-1- سأفترضُ أن (قصيدة النثر) فوق التصنيف البليد: شِعر/ نثر.  لكن التصنيفيِّين سيفرضون عليها، وعلينا، هذه «القِسمة الضِّيزَي»، لحشرها في قالب «الشِّعر».. «خبط لزق»!  ليُثبتوا بذلك أن دعوَى التحرُّر، والرؤية التجاوزيَّة، في أذهانهم، مجرد «دعوَى»، تفشل في التحقُّق عند الفحص والنقاش.  فلا يبقى عندئذٍ إلَّا الاعتراف بأنهم تقليديُّون، حتى النخاع، وأنهم «عبيد شِعر» محدثون- ولا مدرسة زهير والحطيئة!- لولا أنها لم تُسعفهم مواهبهم ليكونوا شعراء، وَفق عقيدتهم الثابتة في أجمل الأدب، فأرادوا أن يُحافظوا على عقيدتهم، وإنْ من خلال العبث الاصطلاحي.
-2-
وأنت لو استعرضت ما يُقدَّم إلى القارئ العربي، تحت عنوان «شِعر»، من خلال «كتاب في جريدة»، على سبيل المثال، أو وقفت على ما يُترجم للآخَر، الغربيّ أو الشرقيّ، تحت شعار «مختارات من الشِّعر العربي الحديث»، لاتضحت لك مداراتُ اللعبة الجارية، وحجم التيَّار الإقصائيّ فيها الذي يعصف بالشِّعر العربيّ الأصيل، وإلى أيِّ مدى أصبح أيُّ كلامٍ يُدعَى شِعرًا.  وسيُدرك كلُّ منصفٍ أنه- باستثناء نماذج قصيرة، يؤتَى بها هنا وهناك، على سبيل ذرِّ الرماد في العيون، لشعراء حقيقيِّين، وإنْ كانوا قد تُوفُّوا منذ سنين، لأنهم كانوا على الهوى الفكريّ نفسه لمقترفي تلك الأعمال، وإنْ اختلفوا عنهم فنيًّا- لا تُوْرَد قصيدةٌ عربيَّةٌ واحدة لشاعرٍ ليس على وفاق مع «حزب الكَنَبَة الشِّعريَّة» فكريًّا، أو كان لهم صديقًا حميمًا؛ لا فكاك لهم منه ولا مفرّ.  ومصطلح «حِزب الكَنَبَة»، الذي جاء من التعبيرات الطريفة للثورة المصريَّة المجيدة، التي عصفت بأرباب «الكَنَبات» من الديناصورات الخالدة، يُمكن للثورات العربيَّة، إنْ صَدَقَتْ، أن تتعرَّف على قطاعات شتَّى ذات «كَنَبات»، هي أخطر من «الكَنَبات» السياسيَّة أو الاقتصاديَّة. وهي «كَنَبات» تاريخيَّة متجذِّرة العروق في أحشاء العالم العربي.  بل هي التُّربة الأُمّ التي أنبتت «الكَنَبَ» الأخرى، والكَذِبَ المرفرف فوق أكتادها.  وأعني: «الكَنَبات الثقافيَّة»، وأحزابها. 
وهكذا سيلحظ المتابع أن بعض الإصدرات العربيَّة الأخيرة- في دول الخليج نموذجًا- تحت تلك العنوانات الفارهة باسم الأدب في دول الخليج، أو في دولةٍ منه، قد أُصِرَّ على أن يأتي ما لا تقلّ نسبته عن 80% من مختاراته مقصورًا على الفِرقة الناجية، من ذلك النوع من الخواطر، والجذاذات النصوصيَّة، وما قد يُشبه بعضُه القِصص القصيرة جدًّا، أو في أحسن الأحوال ما يبدو محاولاتٍ شِعريَّة مبتدئة.  هكذا- وبكلِّ بساطةٍ، وبلا ضميرٍ أخلاقي، ولا موضوعيَّةٍ عِلْميَّة، ولا احترام مهني- ليسمَّى ذلك: «ديوان الشِّعر العربي الحديث»!  أو «أصوات جديدة من جزيرة الهنولولو»!  وحين تقرأ متسائلًا: أ ولم يك غير هؤلاء في الساحة خلال القرن العشرين، أو الحادي والعشرين؟!  ستصاب بالخجل من ثقافتك، ومن القائمين عليها، ومن هذا الواقع المريض، وممَّن يُتيح له أن يستشري ليعيث فسادًا، منذ عقود.  وإنْ كان ما تسمِّية تلك الجماعات المتغوِّلة ثقافيًّا مِن ممخرقاتها بتلك الأسماء الفارغة لا يعدو شواهد تاريخيَّة على عقولها، ونزاهتها، وموضوعيَّتها، وحرِّيتها، وإيمانها بالتعدديَّة على المستوى الثقافي أو الأدبي.  أمَّا التحيُّزات القسريَّة لتكريس الهابط من الشِّعر، فسيعصف بها التاريخ الباقي للشِّعر العربي!  ولو أن هؤلاء استحوا، ولو قليلًا، فسَمَّوا ما يُصدرون، مثلًا: «قصيدة النثر في الفترة كذا»، أو «نماذج من الشِّعر الحديث في الفترة كذا»، أو نحو هذه من العنونات، المطابقة، أو المقاربة، لطبيعة تلك النصوص، لكان الأمر مقبولًا منهجيًّا، وربما فنِّيًا.  إلَّا أنه الإصرار، كما يبدو، على إلغاء الشِّعر العربيّ إعلاميًّا، وطمس حضوره من التاريخ الحديث، وإحلال «النثر»، أو ما هو أشبه بالنثر، محلَّه.  هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ثمَّة مسعى مسعور لابتزاز الحقيقة الأدبيَّة لمصالح ثُلَلِيَّة، وحسابات شخصيَّة، وروابط قلميَّة، تجاريَّة، تُمسك منذ عقود بالإعلام والثقافة- وربما بالمال أيضًا- في آن.  وهذا أقصى ما يمكن أن يتهيَّأ للفساد الثقافي من وسائل لممارسة غيِّه وعبثه، وتزوير الواقع والتاريخ. 
-3-
أمّا على صعيد الترويج- المدَّعَى «نقدًا»- لهذا التيَّار المتطرِّف أو ذاك، فيأتي ضمن أدبيَّاته تضخيم التحوّل الشِّعريّ الجذريّ إلى قصيدة النثر. فتترامَى الكلمات عليك للقول: إنها إنما وُلدت اليوم لضرورات اجتماعيَّة أكسبتها شرعيَّتها، وأنها إفرازٌ حديث يلبِّي حاجةً ثقافيَّةً، ما كان عنها من محيص، ولو لم توجد قصيدة النثر لاستعجمنا، ولعَيَّت بنا سُبل التعبير عن إيقاعنا العصريّ!  ويا لها من ثورةٍ أفرزت أخرى! غير أن الواقع الذي لا يُنكره إلَّا متجاهل، أو مغالط، أن حركات الأدب في الغرب إنما تأتي مصاحبة لتحوُّلات فلسفيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وحضاريَّة كُبرى، ومن ثَمَّ فإن تلك الحُجَّة حول «إيقاع العصر»، الذي لا سبيل لمواكبته إلَّا بإسقاط «إيقاع الشِّعر»، ما هي إلَّا ترجمة لما يمكن أن يَصْدُق هناك، في الغرب، عمومًا، لا هنا.  كما أن الواقع الذي لا يُنكره إلَّا متجاهل، أو مغالط، يشهد أن هذا النوع الكتابيّ قد وُجِدَ منذ القِدَم في التراث العربيّ، وكان إفرازًا كذلك، ويُلبِّي حاجات إنسانيَّة، غير أن موطن الخلاف هو في تسميته الآن بغير اسمه، ونَحْلِه اسم جنسٍ أدبيٍّ آخر مستقرٍّ، له رصيده التاريخيّ، وأعرافه الفنِّيَّة، وقوانينه الذوقيَّة، التي تمثّل (الرصيد الفنِّي Repertoire)، أو (الذخيرة المرجعيَّة)، بحسب نظريَّة (فولفجانج آيزر Wolfgang Iser) في «التلقِّي».  فالشرعيَّة الوجوديَّة لقصيدة النثر، إذن، غير جديدة، بل قد تكون أقدم من الشِّعر العربيّ نفسه. وهي إنما كانت تمثِّل حَبْوَ اللغة نحو اكتساب درجةٍ من التأثير الشعوريّ، الخارق لأعراف اللغة الاعتياديَّة، حتى تكثَّف حضورها على نحو بارز في كتابات شاعريَّة لدى أمثال ابن عربيّ، والنفَّري، وإخوان الصفا، وغيرهم.  وأنت واجدٌ في نصوص هؤلاء من الشِّعريَّة أضعاف ما في أرقى نماذج ما يسمّى قصيدة النثر العربيَّة حتى الآن. ومع ذلك كان أولئك القُدماء يحترمون الاستقلال في مقوِّمات كلّ جنسٍ أدبيّ، غير مهووسين بلقب (شاعر)، مقدِّرين أن الخلفيَّة المرجعيَّة في تاريخ الجنس الأدبيّ أساسيَّة في تقبّل النصّ، وحاسمة في استجابات القرّاء، مهما كان النصّ منزاحًا أو متجاوزًا؛ لأن الانزياح الأدبيّ والتجاوز الفنِّي لا يعنيان، بحال من الأحوال، نفيَ طبيعة الجنس الأدبيّ ذاتها عن طبيعتها.  ولذلك لم يسمِّ أولئك الكُتَّاب نصوصهم شِعرًا قط، كما يحلو لبعض معاصرينا أن يفعلوا، عجزًا وجهلًا، أو تمحُّلًا وتفلسفًا فارغًا!  ومن هذا المنطلق، فإن شرعيَّة قصيدة النثر شرعيَّة وجوديَّة.  وبوسعها أن تكون إضافةً جميلةً في سيرورة النصوصيَّة العربيَّة.  بل منها ما بوسعه أن يصبح أعظم جماليَّة من «الشِّعر»، لو انعتق أهلوه من فتنة التصنيف، وغواية الشِّعر والشُّعراء.  إلَّا أنه لا يحقّ لقصيدة النثر و«قاطنيها!» أن تدَّعي ما ليس لها، وليس منها، ناهيك عن أن تستمدَّ شرعيَّتها من نزعةٍ إلغائيَّةٍ لشرعيَّات أُخَر؛ وذلك بالإتيان بتصنيفات تحلّ محلَّ أخرى، تبعًا لتصنيفات أجناسيَّة قاصرة.  ولقد يصعب على بعض العقليَّات الدوغمائيِّة التصديق أنها «قاصرة»؛ لا لشيء إلَّا لأنها «غربيَّة»، وكلُّ غربيّ كامل في نظرها، لا يأتيه الباطل!  وهي لا ترى ذلك، ولا تنفعل له، إلاّ عن تقليدٍ بارد، يمتثل، ويتماثل، ولا يرى كينونته إلَّا في مرآةٍ تعكس سحنة غيره! 
وبناء عليه، فإن القول بأن ما حَدَث من خلال قصيدة النثر هو تجديدٌ أو تطويرٌ للشِّعر العربي، هو محض افتراء، يرقَى إلى أن يُتوَّجَ: تدجيلًا نقديًّا، ومعرفيًّا، استمرَّ مريره، وقد آن أن يرعوي الوَسَن!  فما من تجديدٍ حَدَث، ولا من جديدٍ وَقَع؛ كلّ ما هنالك محاولاتٌ في إطار محاكاةٍ خالصةٍ لشيءٍ آخر.  وهي محاكاةٌ لا لنصوص نثريَّة- لها نظائرها لدى العرب منذ العصر الجاهلي- فحسب، بل محاكاة لمصطلحات (الآخَر) أيضًا؛ لتسمية تلك النصوص النثريَّة بغير أسمائها؛ كيما نُمسي ونصبح وقد صار الناس جميعًا يُسمَّون: «شعراء»، وقد صار كلّ كلامٍ هلاميٍّ تهويميٍّ يُدعَى: قصائد!  أ ويصحّ أن يسمَّى نصٌّ «شِعرًا» فقط لأنه يشترك مع الشِّعر في كثافة المجاز؟!  هنالك يُنسف الشِّعر من جذوره: مفهومًا معرفيًّا (بالمعنى الإبستمولوجيّ للمفهوم، Paradigm)، وتسميةً، وماهيَّة.  (ولله في خلقه شؤون)!-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «حِزب الكَنَبَة الشِّعريَّة الحديثة!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12160، الثلاثاء 16 أكتوبر 2012م، ص28].
 

المراجع

almothaqaf.com

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع