الناحية الأخرى. ويكون أيضا كلاما يحسن السكوت عليه في مجال هو مجال الفائدة، ويكون جملة دالة على ما فيها من المعاني، بما فيها من المباني، فإذا أضفنا فضلة تجد ذاتها في معنى الحال ازداد ما فيه من التمام تمام الفائدة هيئة تمثله بالصفة الحركية الفاعلة المنفعلة داخل السياق الكلامي، فيكون على هذا النحو، (هذه بلاغة الهدهد مفصحة عن ذاتها، مبلغة عن آياتها، في القصيدة). وبهذا تكون هذه القصيدة قد شارفت البلاغة، بل تكون هي البلاغة في الإشارة والعبارة، والصورة واللمحة. وإنما كانت كذلك لأنها ركزت في فنية من الإيجاز، وإيجاز من الفنية على مجال هو مجال الإبداع الكلامي الذي يحمل فائدة أولا، ويحمل ثانيا،وهو يؤدي هذه الفائدة في الجمال التأثيري، والتأثير الجمالي ما لا يوصف باللغة العادية، ولكن يشار إليه بلوازمه التي تجد وجهتها وشرعتها في عالم الكتابة. إن أول ما يلفت في العنوان، عنوان القصيدة، هو إلحاق البلاغة باعتبارها صفة ناطقة، وهيئة دالة، وفعلا مؤثرا، بالهدهد، وهو طائر ما أبعد البلاغة عنه، وما أبعده عن البلاغة بمعناها المتعارف عليه عندنا. فهل للهدهد بلاغة؟ بل هل للطير من القدرة الكلامية الجمالية ما به تقدر على التأثير والإيحاء؟ إ،ن هذا السؤال لا يفهم إلا في مجال هو مجال المجاز، والخروج عن المألوف، فهو إذن بما يملكه من الخروج العادي يكسب شرعته في المتخيل من القول عند الشاعر، وفي المعجز من الكلام، والمنطق،
والهيئة، والخروج على الناس بما لا يعرفونه في حياتهم اليومية، ولكنه كائن في القدرة وبالقدرة التي تبهرهم بما لها من القدرة على تحويل النواميس الكونية. وهي القدرة الإلاهية التي مكنت لسليمان من فهم منطق الطير، ومكنت للطير من أن تكون له لغة خاصة به ، بل مكنت الهدهد من أن يتكلم بما يجعله بمنأى عن غضب سليمان. ألم يجئ الهدهد سليمان من سبإ بنبإ يقين، كانت له آثار غيرت مجرى الأحداث بين الشام واليمن؟ إن الهدهد في هذا السياق إذن يمثل الوحي الإلاهي الذي يوحي إلى سليمان أولا، ويمثل القدرة على الانضباط في حضرة الملك والنبوة ثانيا، ويمثل ضوابط الرسالة الكلامية الموجزة التي تعطي ما فيها من المعاني بطريقة إعجازية معجزة. لقد رأى الهدهد ما رأى من آيات بلقيس وها هو ينقلها إلى سليمان، فتكون المواجهة بين ما يملكه سليمان وما تملكه بلقيس من القوى في المجال الحياتي، بل تكون الغلبة في نهاية المطاف للنبوة المعجزة التي تملك من القدرة والفاعلية والفعالية ما لا يملكه البشر فيما عهدوه من السيطرة على النواميس الطبيعية، أي ما لا يملكونه في مجال هو مجال خرق هذه النواميس بفعل الوحي والإعجاز.إن في الهدهد، أولا،
رمزا للوحي الإلاهي ومعادلا له في الكينونة الدينية، ولولاه لما عرف سليمان أن هناك في أقصى الجنوب عالما قد بلغ من الحضارة الأوج، وأدرك من التمدن الغاية، ولولاه لما كان ما كان من التحويل والتحول في المجال الحضاري. وإن فيه، ثانيا، إشارة موحية إلى الشاعر الطائر والطائر الشاعر الذي يرى بما يملكه من الرؤية، والرؤيا ، ما لا يراه الآخرون، بل يرى، وهو يحلق في الآفاق، من الأسرار والأخبار ما يتحول بقدرة سحرية إلى نظم تركيبي فني هو القصيدة بما فيها ولها من الأثر والتأثير حين التوحد بها والتداخل فيها.إن مكان الشاعر إذن في القمم العاليات، فإذا هبط إلى الأرض، أخبر عما شهده في هذه القمم من الرؤى والصور، وعلى هذا يكون وجوده هو التأرجح بين الصعود والهبوط في حال من الاتصال بالقدسي المقدس،وموضعه السماء، والعودة إلى ما هو ترابي وطيني، وموضعه الأرض، وبين السماء والأرض تتحدد هوية الشاعر وكينونته، فإذا أضفنا إلى هذا القدسي المقدس، ورود ذكر الهدهد في القرآن في علاقته بسليمان وبلقيس، اكتملت صورة الشاعر الذي وجوده الحقيقي بين الرؤية والرؤيا، ومهمته العليا في نقل هذه الرؤيا إلى الآخرين. إن الهدهد، في العنوان وبالعنوان، هو الشاعر،
والقرينة التي تشهد بشاعريته هي ، أولا، وجود البلاغة باعتبارها معطى لا يملكه إلا من ملك البيان آياته البينات، وهي، ثانيا، ما يتوافر عليه الهدهد من الألوان التي يزهى بها ويزدهي. وما الألوان في هذا السياق إلا إشارة بليغة موحية إلى جمالية المجال الذي يتفاعل معه الشاعر، وينفعل به حين الكتابة، وحين التلبس بالتجربة، وحين الطلوع على الناس بالصور المونقات، والفكر المورقات. فلماذا اختار الشاعر الهدهد رمزا للشاعرية المحلقة؟ لماذا لم يختر النسر طائرا جارحا يملك من القوة والجبروت في الآفاق ما لا يملكه أحد من الطير؟ لقد اختار بعض الشعراء ما كان من الطير ذا سعة من الجناحين رمزا للشاعر، واختار الشاعر، ها هنا، الهدهد، وهو طائر صغير اكتسب قدسية لورود ذكره في التنزيل إلى جانب سليمان، وهي قدسية أصلها من النبوة والوحي، نبوة سليمان، وكون الهدهد حاملا للرؤيا والرسالة على صغر حجمه. إن الشاعر إذن لا يملك إلا هذه الرؤيا بما فيها، ولها، ومعها، من الكشف والاكتشاف والتكشف وهو يحملها لأنه قوي أمين عليها، وهو يؤديها كما هي في بلاغة من الجمال، وجمال من البلاغة، لأنه أوتي في الأزل من الإحساس بالجمال، ما يمكن له في هذه البلاغة تمكينا لا مزيد عليه، فما هي إذن هذه البلاغة التي كانت له، وكان لها. إن البلاغة تتجه ،كلا، في اتجاهين اثنين
الأول، وهو الاتجاه الذي تكون فيه مبلغة للخطاب بطريقة فنية جمالية.
والثاني، وهو الاتجاه الذي تكون فيه غاية في ذاتها، ولا أثر فيها للخطاب في الظاهر، ولكننا إذا استغورنا الأغوار وجدنا ما يصلح لأن يكون مضمونا معلوما بنعوته، موسوما بصفاته، وعلى هذا يكون الاتجاه الأول هو اتجاه المباشرة في أداء الخطاب، ويكون الاتجاه الثاني هو اتجاه الفنية الجمالية والجمالية الفنية. ولقد اختار الشاعر نور الدين مبخوتي الاتجاه الثاني، وهو الاتجاه الذي يحظى منه باليقين الشعري في مجموعه(سلاسل الورد). وإذن فبلاغته هي بلاغة الغاية لا الوسيلة. ذلك بأن الاتجاه الأول يرمي، فيما يرمي، إلى توصيل الخطاب في الجميل من التعبير، والموحي من التصوير، في حين أن الاتجاه الثاني يتخذ من القصيدة غاية في ذاتها، فهي المقصودة، كلا، فيما تملكه من الروعة التي تروع ببدائعها الباهرات، وتعجب بروائعها القاهرات. ولقد أدركت، وأنا أقرأ (سلاسل الورد)، بل وأنا أقرأ قصيدة (بلاغة الهدهد)، أني مع شاعر تملكه الشاعرية، ويملكها في الإبداع الذي يروق ويشوق بما فيه من الأهواء والأصداء والأنداء التي كلما دخلت عليها، وجدت عندها معنى من المعنى في عبارة من الإشارة،وإشارة من العبارة لا يفقهها، بل لا يصلاها إلا الشاعر الذي شرب من العسل الأفلاطوني، فجاء بالجميل من البيان، والجليل من اللسان، في قدرة ملمومة هي له فيما له من الحضور الشعري.
ما هي هذه البلاغة التي أضيفت إلى الهدهد أو نسبت إليه، أي ما هو الخطاب الذي جاء به الهدهد في جمالية من الفنية وفنية من الجمالية؟ إنه، أولا ، لا يمكن تصور مفهوم للبلاغة من غير خطاب تحمله، أو رسالة تؤديها. وفي الحال التي تكون فيها البلاغة هي الغاية في ذاتها، أي تكون هي ما يريده الشاعر من الحضور الجمالي داخل القصيدة يكون المعنى حاضرا فيها، مطلا منها، على القارئ الذي يملك من القدرة على التحليل والتأويل، أي القدرة على القراءة، ما به يتمكن في الانعطاف على النص والتعاطف معه، من أن يستنبط من الرؤيا ما يكون في البدء متأبيا على الظهور، مستخفيا من الحضور، في عشق لذاته بالبلاغة وفي البلاغة. غير أن هذه البلاغة في انسيابها وانثيالها الفنيين، لا يمكن أن تتصور من غير حضور للفصاحة، ذلك بأن الهدهد ينبغي أن يكون فصيحا، قبل أن يكون بليغا. ولقد كان الجمع في التنزيل بين الفصاحة والبلاغة حاضرا، حين حديث الهدهد إلى سليمان عما رآه من ملك بلقيس. كانت الفصاحة في وضوح الخطاب، وكانت البلاغة في إيجاز هذا الخطاب. وهو الإيجاز الذي يحمل في ذاته من المعاني ما ينبئ عن ثراء الحضارة اليمنية، وبذخها ومجدها وبأسها. إنه إذن لما كان الإيجاز واجبا في حضرة سليمان، كانت البلاغة الموحية في القصر، وكان القصر الدال في البلاغة، وكان ما كان من رد سليمان في بلاغة الإيجاز وهو يوجه رسالة إلى بلقيس. يتبين من هذا أن الفصاحة والبلاغة في السياق الكلامي من جهة، والسياق الشعري من الجهة الأخرى، فضاء واحد ينبغي أن ينظر إليه في كليته في حال القراءة المسموعة، والإنشاد الموقع، وفي حال القراءة الصامتة. وفي الحالين معا تكون قدرة المتكلم أولا والشاعر ثانيا على الإفصاح والإبلاغ والتبليغ، بما يؤثر من جميل اللفظ، وجليل العبارة، قائمة بارزة، غير متوارية ولا متخفية. ولما كان ذلك كذلك، كان البلاغ الفني بصفة عامة، وكان النص الشعري بصفة خاصة،
عملا إبداعيا كاملا متكاملا، تتعانق فيه الفصاحة والبلاغة وتتعالقان في سياق واحد من أداء الخطاب بطريقة جمالية. وفي الحال التي يكون فيها البلاغ أو يكون النص هو المخصوص بالجمالية، أي هو الغاية بل هو الغائية، فإن الرسالة التي يريد المبدع إيصالها لا تغيب، ولكنها تحتاج من القراءة إلى كثير من الجهد اللذيذ في تعرف الأسرار، ووفرة من القدرة الممتعة على تكشف الأخبار، فيكون التحليل والتأويل ماثلين في هذه القراءة التي تكشف من بدء الخطاب إلى نهايته عما وراء الكلمات، والإيقاعات، والألحان والألوان، والصور والإيحاءات، من المعاني والمجاني. ولقد أشرت من قبل إلى أن الشاعر نور الدين مبخوتي، اختار اتجاه الجمالية الفنية، والفنية الجمالية الذي فيه وبه ومعه تصبح القصيدة هي ما يطمح الشاعر إلى تكوينه وتركيبه في أجمل هيئة، وأحسن صورة، وأبدع شكل. وفي هذا تتحقق البلاغة في أكمل معانيها، وأجمل مبانيها. أليست البلاغة من البلوغ، بلوغ الغاية والمنتهى من الجمالية الفنية، والفنية الجمالية؟ إن مرد هذه الفنية وتلك الجمالية في القصيدة إلى وجود المرأة النجلاء التي فجرت في الهدهد، وهو يفصح عن خطابه، مكامن هذه البلاغة، فلولاها لما كانت هذه البلاغة بسماتها، ونعوتها، وإيحاءاتها، وإيقاعاتها. وفي هذا يلتقي الهدهد في القصيدة بهدهد سليمان، وتلتقي المرأة النجلاء ببلقيس. أليست بلقيس هذه هي التي بهرت الهدهد بما عندها ولديها من الجمال والجلال فكان أن غاب عن ركب سليمان نتيجة انغماره في هذا الجو من العظمة الخارقة للمألوف، ثم كان أن خف إلى إخبار سليمان بما رأى؟ إن هناك ، إذن، مواجهة للجليل من المواقف، والجميل من الرؤى، ومحاولة لضبط هذا الجميل وذلك الجليل، في فصاحة وبلاغة، بل في بلاغة موحية، وإيحاء بلاغي. ولقد اختار الشاعر نور الدين مبخوتي رمزا من الطير مقدسا هو الهدهد ليدل به على الشاعر. وليس يخفى في هذا الاختيار ما هو قائم من العلاقة بين بلاغة الشاعر وبلاغة الهدهد، وهو في حال من الانبهار والاندهاش يتكلم بمنطق الطير في جو من الجمالية الفنية والفنية الجمالية. وإذا كانت بلاغة الهدهد في هذا الذي ألمعنا إليه، من محاولة تسويغ الغياب بشكل مقنع وفني، فإن بلاغة الشعر هو ما أشارت إليه القصيدة من الخطاب، بل هو القصيدة كلها فيما لها من الإيحاء، وما فيها من الإيجاز، وما لديها من الإشارة، وما عندها من العبارة، في سياق من المعاناة، ومساق من المكابدة.
نور الدين مبخوتي شاعر جزائري
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب مجتمع