للنص القرآني خصوصية متفردة في شتى أركانه وفي جميع نطاقات عمله ، في تراكيبه وجمله ، في كلماته ومفرداته ، في سوره وآياته ، في نظمه ، في رسمه ، في تقسيم الآيات ، في فَصْله ووصْله ، في بلاغاته ، في نهاية آياته ( فواصله ) ، في كل ما يتعلق به . هذا التفرد والتميز لابد من البحث في وسائله وسبله ، للوقوف على نطاقات الإعجاز فيه ، ومدارات الخصوصية لهذا النص الفريد .ومن بين هذه الإعجازات ، الإعجاز في توظيف الفواصل القرآنية ، تلك الفواصل التي تحوي ألواناً إعجازية ودلالية بالغة الجمال ، ورائقة السياق مما يمنحها رخصة الاشتراك في الإسهام في منظومة الإعجاز القرآني بكل تأكيد وفاعلية .
هذا وقد تعددت تعريفات الفاصلة القرآنية كما يلي :
ففي الاصطلاح اللغوي لها : الفصل : بونْ ما بين الشيئين . والفصل من الجسد : موضع المفصل ، وبين كل فصلين وصل . والفاصلة : الخرزة التي تفصل بين الخرزتين في النظام . وعقد مفصل أي جعل بين كل لؤلؤتين خرزة . الفصل : القضاء بين الحق والباطل . والتفصيل : التبيين (1) .
ويعد الخليل بن أحمد الفراهيدي أول من أشار للمصطلح كما هو إذ يقول : " سجع الرجل ؛ إذا نطق بكلام له فواصل كقوافي الشعر من غير وزن كما قيل : " لصّها بطل ، وتمرها دقل ، إن كَثُرَ الجيش بها جاعوا ، وإن قلوا ضاعوا " (2). فهو هنا يشير إلى ( الفواصل ) الكلامية غير الموزونة ، ويدخل فيها بالطبع الفواصل القرآنية .
وخلاصة الرأي اللغوي فيما يخص الفاصلة ، أنها الفصل بين شيئين متصلين ، ويدور ذلك المعنى في ثنايا التخريجات اللغوية . أما الفاصلة في الاصطلاح فتعددت تعريفاتها بتعدد مشارب العلماء ، ومن هذه التعريفات :
ما يراه الرماني ( ت386 هـ) من أن " الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع ، توجب حسن إفهام المعاني ، والفواصل بلاغة ، والأسجاع عيب ، وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني ، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها " (3) .
فهو هنا يؤكد على دور الفاصلة في المعنى ، بالإضافة إلى دورها في الإيقاع المتولد من المقاطع المتشاكلة . إلا أن كلمة الرماني ( والأسجاع عيب ) جعلته مقصدا للنقد خاصة من جانب ابن سنان الخفاجي الذي رأى في هذا الرأي تعميما غير مقبول ، فرد على الرماني بقوله : " أما قول الرماني : إن السجع عيب ، والفواصل بلاغة على الإطلاق فغلط ، لأنه إن أراد بالسجع ما يكون تابعا للمعنى ، وكأنه غير مقصود ، فذلك بلاغة ، والفواصل مثله . وإن كان يريد السجع ما تقع المعاني تابعة له وهو مقصود متكلف فذلك عيب ، والفواصل مثله " (4) . فالخفاجي في رده هذا إنما يحفظ للمبدع حقه ، ويصون النص القرآني عما قد يظنه ظان من التشابه بين فواصله وأسجاع المتكلمين .
والباقلاني يعرف الفواصل بأنها : " حروف متشاكلة في المقاطع ، يقع بها إفهام المعاني " (5 ) .
وأبو عمرو الداني ( ت444هـ) يجعل الفاصلة : " كلمة آخر الجملة " (6) .
ويعود الداني ليفرق بين ( الفاصلة ) و ( رؤوس الآي ) بقوله : " أما الفاصلة فهي الكلام المنفصل مما بعده ، والكلام المنفصل قد يكون رأس آية ، وغير رأس . وكذلك الفواصل يكن رؤوس آي وغيرها . وكل رأس آية فاصلة ، وليس كل فاصلة رأس آية . فالفاصلة تعم النوعين ، وتجمع الضربين " (7) .
ونلمح هنا أن الداني يؤكد على مبحث " الوقف " القرآني ، فقد يكون الوقف داخل آية ، فهو عندئذ ليس بفاصلة . أما إذا انتهت الآية ، فالفاصلة هنا رأس آية . إذن الفاصلة عنده على نوعين هما :
1 – فاصلة داخلية : تقع في داخل الآيات ، وهي خاضعة لأحكام الوقف والابتداء .
2 – فاصلة خارجية : وهي ما يسمى عنده ( رأس الآية ) ، وهي خاتمة الآية .
ويرى الزركشي أن "الفاصلة هي كلمة آخر الآية،كقافية الشعر،وقرينة السجع" (8) . ويضيف الزركشي إلى هذا التعريف رأيا يوضح فيه موضع ومقام الفاصلة إذ يقول : " تقع الفاصلة عند الاستراحة بالخطاب لتحسين الكلام بها . وهي الطريقة التي يباين بها القرآن سائر الكلام ، وتسمى فواصل ، لأنه ينفصل عندها الكلام ، وذلك أن آخر الآية فصل بينها وبين ما بعدها أخذا من قوله تعالى: ) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ((9 ) ولم يسموها أسجاعا ، ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعا " (10) .
إن مقصد الزركشي هنا هو الإشارة إلى كون الفاصلة حالة خاصة بالنص القرآني وأحد نطاقات إعجازه وتميزه وتفرده عما سواه . والواضح الجلي من هذه التعريفات السابقة هو اتفاقها على :
1- كون الفاصلة هي خاتمة الآية وآخرها .
2- كون الفاصلة متشاكلة المقاطع إيقاعاً .
3- لها دور في تحسين الكلام ، وهذا هو جوهر عملها .
والسؤال الآن : كيف يمكننا معرفة الفاصلة القرآنية ؟! والإجابة عند السيوطي في كتابه ( الإتقان ) إذ ينقل لنا من كتاب " أحكام الرأي في معرفة فواصل الآي " للجعبري الذي ضاع ولم يصلنا ، ونقل منه السيوطي نصوصا ، هي ما بين أيدينا في كتاب " الإتقان في علوم القرآن " .
ينقل السيوطي لنا طريقتين لمعرفة تواصل الآيات هما : الأولى : توفيقية : أي ما ثبت من كونه r وقف عليه ، فتحقق أنه فاصلة بلا شك . من ذلك ما رواه أبو داود عن أم سلمة لما سئلت عن قراءة رسول الله r قالت : " كان يقطع قراءته آية آية . وقرأت :( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ) (11 ) .
والمستفاد من الحديث السابق هو كون فعله r هو المحدد للوقف في النص القرآني . أما الطريقة الثانية ؛ فهي قياسية ؛ أي اتباع أحكام الوقف في النص القرآني . لكن ليس كل وقف في القرآن ( فاصلة ) ، فالقرآن كله مبني على الوصل لا الوقف والفصل ، ومن ثم كان لابد من طرق ووسائل لمعرفة القياسي من الفواصل . هذه الطرق والوسائل تنبع من النص القرآني ذاته ، إذ يقاس على المنصوص عليه ، فيلحق به ، وذلك للمناسبة ، ولا شيء في ذلك . ولذا سميت هذه الطريقة ( بالقياسية ) .
أنواع الفواصل القرآنية :
تتنوع الفواصل القرآنية بحسب مداخل خمسة هي (12) :
1- أنواعها من حيث حرف الروي ( الحرف الأخير من الفاصلة ) .
2- أنواعها من حيث طول الفقرة المبنية عليها .
3- أنواعها من حيث موقع الفاصلة .
4- أنواعها من حيث مقدارها من الآية .
5- أنواعها من حيث الوزن .
ونفصل القول في كل مدخل على حدة كما يلي :
أولاً : أنواع الفواصل من حيث حرف الروي :
الروي هو الحرف الذي تبنى عليه القصيدة وتنسب إليه . والروي يلتزم بعينه في سائر أبياتها . يقول ابن رشيق : " حرف الروي الذي يقع عليه الإعراب ، وتبنى عليه القصيدة ، فيتكرر في كل بيت وإن لم يظهر فيه الإعراب لسكونه " (13) .
هذا في جانب الشعر ، أما في النص القرآني فلم تلتزم الآيات حرف روي واحد ، وإنما كان تنوعها من مناطات إعجازها . وقد تنوعت الفاصلة القرآنية حسب حرف الروي إلى ثلاثة أنواع هي :
1- المتماثلة (14 ) : وهي التي تماثلت حروف رويها ، مثل قوله تعالى : ) وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رِقٍّ مَنْشُورٍ( سورة الطور الآيات ( 1 ، 2 ، 3 ) .
2- المتقاربة (15) : وهي المبنية على حروف متقاربة المخارج صوتيا ، مثل قوله تعالى : )الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّين (سورة الفاتحة الآيتان ( 2 ، 3 ) ( فالميم ) و( النون) متقاربان في المخرج .
3- المنفردة : وهي نادرة ، فلم تتماثل حروف رويها ، ولم تتقارب ، مثل : فاصلة آخر آية في سورة الضحى ، قال تعالى: ) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( سورة الضحى آية (12) . فهي على حرف ( الثاء ) وما قبلها على حرف ( الراء ) فلا تماثل ولا تقارب هنا .
ويلاحظ أن أغلب فواصل القرآن على النوعين الأول والثاني من حروف الروي . ويرى د . محمد الحسناوي أن : " الفواصل المتماثلة تشيع في الآيات والسور المكية ، على حين تغلب المتقاربة على الآيات المدنية " (16 ) . ولعل مرد ذلك هو تحقيق الجذب الإيقاعي والموسيقي عن طريق هذا التماثل في الفواصل في صدر الإسلام ، ليحقق هذا الإيقاع نوعا من الإبهار ، ومن ثم يذوق الكفار حلاوة النص،فيدخلوا في دين الله أفواجا .
ثانياً : نوع الفاصلة من حيث طول الفقرة :
يقصد بالفقرات في القرآن ( الآيات ) ، وهي على ثلاث أنواع (17) :
1- قصير موجز : وهو ما يتكون من لفظ واحد ، أو من عدد من الحروف كقوله تعالى :)الرَّحْمَنُ (الرحمن آية (1) ، و)الْحَاقَةُ( الحاقة آية (1) ، و)ألَم( البقرة آية (1) .
2- متوسط معجز : وهو ما تكون من لفظين ، مثل قوله تعالى : )وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى( سورة النجم الآيتان رقم ( 1 ، 2 ) .
3- طويل مفصح مبين : وهو بقية آيات القرآن ، إذ قد تصل آية ما إلى ( عشرين لفظا ) مثل قوله تعالى : )وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( هود( 9 ، 10 ) .
ثالثاً : نوع الفاصلة من حيث موقعها :
ويقصد بموقع الفاصلة هنا أن هناك كلمات في الآية تتشاكل وتتماثل مع الفاصلة الأخيرة فيها . هذا التماثل يمنح هذه الكلمات الداخلية صفة ( الفاصلة الداخلية ) . وعلى هذا الأساس تقسم الفاصلة إلى :
1- الفاصلة الداخلية : وهي ما يسميها البلاغيون مثل ابن حجة ( بالتشريع ) ومعناها : أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان العروض ، فإذا أسقط جزءاً أو جزئين صار الباقي بيتا من وزن آخر (18) .
2- الفاصلة الخارجية : وهي مناط الفائدة ، ومحور الآيات .
وتقسم الفاصلة الداخلية قسمين هما :
الأول : داخلية متماثلة ، مثل قوله تعالى : ) فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ( سورة الروم آية ( 7 ) ، فالتماثل هنا واضح بين الفاصلة الداخلية ( تمسون ) والفاصلة الخارجية ( تصبحون ) من حيث الاتفاق في حرف الروي ( الواو والنون ) .
والثاني : داخلية متباعدة ، وعليها قوله تعالى : )اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( سورة المائدة آية رقم (101) ، فالفاصلة الداخلية هنا ( العقاب ) غير متماثلة تماما مع الفاصلة الخارجية (رحيم) .
رابعاً : نوع الفاصلة من حيث مقدارها من الآية :
والمقصد هنا يقوم على كون الفاصلة آية أو بعض آية وعليه بقية آيات القرآن . ويمكن أن ندمج هذا النوع في النوع الثاني المتعلق بتقسيم الفاصلة حسب طول الفقرة ، إذ أنهما يتمحوران حول جزئية متحدة لا جديد في هيكلها .
خامساً : نوع الفاصلة من حيث الوزن :
وهذا النوع ينحو منحى التقسيم الوارد في السجع ، وخاص به . لكننا هنا لا نمنع إقامة الفواصل على مثل هذا التقسيم إمعانا في إثبات تفرد القرآن على غيره ، واشتماله على ما في كلام العرب ، بل وزيادة عليه . وتقسم الفاصلة حسب الوزن إلى (19) :
1- المطرفة : وهي ما اتفقت في حروف الروي لا الوزن ، مثل قوله تعالى : ) مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ( سورة نوح الآيتان ( 13 ، 14 ) فالكلمتان ( وقارا ) و ( أطوارا ) متفقتان في (الروي) ومختلفتان في (الوزن) فالأولى على (فَعَالا) والثانية على ( أفْعَالا ) .
2- المتوازية : وهي ما اتفقت في حروف الروي والوزن ، مثل قوله تعالى : ) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ( الغاشية ( 13 ، 14) ، فالكلمتان ( مرفوعة ) و( موضوعة ) متفقتان في حرف الروي والوزن .
3- المتوازنة : وهي ما اتفقت في الوزن دون حرف الروي ، مثل قوله تعالى : ) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيّ مَبْثُوثَةٌ ( سورة الغاشية الآيتان ( 15 ، 16 ) ، فالكلمتان ( مصفوفة ) و ( مبثوثة ) متفقتان في ( الوزن ) على وزن ( مَفْعُولة ) دون حرف الروي فهما مختلفتان فيه .
4- المرصعة : وهي تقابل الآيتين بكل مفرداتهما واختلافهما . فالأساس هنا لابد وأن يشتمل على تقابل ( الوزن ) و( التقفية ) و( الدلالة ) ، وعليه قوله تعالى : )إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( سورة الغاشية الآيتان رقم ( 25 ، 26 ) فالتشريح التركيبي يجعل شكل الآيتين هكذا :
( إن / إلينا / إيابهم ) .
( إن / علينا / حسابهم ) .
( إلينا ) مقابل ( علينا ) وزنا وقافية ، و( إيابهم ) مقابل ( حسابهم ) وزنا وقافية .
5- المتماثلة : وهي أن تتساوى الآيتان في الوزن دون التقفية ، وتكون مكونات كل آية مقابل الأخرى وزنا وقافية ، مثل قوله تعالى : )وَأَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ المُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ( سورة ص الآيتان رقم (117 ، 118 ) فكل مفردات الآيتين على الوزن نفسه دون القافية . تلك هي أنواع الفاصلة من حيث الوزن .
كان ما سبق مدخلا طبيعيا للحديث عن " التقديم والتأخير في الفاصلة القرآنية " فقد أحصينا في ( حزب المفصل ) سياقات " التقديم والتأخير " في الفواصل القرآنية في الحزب ، وصنفنا هذه الإحصاءات إلى أصناف تسهل عملية استخلاص الدلالات المنتجة من وراء هذا التوظيف البلاغي .
ونستخلص بعض الدلالات من هذا الإحصاء ، تتمثل فيما يلي :
أولاً : ورد " التقديم والتأخير " ملابسا لسياق الفاصلة القرآنية في ( حزب المفصل ) في ( 402 أربعمائة وآيتين ) فقط من جملة آيات الحزب ، بنسبة ( 25.4% ) أي ( ربع ) آيات الحزب ، وهي نسبة مرتفعة إذا ما اطردت في سائر سياقات النص القرآني وتم إحصاؤها .
ثانياً : تتوزع هذه المواضع التي لابس فيها " التقديم والتأخير " الفاصلة القرآنية إلى ( 21 واحد وعشرين نوعا ) ، يمثلها الجدول التالي :
م
نوع التقديم والتأخير
العدد
1
الابتداء بالنكرة
14
2
تقديم الخبر على المبتدأ
56
3
تقديم خبر كان على اسمها
13
4
تقديم خبر إن على اسمها
19
5
تقديم المفعول به على الفاعل
34
6
تقديم المفعول به على الفعل
9
7
تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول
15
8
تقديم المفعول المطلق على الفاعل
5
9
تقديم المفعول المطلق على الفعل
1
10
تقديم الحال على عاملها
10
11
تقديم النعت على منعوته
2
12
تقديم الظرف على المفعول به
2
13
تقديم الجار و المجرور على المتعلق به
53
14
تقديم الجار والمجرور على المفعول به
52
15
تقديم الجار والمجرور على الحال
5
16
تقديم الجار والمجرور على المفعول المطلق
8
17
الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور
14
18
الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور
53
19
الفصل بين الصفة والموصوف بالجار والمجرور
7
20
الفصل بين اسم كان وخبرها
12
21
الفصل بين اسم إن وخبرها
18
المجموع :
402
جدول رقم ( 1)
يتضح من خلال الجدول السابق أن أكثر الأنواع استحواذا على سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة في ( حزب المفصل ) هي أربعة ألوان هي :
1- تقديم الخبر على المبتدأ ، والذي تمثل في ( 56 ستة وخمسين موضعاً ) .
2- تقديم الجار والمجرور على المتعلق به ، والذي تمثل في ( 53 ثلاثة وخمسين موضعاً ) .
3- الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور ، والذي تمثل في ( 53 ثلاثة وخمسين موضعاً ) .
4- تقديم الجار والمجرور على المفعول به ، والذي تمثل في ( 51 إحدى وخمسين موضعاً ) .
فهذه الألوان الأربعة هي الأكثر استحواذا على سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة ، إذ حازت ( 213 مائتين وثلاثة عشر موضعاً ) من إجمالي المواضع ، بنسبة ( 53 % ) من جملة المواضع ، وهي نسبة مرتفعة بالقياس إلى بقية الألوان وعددها ( 17 سبعة عشر لوناً ) .
ثالثاً : يمكن تصنيف مواضع " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية أقساما أربعة هي :
الأول : ما يختص بالجملة الاسمية .
الثاني : ما يختص بالجملة الفعلية .
الثالث : ما يختص بالمكملات .
الرابع : ما يختص بالفصل النحوي .
ونفصل القول في كل قسم على حدة كما يلي :
القسم الأول : ما يختص بالجملة الاسمية :
ويدور الحديث في هذا القسم عن سياقات " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية الملابسة للجملة الاسمية والتي تتمثل في :
1- الابتداء بالنكرة .
2- تقديم الخبر على المبتدأ .
3- تقديم خبر كان على اسمها .
4- تقديم خبر إن على اسمها .
فهذه الفروع تتضافر فيما بينها لتشكل منظومة " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية . والشيء العجيب حقا أن خروج ( الفاصلة ) بالتقديم أو بالتأخير عن مقررات النحو في المواضع الملابسة لها ، إنما هو في جوهر الأمر مجرد شكل من أشكال " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية . فالفاصلة القرآنية في هذه المواضع لابد وأن تكون أحد طرفي الجملة الاسمية ملابساً لحالة ( التأخير ) دوما . فمثلا : في الابتداء بالنكرة ورد " التقديم والتأخير " ملابساً للفاصلة في ( 14 أربعة عشر موضعاً ) كانت الفاصلة في كل هذه المواضع ( خبرا ) مؤخرا على خلاف القياس النحوي الذي يحكم للخبر في هذه المواضع بالتقديم لكون المبتدأ ( نكرة ) . فمثلا قوله تعالى :) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذَّبِينَ ( سورة المرسلات آية رقم ( 15 ) . تكررت في هذه السورة في ( 10 عشر آيات ) ودارت على الهيكلة التركيبية التالية :( ويل + يومئذ + للمكذبين ) . ( مبتدأ نكرة + ظرف + خبر شبه جملة ) .
والأصل في مثل هذا الأسلوب أن يؤخر ( المبتدأ ) لكونه نكرة ، ويُقَدَّم ( الخبر ) لكونه ( شبه جملة ) . وعلى هذا كان لابد أن يكون تركيب الآية – في غير القرآن – على النحو التالي: ( للمكذبين يومئذ ويلٌ ) أو ( للمكذبين ويلٌ يومئذ ) .
فيختلف الأمر تماما حينئذ في السياق القرآني . ولذا كان لابد من مخالفة الأصل النحوي للحفاظ على الإيقاع الموسيقي المتولد من بناء أغلب فواصل السورة على حرف ( النون ) الذي تكرر في ( 29 تسع وعشرين آية ) من إجمالي ( 50 خمسين آية ) هي جملة آيات سورة المرسلات . ولنتخيل الأمر فلو كانت الآية – حاشا لله – على التركيب التالي : ( للمكذبين يومئذ ويلٌ ) فالإيقاع الجميل يختفي تماما .
إذن المخالفة للأصل النحوي هنا تمت حفاظا على السياق الإيقاعي بالدرجة الأولى . يقول العلوي :" الظروف لا وجه لتقديمها على عاملها إلا ما ذكرناه من الاختصاص . وثانيهما : أن يكون تقديمه من أجل مراعاة المشاكلة لرؤوس الآي في التسجيع " (20) . فهو هنا يرى في " التقديم والتأخير " الملابس للفاصلة أمرين هما :
الأول : التقديم للاختصاص .
والأمر الثاني : مراعاة المشاكلة الصوتية المتولدة من بناء الفواصل على حرف متماثل .
فالاختصاص هنا في هذه الآية السابقة لا يتحقق لكون ( الخبر ) غير مقدم .
أما مراعاة المشاكلة الصوتية والإيقاعية فهو المراد هنا .
وفي " تقديم الخبر على المبتدأ " في الفاصلة القرآنية ، نجد أن هذا ورد ممثلاً في ( 56 ستة وخمسين موضعاً ) ، منها على سبيل المثال :
- قوله تعالى : ) وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ( سورة ق آية رقم ( 4 ) .
- قوله تعالى: ) مَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ( سورة ق آية رقم ( 6 ) .
- قوله تعالى: )وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ( سورة ق آية رقم ( 43 ) .
- قوله تعالى: )وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( سورة الممتحنة آية رقم ( 43 ) .
هذه الآيات وظفت فيها الفواصل كأحد ركني الجملة الاسمية ، وكانت دائما في هذه السياقات (مبتدأ) مؤخرا . والشيء الغريب أن التأخير في هذه السياقات لا ينحو نحو المشاكلة الصوتية للفاصلة ، بل الأمر هنا على أغراض بلاغية متولدة من سياقات تقديم الخبر (شبه الجملة) . وليست فقط على ( الاختصاص ) الذي تواطأ البلاغيون على وسم مبحث " التقديم والتأخير " به في كل مناسبة .
ونظرة بسيطة إلى مواضع " تقديم الخبر على المبتدأ " في سياقات الفاصلة القرآنية تبين بحق المواضع المستحقة للتأخير ، والمواضع الأخرى التي لا تستحق هذا التأخير . فقد استحق المبتدأ التأخير لكونه ( نكرة ) مجرورة في ( 15 خمسة عشر موضعاً ) فقط . ونظراً لكون الخبر ( شبه جملة ) ، وكان المبتدأ في هذه المواضع هو ( الفاصلة ) . في حين تأخر (المبتدأ) في بقية المواضع وعددها (41 إحدى وأربعين موضعاً) ، ولم يكن يستحق التأخير في هذه المواضع لكونه ملابسا لما يوجب له التقديم . فقد توزع المبتدأ في هذه المواضع كما يلي :
1- مبتدأ ( نكرة موصوفة ) ، وقد ورد في ( 21 إحدى وعشرين موضعا ) والوصف أحد المسوغات المبيحة للابتداء بالنكرة .
2- مبتدأ ( معرف بال ) ، وقد ورد في ( 14 أربعة عشر موضعا ) .
3- مبتدأ ( معرف بالإضافة ) ، وقد ورد في ( 6 ستة مواضع ) .
أي أن المبتدأ ( المؤخر ) في هذه المواضع كان حقه التقديم ، وكان حق الخبر أن يكون ( فاصلة ) مؤخرة كما يقتضي التركيب النحوي ذلك ، لكن ذلك لم يحدث !!
إن القول بأن غاية هذا التقديم هو الحفاظ على ( التشاكل الصوتي ) المتولد عن بناء الفواصل على حرف أو حروف متماثلة ( صوتياً ) أو قريبة التماثل ، أمر لا يتضح هنا في كل مواضع " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية . فمثلا الآية رقم ( 4 ) من سورة ( ق ) قال تعالى : )وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ { مكونة من ( خبر شبه جملة مقدم + مبتدأ نكرة موصوفة مؤخر) . وحق المبتدأ هنا (التقديم) لوجود ما يسوغ له هذا التقديم وهو ( الوصف ) . والفاصلة هنا هي كلمة ( حفيظ ) مبنية على حرف ( الظاء ) فهل نحكم للفاصلة بأنها متماثلة ( صوتيا ) مع بقية الفواصل في السورة ؟! والإجابة أن فواصل سورة ( ق ) جاءت على ( 7 سبع أحرف ) توزعت على آيات السورة البالغ عددها ( خمس وأربعين آية ) كما يلي:
م
الحرف
عدد مرات الورود
1
الباء
7
2
الجيم
5
3
الدال
27 بنسبة ( 60 % )
4
الراء
2
5
الصاد
1
6
الطاء
1
7
الظاء
2
جدول رقم ( 2 )
إذ أغلب فواصل السورة مبني على حرف ( الدال ) ، والفاصلة التي بين أيدينا مبنية على حرف ( الظاء ) وليس بينهما أي تقارب في المخرج . إذ أمر المشاكلة الصوتية غير وارد في هذه الآية . فالتقديم هنا بلاغي محض وليس نحويا أيضا لكسره التقرير النحوي المسوغ للابتداء بالنكرة إذا وصفت . فالتقديم هنا ( للخبر ) والتأخير( للمبتدأ ) على إرادة إثبات طلاقة قدرة الخالق وليس الاختصاص ، فالسياق يدور على إنكار البعث من جانب الكفار وتحدثهم بأن الأرض ( تبلع ) فقط ، فهو الفناء المحض ، فكان الرد الإلهي بأن الذي خلق أولا يسهل عليه الخلق مرة ثانية ، كما أن ( طلاقة القدرة ) تتمثل في معرفة المقدار الذي تأخذه الأرض من أجسادهم ، لأن كل هذا ( عندنا ) فقط في ( كتاب حفيظ ) . ونفي التقديم للاختصاص هنا أمر حتمي ، لأن إرادة الاختصاص تقتضي الظن بمحاولات الاشتراك ، وهذا الموضع لا اشتراك فيه ، فلذا ينتفي هذا الغرض هنا .
ولو تتبعنا كل مواضع التقديم والتأخير ( الاسمي ) في الفاصلة القرآنية لكان لكل فاصلة خصوصية ذاتية بها في مقامها الذي ثبت فيه وتمكنت ، هذه الخصوصية تنبع من أداءات المفردات المكونة لتركيب جملة الفاصلة ، وتضافرها معا للوصول إلى قمة الأداء عند الفاصلة .
ولنأخذ مثالا آخر ، الآية رقم ( 4 ) من سورة الممتحنة قال تعالى : ) وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( مبنية على الهيكل التركيبي التالي : ( خبر شبه جملة مقدم + مبتدأ مؤخر ) . وتأخير المبتدأ هنا على خلاف القياس النحوي الذي يحكم للمبتدأ المعرفة بالتقديم ، وعليه كان لابد في - غير القرآن – أن يكون شكل الجملة :( والمصير إليك ) . لكننا هنا نكون إزاء نفور جمالي في الأداء الصوتي المؤدي إلى الجمال الإيقاعي ( للمتلقي ) . فلو كان بناء الفاصلة على ( الخبر ) أي على حرف الكاف في ( إليك ) لما أحسسنا بالجمال الأدائي لهذه الآية . إن التقديم هنا حقق أمرين هما :
1- المشاكلة الصوتية لتقارب حرف (الراء) من مخرج حرف (الباء) الذي بنيت عليه فواصل السورة.
2- الاختصاص المنتج من تقديم الخبر ( إليك ) على المبتدأ ( المصير ) ، فالسياق يقتضي الإقرار باختصاص المولى – عز وجل – وحده بأن المآل إليه ، ونهاية المطاف لديه . ويستفاد ذلك من سياق الدعاء قبل الفاصلة ) رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ( فالدعاء في الآية مبني على تقديم (شبه جملة) كوحدة دلالية مستقلة ، على ( المتعلق به ) ، حتى إذا ما وصلنا إلى موضع الفاصلة قدم ( شبه الجملة ) على المبتدأ اطرادا على ما سبق .
وفي سياق تقديم خبر كان على اسمها ، وتقاطع سياقاته مع سياقات الفاصلة ، نجد أن هذا التقاطع ورد ممثلاً في ( 13 ثلاث عشرة آية ) . ورد فيها خبر كان مقدما على اسمها ( الفاصلة ) ، ولنضرب مثالاً لنوضح به كيفية ورود هذا النمط الأسلوبي :
قال تعالى : )فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ( سورة الملك آية رقم ( 18 ) . فقد قدم الخبر ( كيف ) أداة الاستفهام ذات الخصوصية المتفردة ، على ( كان ) واسمها المعرفة ( نكير ) . وتقديم ( كيف ) هنا واجب لاستحقاق أسماء الاستفهام الصدارة . ولكون ( كيف ) مستحقة للتصدير كانت الآية على النسق الذي لابد أن تكون عليه . واسم كان ( نكير ) ليس مؤخراً بالمعنى المفهوم لنا ، بل هو على نسقه ، فهو تالٍ للفعل الناسخ ولم يؤخر ، ولكن الخبر هو الذي قدم ليس على ( اسم كان ) بل على ( كان ) نفسها ، لوجود ما يبيح له هذا التقديم . والذي حدث في اسم كان ( الفاصلة ) هو حذف ( ياء المتكلم ) من آخره ، فكان حقه أن يكون ( نكيري ) لكن لاستمرار الدفقة الإيقاعية للفاصلة ، والمتولدة من بناء أغلب فواصل السورة على حرف ( الراء ) الذي تكرر في ( 21 إحدى وعشرين فاصلة ) من إجمالي ( 30 ثلاثين آية ) هي جملة آيات السورة ، وبنسبة ( 70% ) ، ثم حذف ( ياء المتكلم ) . والحذف هو أحد الأحكام الموجبة للمناسبة والمشاكلة الصوتية للفاصلة القرآنية . إذ يعدده السيوطي من جملة الأحكام الأربعين الموجبة للمناسبة في الفاصلة القرآنية . يقول السيوطي : " وحذف فاء الإضافة ، نحو :) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ((21)، و)فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ((22) " (23) . فعلى هذا الأساس حذفت الياء من ( نكير ) ، رعاية للمناسبة في الفاصلة .
ومثال آخر الآية رقم ( 4 ) من سورة الإخلاص ، قال تعالى : ) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ( . فالهيكلة التركيبية للآية تقوم على المفردات الآتية : ( لم جازمة + فعل مضارع مجزوم ( ناسخ ناقص ) + جار ومجرور متقدم على متعلقه + خبر يكن مقدم + اسم يكن مؤخر ) و " التقديم والتأخير " هنا ليس على القياس النحوي ، فالأصل – في غير القرآن – ( ولم يكن أحد كفوا له ) فتقديم الخبر هنا على المبتدأ على غير قياس . ولذا يجب التساؤل لم حدث هذا الاختراق التركيبي للآية ؟!
يرى مكي أن : " (أحد) اسم كان ، و( كفوا ) خبر كان ، و (له) ملغي . وقيل:( له) الخبر ، وهو قياس قول سيبويه (24) ، لأنه يقبح عنده إلغاء الظرف إذا تقدم ، وخالفه المبرد (25) ، فأجازه على غير قبح ، واستشهد بالآية ، ولا شاهد للمبرد في الآية ، لأنه ممكن أن يكون ( كفوا ) حالا من (أحد) مقدما ، لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها نصب على الحال "(26) . فعلى هذا هناك إعرابان لكلمة ( كفواً ) :
الأول : أن تكون ( خبرا ) لكان مقدما على اسمها . والثاني : أن تكون ( حالا ) من ( أحد ) تقدمت عليه لكونه نكرة موصوفة في الأصل ، فقدمت ( الصفة ) فنصبت على ( الحال ) .
وعلى هذا يكون ( له ) الجار والمجرور ( خبراً ) لكان . وقد رد أبو حيان على هذا الرأي بقوله : " ليس الجار والمجرور منه ( تاما ) ، إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبرا لكان ، بل هو متعلق بـ( كفوا ) وقدم عليه . فالتقدير : ( ولم يكن أحد كفوا له ) أي : مكافئه . فهو في معنى المفعول متعلق بكفوا . وتقدم على ( كفوا ) للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى ، وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخر ، لأن تأخر الاسم هو فاصلة فحسن ذلك " (27) . وهذا الرأي الذي فنده أبو حيان هو الفصل إذ جعل الأمور في نصابها ، فالخبر هنا هو ( كفواً ) ، والجار والمجرور ( له ) متعلق بالخبر مقدما عليه لاشتماله على ضمير يعود على المولى- سبحانه وتعالى- فاستحق التقديم لهذا ، وللاهتمام به . أما تقدم الخبر فهو على سبيل التجوز ، وحقه التأخر ، إلا أن اسم كان حسن تأخيره لكونه ( فاصلة ) ، أي أن ( أحد ) فاصلة مبنية على حرف ( الدال ) الذي بنيت عليه فواصل السورة جميعها ، ومن هنا حسن تأخير ( اسم كان ) رعاية للتشاكل الصوتي ، ومناسبة للإيقاع المتولد من هذا التشاكل .
وهذا الرأي ارتآه أبو حيان هو خلاصة رأي أغلب النحويين و المفسرين(28) . وعليه فإن بناء ( الفاصلة ) القرآنية يخضع لقوانين نحوية وصرفية وصوتية وبلاغية تتضافر معا لتشكل منظومة الفاصلة في تقاطعات سياقاتها مع سياقات مبحث " التقديم والتأخير " .
أما شكل ( الفاصلة ) في سياق تقديم ( خبر إن ) على ( اسمها ) فقد ورد ممثلا في ( 19 تسعة عشر موضعا ) في ( حزب المفصل ) . هذه السياقات هي في جوهر أمرها سياقات لتقديم الخبر على المبتدأ ، لابسها دخول الحروف النواسخ عليها . فمثلا قوله تعالى : ) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ { سورة الغاشية الآيتان رقم (25 ، 26 ) . فهاتان الآيتان وردتا على هيكلة تركيبية واحدة تتمثل في : ( حرف ناسخ + خبر إن شبه جملة ( جار ومجرور ) مقدم + اسم إن معرفة مؤخر ) . وسبب تقديم (الخبر) هنا على غير القياس ، لأن المبتدأ معرفة مستحق للتقديم ، وتأخيره على غير قياس . وأصل الكلام - في غير القرآن - ( إن إيابهم إلينا ثم إن حسابهم علينا ) .
ولن نحكم هنا على التأخير لـ( اسم إن ) بأنه مراعاة للتشاكل الصوتي للفاصلة ، فهذا لا يمكن لكون الفاصلة في الآيتين على حرف ( الميم ) ، وأغلب فواصل السورة على ( تاء التأنيث المتحركة ) والتي وردت في ( 14 أربع عشر آية ) من جملة ( 25 خمس وعشرين آية ) هي جملة الآيات في السورة . ولو تقدم ( اسم إن ) إلى مكانه المحكوم به نحويا ، لكانت الفاصلة ( خبر إن ) على حرف واحد هو حرف ( النون ملابساً ألف المد ) . فالتشاكل الصوتي للفاصلة لا مقام له هنا ، بل إن تقديم ( خبر إن ) على غرض الاختصاص لكون المحكوم به هنا ( البعث والحساب ) مما لا سبيل لأحد إليه ، فهو بيد المولى – عز وجل – وحده .
ويلاحظ أن جميع المواضع التي تقدم فيها ( خبر إن ) كان ( شبه جملة ؛ جار ومجرور ) وهذا - وفق تقرير النحويين - مسوغ لتقديم ( خبر إن ) . أما ( اسم إن ) فكان على ثلاثة أحوال :
1- نكرة مجردة ، وقد وردت في ( 6 ستة مواضع ) .
2- نكرة موصوفة ، وقد وردت ممثلة في ( موضعين فقط ) .
3- معرفة ، وقد وردت ممثلة في ( 11 أحد عشر موضعاً ) .
معنى ذلك أن استحقاق ( اسم إن ) للتأخر لا يتمثل إلا في ( 6 ستة مواضع ) أما تأخره على غير القياس في ( 13 ثلاثة عشر موضعا ) وما كان ذلك إلا لأغراض بلاغية مستقاة من وراء هذا التوظيف لهيكل جملة ( إن واسمها وخبرها ) أو بالهيكل الفرعي ( إن + خبرها + اسمها ) ، بالإضافة إلى وضع المناسبة والمشاكلة الصوتية للفاصلة في الحسبان في الكثير من الآيات مثلما نجد في :
1- قوله تعالى : ) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى( سورة النجم آية رقم ( 13 ) .
2- قوله تعالى : ) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى( سورة النجم آية رقم (42 ) .
3- قوله تعالى : ) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةُ الأُخْرَى( سورة النجم آية رقم ( 47 ) .
4- قوله تعالى : ) وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ( سورة القلم آية رقم ( 3 ) .
5- قوله تعالى : ) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى( سورة الليل آية رقم ( 12 ) .
فهذه الآيات رُوعِيَ فيها بناء الفاصلة في سياق بنائها في فواصل السورة ، وذلك حتى تتوافق مع الإيقاع المتولد من بناء الفواصل على التماثل والمناسبة .
وعلى كل فإن بناء وتشكيل الفاصلة في سياقات " التقديم والتأخير " في الجملة الاسمية كان خاضعا في المقام الأول لمقررات الحكم النحوي في تفصيلات تقديم الخبر وما يتبعه ، وأغراض هذا التقديم ، والدلالات المستفادة من هذا التقديم تتضافر مع خصائص الفاصلة وتوظيفها في سياق هذه التفصيلات .
القسم الثاني : ما يختص بالجملة الفعلية :
تدور هيكلة الجملة الفعلية على اعتماد الفعل والفاعل ركنين أصليين لا غنى لأحدهما عن الآخر ، ولا قيام للهيكلة التركيبية في الجملة الفعلية بأحدهما دون الآخر . ويتعدى الفعل إلى نصب ركن آخر هو ( المفعول به ) بل ويمنحه رخصا تركيبية غاية في الجمال . فيمنحه التقدم على ( الفاعل ) بل والتقدم على ( الفعل ) نفسه وفقا لمنظومة سياقية يؤديها ( المفعول ) في هذه التحركات . وما يعنينا هنا هو ملابسة سياقات " التقديم والتأخير " في الجملة الفعلية ، لسياقات الفاصلة في هذه الجملة . ولذا فإن سياقات التقديم والتأخير في الجملة الفعلية في تقاطعاتها مع سياقات الفاصلة تشمل ما يلي :
1- تقديم المفعول به على الفاعل .
2- تقديم المفعول به الفعل .
3- تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول .
فهذه التفصيلات هي محور سياقات التقديم والتأخير في الجملة الفعلية ، ولذا نفصل القول فيها .
أولاً : تقديم المفعول به على الفاعل :
ورد المفعول به مقدما على ( الفاعل ) في سياق ( الفاصلة ) أي كون ( الفاعل ) هو ( الفاصلة ) في الآية ، ورد ممثلا في ( 34 أربعة وثلاثين موضعا ) . توزع المفعول في هذه المواضع كما يلي :
1- المفعول ( ضمير متصل بالفعل ) مقدم على ( الفاعل ) المظهر المنفصل ، واجب التقديم في هذه الحالة ، ورد ممثلا في ( 31 إحدى وثلاثين موضعا ) .
2- المفعول ( اسم ظاهر ) والفاعل ( اسم ظاهر ) ، المفعول ( غير مستحق للتقديم ) ورد ممثلاً في ( 3 ثلاثة مواضع فقط ) .
وعلى هذا فإن الحديث عن تقديم المفعول به ( المضمر ) على ( الفاعل ) الذي هو بدوره ( فاصلة ) يكون من جانب بلاغية هذا التقديم الواجب هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى هي مراعاة ( المشاكلة والمماثلة ) للفاصلة ( الفاعل ) مع فواصل السور التي ترد فيها . فمثلا قوله تعالى : )عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى( سورة النجم آية رقم ( 5 ) قدم فيها المفعول به ( هاء الغيبة ) في الفعل ( علمه ) على الفاعل ( شديد العقاب ) وهذا التقديم واجب لكون المفعول به ( ضمير متصلاً ) والفاعل ( اسما ظاهراً ) . ومن ناحية أخرى جاء ( الفاعل المؤخر ) والذي هو بدوره ( فاصلة ) متشاكلاً مع أغلب فواصل السورة المبنية على ( الألف المقصورة ) والمتمثلة في ( 27 سبع وعشرين آية ) من إجمالي ( 62 اثنتين وستين آية ) هي إجمالي آيات سورة النجم . وبلاغية التقديم هنا على غرض ( التفرد ) و(الاختصاص ) فالرسول r لم يعلمه بشر ، بل علمه رسول من عند رب البشر ، وهذا هو مناط الفرق بين تعليم البشر للبشر ، وتعليم رب البشر للرسول r .
ومثال آخر ؛ قوله تعالى : )وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْْغَرُورُ( سورة الحديد رقم ( 56 ) . فقد وردت الآية على الهيكلة التركيبية الآتية : ( فعل+ مفعول به مقدم + جار ومجرور متعلق بالفعل + فاعل مؤخر وجوبا ) .
فقد قدّم المفعول به هنا وجوبا على ( الفاعل ) لإرادة ( التوبيخ ) الإلهي للمؤمنين أو للبشر إذ كيف يستحوذ عليكم الشيطان ، وقد أتتكم رسلي وكتبي ، ولذا استحققتم هذا ( التوبيخ ) في معرض الحساب يوم القيامة . أم بالنسبة للماثلة الصوتية في الفاصلة ( الفاعل ) كلمة ( الغرور ) فهي حاضرة هنا وبقوة لكون أغلب فواصل السورة مبنياً على حرف ( الراء ) الذي تمثل في ( 11 إحدى عشرة آية ) من إجمالي ( 29 تسع وعشرين آية ) هي جملة آيات السورة ، وبذلك يتحقق الغرض البلاغي من تقديم المفعول به ، ويتحقق التشاكل الصوتي والإيقاعي من تأخير ( الفاعل ) .
إن المقصد من الإشارة إلى وجوب " تقديم المفعول " أو "جواز تقديمه " هو النظر بعين أخرى غير عين البلاغة ، هذه العين تكون موجهة للمؤخر ( الفاعل ) لا للمقدم ( المفعول ) لأن مناط الاهتمام هنا هو هذا المؤخر لكونه ( فاصلة ) .
أما على صعيد جواز تقديم المفعول ، فقد ورد ممثلا في ( 3 ثلاثة مواضع ) فقط منها قوله تعالى:) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( سورة القمر آية رقم ( 41 ) . فقد قدم المفعول به ( آل فرعون ) على الفاعل ( النذر ) جوازا وعلى غير قياس لكون كل من الفاعل والمفعول اسمين ظاهرين . وتحقيق البلاغة لهذا التقديم هو ( إبطال الحجة ) بمعنى أن الله – عز وجل – إذا عذبهم وعمهم بهذا العذاب فقد أبطل حجتهم بإرسال الرسل ( النذر ) . أما على صعيد ( الفاصلة ) فإن إعادة الجملة إلى رتبتها - في غير القرآن - يكون كما يلي : ( ولقد جاء النذر آل فرعون ) . فالأمر هنا يكون على اعتماد كلمة ( آل فرعون ) هي ( الفاصلة ) ، وهي بذلك لا تتواءم مع بناء هيكل الفاصلة في السورة الكريمة ، إذ ( الفاصلة ) في السورة مبنية على حرف ( الراء ) فقط منفردا . فقد هيمن على فواصل السورة كلها ، فورد في جميع آياتها ولو تحقق ما رمينا إليه لشكل هذا نبوا إيقاعيا ، ونشازا موسيقيا في سياق إيقاعي منتظم ، وهذا لا يكون . وعلى هذا يمكن القول بأن " التقديم والتأخير " هنا كان – بلا شك – من أجل رعاية الفاصلة ولأجل المناسبة والمماثلة والمشاكلة الصوتية في فواصل السورة كلها .
وعلى هذا النمط يسير سياق ( الفاصلة ) في تقاطعاتها مع سياقات تقديم المفعول به على الفاعل .
ثانياً : تقديم المفعول به على الفعل :
في حزب المفصل ورد المفعول به مقدما على ( الفعل ) في سياق ( الفاصلة ) في ( 9 تسعة مواضع ) . والنحويون يقررون مواضعا لتقديم المفعول به على الفعل تتمثل في (29) :
1- كون المفعول به من الأسماء التي لها الصدارة ، كأسماء الاستفهام،وأسماء الشرط ، وكم الخبرية.
2- أن يكون المفعول به ضميرا متصلا ، لو تأخر لزم اتصاله .
3- أن يقع المفعول به في جواب (أما) الظاهرة أو المقدرة ولا يفصل بينها وبين الفعل سوى المفعول به .
ومن خلال الاستضاءة بهذه التقريرات النحوية لتقديم المفعول به وجوبا على الفعل يمكننا تقسيم المواضع التي تقاطعت فيها ( الفاصلة ) مع سياق تقديم المفعول على الفعل كما يلي :
القسم الأول : ورد المفعول به مقدما وجوبا على ( الفعل ) في ( 5 خمسة مواضع ) هي :
1- قوله تعالى : ) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ( سورة المدثر آية رقم ( 3 ) .
2- قوله تعالى : ) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ( سورة المدثر آية رقم ( 4 ) .
3- قوله تعالى : ) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ( سورة المدثر آية رقم ( 5 ) .
4- قوله تعالى : ) أَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ( سورة الضحى آية رقم ( 9 ) .
5- قوله تعالى : ) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ( سورة الضحى آية رقم ( 9 ) .
القسم الثاني: ورد المفعول به مقدما على غير القياس النحوي على( الفعل) في(3 ثلاثة مواضع) هي :
1- قوله تعالى : ) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىَ( سورة النجم آية رقم ( 53 ) .
2- قوله تعالى : ) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا( سورة النازعات آية رقم ( 32 ) .
3- قوله تعالى : ) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا( سورة النازعات آية رقم ( 32 ) .
فالتقديم ( وجوبا ) للمفعول به في القسم الأول جاء على وقوع المفعول به في جواب ( أما ) سواء الظاهرة كما في الآيتين الأخيرتين ، أو ( أما ) المقدرة كما في الآيات الثلاث الأول . هذا ( الوجوب ) ساهم في إبراز أغراض هذا التقديم وهي جميعا على إرادة ( الاهتمام ) لأن المخاطب هو الرسول r في جميع هذه الآيات . كما لا ينكر أن بناء الأفعال ( الفواصل ) هنا على ( حرف الراء ) في آيات سورة المدثر جاء متوافقا مع فواصل السورة ، والتي بُنِيَ معظم فواصلها على هذا الحرف الذي ورد ممثلاً في ( 31 إحدى وثلاثين آية ) من إجمالي ( 56 ست وخمسين آية ) هي عدد آيات السورة . فالتماثل الصوتي والإيقاعي لهذه الفواصل كان حاضرا في سياق هذا التقديم . وليس الحال كذلك في آيتي سورة الضحى ، إذ أن الفاصلة في الآيتين على حرف (الراء) الذي لم يُمثَّل في السورة إلا في هاتين الآيتين . ولذا فالاتكاء على المشاكلة الصوتية هنا ليست بذات طائل . بل التوجيه البلاغي هنا يكون أقوى .
أما القسم الثاني ، والذي تقدم فيها المفعول به على ( الفعل ) بلا سند ، أو قياس نحوي ، فمناط الأمر فيه كما يتضح من سياق السور الواردة فيها تلك الآيات على إرادة التماثل والمناسبة للفواصل . ففي الآية الأولى بنيت الفاصلة على حرف المد (الألف) مناسبة لفواصل سورة النجم والذي جاء فيها ( المد ) أساساً للفواصل في ( 55 خمس وخمسين آية ) من إجمالي ( 62 اثنتين وستين آية ) هي عدد آيات السورة .
وكذلك الحال في سورة النازعات فالآيتان هنا مبنيتان على فاصلة مختومة بمد ( الألف ) . وقد جاءت هكذا لتتوافق مع أغلب فواصل السورة التي جاءت على النمط نفسه ، والتي تمثلت في ( 11 إحدى عشرة آية ) من إجمالي ( 46 ست وأربعين آية ) هي عدد آيات السورة .
وخلاصة القول : أن البحث في سر " التقديم والتأخير " في ( الفاصلة ) المتقاطعة على سياق تقديم المفعول به ( الفعل ) إنما هو في جلي الأمر مستند للتقرير النحوي والبلاغي اللذين يوجهان – بلا شك – السياق الصوتي والإيقاعي المبتغي من وراء توظيف الفاصلة .
ثالثاً : تقديم المفعول الثاني :
ورد المفعول الثاني مقدما على المفعول الأول في جملة ( المفعولين ) اللذين أصلهما ( المبتدأ والخبر ) في ( حزب المفصل ) ممثلا في ( 15 خمسة عشرة آية ) . ونجد أن هذه المواضع على ضربين هما :
الضرب الأول : تقديم المفعول الثاني على المفعول الأول ، وقد ورد ممثلا في ( 14 أربع عشرة آية ) .
والضرب الثاني : تقديم المفعول الثاني على ( الفعل ) ، وقد ورد ممثلا في ( آية واحدة ) هي قوله تعالى : ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ( سورة الحاقة آية رقم ( 31 ) .
فالضرب الأول ورد ( المفعول الثاني ) في جميع المواضع على هيئة ( شبه الجمة ) التي سدت مسد ( المفعول الثاني ) . وقد توزعت إلى :
1- الظرف ، وقد ورد ( مفعولا ثان ) ممثلا في ( آية واحدة ) هي قوله تعالى : )سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( سورة الطلاق آية رقم ( 7 ) .
2- الجار والمجرور ، وقد ورد ( مفعولا ثان ) ممثلا في ( 13 ثلاث عشرة آية ) .
وهذا التقسيم مفاده الوقوف على نطاقات عمل ( المفعول الثاني ) المقدم على ( المفعول الأول ) . هذه النطاقات تستفاد من كون المفعول الثاني في الأصل ( خبر ) ، والمفعول الأول في أصله ( مبتدأ ) ، فالتقديم هنا يدور على دلالات تقديم الخبر ( شبه الجملة )على ( المبتدأ ) النكرة دوما في هذه المواضع . كما أن هذه الدلالات تتواءم وتتضافر مع الدلالات المستفادة من عد ( المفعول الأول ) في هذه المواضع (فاصلة) . وهذا التضافر يمنح سياقات السورة القرآنية أبعادا جمالية ودلالية رائعة .
ولنضرب مثالا تطبيقيا لهذا التضافر . فمثلا قوله تعالى:) وَمَنْ َيتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا( سورة الطلاق آية رقم (2) . فالهيكلة التركيبية لهذه الآية قائم على : ( جعل فعل ناسخ ناصب لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر + فاعل ( ضمير مستتر ) + مفعول به ثان مقدم ( جار ومجرور ) + مفعول به أول مؤخر ( مخرجا ) . وكان أصل الكلام - في غير القرآن – أن يكون كالتالي : ( يجعل مخرجا له ) . لكن تم العدول عن هذا الأصل بتقديم ما هو أصل المفعول الثاني ( الجار والمجرور ) الذي كان (خبر شبه جملة) على المفعول الأول (المبتدأ النكرة ) في الأصل . والنحو يقرر وجوب تقديم الخبر ( شبه الجملة ) على المبتدأ النكرة . ولتتخيل أن هذا الأمر سار في خطوات هي :
1- الابتداء بالنكرة على غير القياس ، ( مخرجٌ له ) .
2- تحكيم التقرير النحوي بتأخير المبتدأ وجوبا ( له مخرجٌ ) .
3- دخول الفعل الناسخ الناصب لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، ( يجعل الله له مخرجا ) .
4- استتار الفاعل لدلالة السياق قبله عليه ( يجعل له مخرجا ) .
هذه الخطوات هي بالفعل ما انتظم كل المواضع التي قدم فيها المفعول الثاني على المفعول الأول .
الدلالات المستنبطة من التقديم في هذه المواضع هي في جوهرها دلالات تقديم الخبر على المبتدأ ، ولا مجال هنا للحديث عن ( التشاكل والمماثلة الصوتية ) للفواصل .
أما الضرب الثاني ، والذي تقدم فيه ( المفعول الثاني ) على ( الفعل ) وبالتالي على ( الفاعل ) و( المفعول الثاني ) ، فقد ورد ممثلا في قوله تعالى : ) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ( . على الهيكلة التالية :
( مفعول ثان + فعل + فاعل + مفعول أول ) . لكننا هنا نجد أنفسنا إزاء ( فعل ) ليس في جملة الأفعال الناصبة لمفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، ونجد أن المفعول الثاني والأول هنا لا يكونان جملة اسمية مفيدة ، فما معنى قولك : ( الجحيم هو ) أو ( هو الجحيم ) لا معنى حقيقي مستفاد من وراء هذا التركيب . يقول الزمخشري : " لا تصلوه إلا الجحيم ، وهي النار العظمى لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس" (30) .
ولا ندري لم قدّر الزمخشري هنا الاستثناء المنفي . وقد رد عليه أبو حيان بقوله : " إنما قدره لا تصلوه إلا الجحيم ، لأنه يزعم أن تقديم المفعول يدل على الحصر" (31). فالزمخشري يقدم المفعول هنا على غرض الحصر ، ولذا قدر النفي هنا . لكن لم نجد من يشير إلى المفعول الأول ( الضمير المتصل ) في الفعل (صلوه) ، وينصب اهتمام النحويين والبلاغيين على المفعول الثاني وسبب تقديمه . يقول النسفي : " نصب الجحيم بفعل يفسره صلوه " (32). ويرى العلوي أن الجحيم إنما قدم : " من أجل المشاكلة لرؤوس الآي ، ومراعاة حسن الانتظام ، واتفاق أعجاز الكلم السجعية " (33 ) . إذن الأمر يخرج على عدَّ الفعل ناصبا لمفعولين ، دون تحديد لهوية هذا الفعل ، وأن المفعول الثاني إنما قدم هنا للحفاظ على التشاكل الصوتي للفواصل . وهذا هو الرأي السائد .
تلك أهم الدلالات التي لابست فيها ( الفاصلة ) سياقات " التقديم والتأخير " في الجملة الفعلية .
القسم الثالث : ما يختص بالمكملات :
يدور سياق " التقديم والتأخير " في المكملات متقاطعا مع سياق ( الفاصلة ) على مدار كون التقديم تسبب في نقل ( الفاصلة ) من دالة إلى دالة ، هذا التحول والنقل هما مناط عملية " التقديم والتأخير " . وبالنسبة للمكملات فالأمر على السياق نفسه بلا اختلاف . وتقديم المكملات في سياق الفاصلة ورد ممثلا في :
1- تقديم المفعول المطلق .
2- تقديم الحال على عاملها .
3-تقديم النعت على منعوته .
4- تقديم أشباه الجمل . ومن خلال هذه الجزئيات نحاول تلمس سياق ( الفاصلة ) في تقاطعات " التقديم والتأخير " مع سياق المكملات .
1- تقديم المفعول المطلق :
المفعول المطلق أحد المكملات في الجملة الفعلية ، والمنوط بها أداء أدوار دلالية غاية في الأهمية . إذ يرجى من وراء توظيفه أغراض ، تتضافر بدورها مع الأغراض المتولدة من سياقات تقديمه .
هذا وقد ورد المفعول المطلق مقدما على عامله في ( حزب المفصل ) ومتقاطعا مع سياق ( الفاصلة ) في جملتها ، ممثلا في ( 6 ست آيات ) ، كانت الفاصلة ممثلة فيها بشكل ما كما سيتضح . فقد ورد المفعول المطلق . وورد مقدما على ( الفاعل ) منه في ( 4 أربع آيات ) هي :
1- قوله تعالى : ) كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ َشَكرَ( سورة القمر آية رقم (35 ) .
2- قوله تعالى : ) قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ( سورة الملك آية رقم ( 23 ) .
3- قوله تعالى : ) قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ( سورة الحاقة آية رقم ( 41 ) .
4- قوله تعالى : ) قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ( سورة الحاقة آية رقم ( 42 ) .
ومقدما على ( الفاعل ) في ( آيتين ) هما :
1- قوله تعالى : ) فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ( سورة الفجر آية رقم ( 25 ) .
2- قوله تعالى : ) وَلاَ يُوِثقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( سورة الفجر آية رقم ( 26 ) .
وهذان النمطان من تقديم المفعول المطلق تقاطع مع سياق الفاصلة في هذه الآيات فمثلا في النمط الأول ، قدم المفعول المطلق على العامل فيه بألفاظ محددة هي ( كذلك ، قليلا ) وكانت الفاصلة في هذه الآيات الأربع هي على التوالي الأفعال التالية : ( شكر ، تشكرون ، تؤمنون ، تذكرون ) . فهذه الأفعال كانت هي ( الفاصلة ) في سياق هذه الآيات الأربع السابقة . والأصل في هذه الآيات أن يكون التركيب الهيكلي لها - في غير القرآن – كما يلي :
- الآية الأولى : ( نجزي من شكر جزاءً ) .
- الآية الثانية : ( تشكرون شكرا قليلاً ) .
- الآية الثالثة : ( تؤمنون إيمانا قليلاً ) .
- الآية الرابعة : ( تذكرون تذكرا قليلاً ) .
وما حدث أن حذف ( المفعول المطلق ) ليقوم ( نوابه ) بدوره ، ويراد التقديم فتتقدم النواب عن المفعول المطلق . وكان الأصل أن تكون صفات المفعول المطلق (قليلا) والتي أصبحت (نوابا) له هي (الفاصلة ) . لكن بعد حدوث التقديم تحول مركز الثقل الدلالي في الآيات ليصبح ( الفعل ) ، ومن ثم تصبح الأفعال هي ( الفواصل ) في هذه الآيات .
* ففي الآية الأولى بنيت ( الفاصلة ) على حرف ( الراء ) في السورة كلها ، ومن ثم كان التقديم هنا حتميا للحفاظ على هذا النسق الموسيقي والإيقاعي المتولد من بناء الفواصل في السورة كلها على حرف واحد هو حرف ( الراء ) .
* وفي بقية الآيات لم يكن التشاكل الصوتي ، أو رعاية رؤوس الآي حاضرا بشكل قوي ، لكون فواصل هذه الآيات على حرف غير مماثل لفواصل السور الواردة فيها ولذا كان ( الغرض البلاغي ) المتوقع من وراء هذا التقديم هو محور السياق في هذه الآيات الثلاث ، والتي كان المفعول المطلق حاضرا فيها بلفظ نائب عنه هو ( قليلا ) ، قدم على ( العامل ) فيه لمناسبات السياق .
أما النمط الثاني، والذي قدم فيه المفعول المطلق على ( الفاعل ) ، والمتمثل في آيتي سورة الفجر . فالأمر فيهما على الاهتمام بالأغراض المتوخاة من هذا التقديم مع النظر إلى التماثل والمشاكلة الصوتية للفاصلة الممثلة في كلمة ( أحد ) والتي تقع ( فاعلا ) ، والفاصلة هنا مبنية على حرف ( الدال ) الذي شكل ( 10 عشر آيات ) من جملة آيات السورة البالغ عددها ( 30 ثلاثين آية ) . إذن يتحقق هنا أمران : الأول : التقديم لغرض الاختصاص " مراعاة جانب اللفظ والمعنى جميعا ، فالاختصاص أمر معنوي ، والتشاكل أمر لفظي " (34 ) . ولذا لا منافاة إطلاقا بين الأمرين ، بل إن تضافرهما معا هو عين المراد .
تلك هي أهم دلالات التقديم والتأخير في الفاصلة في سياق التقديم والتأخير في جملة المفعول المطلق .
2- تقديم الحال على عاملها :
وردت الفاصلة القرآنية في جملة الحال المتقاطعة مع سياقات " التقديم والتأخير " في (10 عشرة آيات) . وتقديم الحال " يفيد أنه جاء على هذه الصفة مختصا بها من غيرها من سائر صفاته " (35) . وقد تنوع الحال المقدم إلى نوعين هما :
1- لفظ ( كيف ) ، وقد ورد ممثلا في ( 7 سبع آيات ) .
2- شبه الجملة ، ( الجار والمجرور ) ، وقد ورد ممثلا في ( 3 ثلاث آيات ) .
فالنمط الأول للحال قدم فيه لاستحقاق اسم الاستفهام الصدارة ، فلا سبيل إلى تأخير الحال وعلى هذا فإن الفاصلة في هذه الآيات السبع هي ( الفاعل ) في الحال أي ( الفعل ) . لكن حفظ الرتبة هنا للحال المقدم هل أسهم في الحفاظ على السياق الإيقاعي للفاصلة ؟! والإجابة تتضح من استعراض سياق الحال في هذه الآيات :
* ففي الآية رقم ( 36 ) من سورة القلم ) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ( بنيت الفاصلة هنا ، الفعل ( تحكمون ) على حرف النون ، وهو الحرف الذي بنيت عليه أغلب فواصل السورة ، إذ ورد هذا الحرف في بناء فواصل آيات السورة ممثلا في ( 43 ثلاث وأربعين آية ) من جملة ( 52 اثنتين وخمسين آية ) هي عدد آيات السورة ولذلك فإن بناء ( الفاصلة ) هنا على حرف ( النون ) أسهم في الحفاظ على التماثل الصوتي والإيقاعي لفواصل السورة .
* وفي الآيتين ( 19 ، 20 ) من سورة المدثر ) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ( تكرر الأمر نفسه ، إذ كان بناء الفاصلة هو الموجه لهذا التقديم . فالفاصلة في الآيتين هنا الفعل (قدر) مبنية على حرف ( الراء ) الذي بنيت عليه معظم فواصل السورة ، فقد ورد ممثلا في ( 31 إحدى وثلاثين آية ) بنسبة ( 55 % ) من جملة فواصل السورة البالغ عدد آياتها ( 56 ست وخمسين آية ) .
* وفي الآيات ( 17 ، 18 ،19 ، 20 ) من سورة الغاشية ) أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَِتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفَعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ( كان بناء الفاصلة على حرف ( التاء ) ، وهي ( تاء التأنيث الساكنة ) والتي لم ترد ممثلة إلا في هذه الآيات الأربع فقط . فالأمر إذن ليس على مدار الحفاظ على إيقاع الفاصلة ، بل هو حينئذ على الأغراض البلاغية المتوخاة من وجوب تقديم الحال على ( العامل ) فيه . هذه الأغراض تقوم على الإشارة إلى مواقف متعلقة بعملية الخلق هي ( خلق الإبل ، وخلق السماء ، وخلق الجبال ، وخلق الأرض ) ، وهذه المواقف لم يكن ثمة سبيل لبشر أن يعاينها ، فالأمر هنا على ( الاعتبار والعظة ) المستفادة من بيان (الكيفية) التي تمت بها عمليات الخلق هنا . فتوظيف ( كيف ) كحال مقدمة على ( عاملها ) تفتح باب التصور الذهني مصحوبا بالانبهار من عظمة عملية الخلق المتنوعة هنا ، ومن ثم فإن هذا التصور يفضي بنا إلى الانبهار بالخالق – جل وعلا – وهذا هو المراد من وراء التقديم في هذه الآيات .
أما توظيف (شبه الجملة ؛ الجار والمجرور) كحال مقدمة على (عاملها) ، فقد ورد في (ثلاث آيات) هي :
- قوله تعالى : ) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ( سورة المدثر آية رقم ( 40 ) .
- قوله تعالى : ) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ( سورة المطففين آية رقم ( 23 ) .
- قوله تعالى : )َ عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ( سورة المطففين آية رقم ( 35 ) .
فمدار التقديم هنا بالدرجة الأولى على جواز هذا التقديم لا وجوبه ، وهذا يفضي بنا إلى استنتاج أن التقديم كان بهدف الحفاظ على النسق الإيقاعي للفواصل في هذه الأبيات .
* فآية سورة المدثر الفاصلة فيها مبنية على حرف ( النون ) ، والذي هو أحد الحروف التي بنيت عليها فواصل السورة ، إذ ورد ممثلا في ( 10 عشر آيات ) من آيات السورة . ويمكن القول أيضا بأن تقديم ( الحال ) هنا على غرض بلاغي دقيق وهو( البشارة ) هذه البشارة للمؤمنين يجعل الأمر على كونهم في الجنات ( يتسامرون ) . ومن هذه المسامرات سؤالهم عن ( المجرمين ) . لكن لو دار الأمر على الابتداء بالسؤال أولا ثم بناء الحال ( شبه الجملة ) على ( الفعل ) لكان الأمر على غير ذلك ، فيكون مدار السياق على أن السؤال هنا على وجهه ، لا على وجه المسامرة .
* أما الآيتان رقم ( 23 ، 35 ) من سورة المطففين فهما على مدار السياق السابق نفسه ، على مراعاة التشاكل الصوتي والإيقاعي للفاصلة والتي هي مبنية على حرف ( النون ) الذي ورد ممثلا في نهاية الفواصل في (27 سبع وعشرين آية) من جملة آيات السورة البالغ عددها (36 ست وثلاثين آية). وعلى غرض( البشارة ) المتوقع من تقديم الحال ( شبه الجملة ) ، و( النكاية ) بأعداء الله الكافرين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا .هكذا تسير دلالات توظيف الفاصلة القرآنية في سياق التقديم في جملة الحال .
3- تقديم النعت على منعوته :
اتفق النحويون على أن النعت إذا صلح لمباشرة العامل وكان معرفة جاز تقديمه ، على أن يعرب المنعوت بدلاً منه (36) . ويرى ابن عصفور : أنه لا يجوز تقدم النعت على المنعوت إلا ما سمع منه وهو قليل (37) . هذا وللعرب في مثل هذا الأسلوب وجهان :
الأول : تقديم النعت وإبقاؤه على ما كانت عليه قبل التقديم ، أي على حكمها الإعرابي .
والثاني : أن تضاف الصفة المقدمة إلى الموصوف . أما إذا كان المنعوت نكرة ، وتقدم على منعوته ، فإنه ينصب على ( الحال ) .
هذا وقد ورد تقديم النعت على المنعوت في ( حزب المفصل ) في ( آيتين ) هما :
- قوله تعالى : ) وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ( سورة الحاقة آية رقم ( 17 ) .
- قوله تعالى : ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ( سورة الحاقة آية رقم ( 18 ) . فقد قدم النعت هنا (شبه الجملة) في الآية الأولى الظرف المكاني (فوقهم) مقدم على المنعوت الفاعل( ثمانية) . ووفقا لرأي مكي (38) فإن ( فوقهم ) هنا أصلح ( للحالية ) منها للنعتية ، لأن نعت النكرة إذا قدم عليها نصب على الحال . لكننا هنا نخرج هذا النعت على النعتية تقيداً بمفردات النحويين في هذا الأمر . والفاصلة هنا متمثلة في الفاعل (ثمانية) وسياق الكلام -في غير القرآن- ( ويحمل ثمانيةٌ عرشَ ربك فوقهم يومئذ ) . لكن الذي حدث هنا هو توالي ألوان من التقديم تمثلت في :
1- تقديم المفعول ( عرش ) على الفاعل ( ثمانية ) على غير قياس .
2- تقديم النعت ( فوقهم ) على المنعوت ( ثمانية ) على غير قياس .
3- تقدم الظرف الزماني ( يومئذ ) بحرية ، إذ لا رتبة له .
هذه الألوان من التقديم تضافرت معاً تشكل منظومة سياقية ودلالية في هذه الآية مدارها (التسليم التام ) بالقدرة العظمى للمَلِكِ - جل شأنه - فمن يَحمل وكيف يَحمل ؟ أيَحمل أم يُحمل ؟ . كما أن إرادة الحفاظ على النسق الصوتي والإيقاعي المتولد من بناء الفاصلة على ( تاء التأنيث المتحركة ) والتي وردت ممثلة في آيات السورة في (23 ثلاث وعشرين آية) من (52 اثنتين وخمسين آية) هي جملة آيات السورة . فهذه التداخلات السياقية كان لها أكبر الأثر في التوجيه البلاغي لهذه الآية .
* أما الآية الثانية فهي على المدار نفسه ، لا تكاد تختلف في دلالاتها إلا في كون النعت شبه الجملة المقدم هنا ( جار و مجرور ) وهو ( لكم ) مقدم على المنعوت النكرة ( خافية ) . فالدلالات في هذه الآية هي نفسها المنتجة من سياق الآية السابقة .
تلك هي أهم دلالات ورود الفاصلة في سياق التقديم في جملة النعت .
4- تقديم أشباه الجمل :
يقصد بأشباه الجمل هنا ؛ الظرف ، والجار والمجرور . وتوظيف الظرف والجار والمجرور في سياق تفصيلات " التقديم والتأخير " أمر غريب إذ أن التقرير النحوي لأشباه الجمل أنهما مما لا رتبة له ، والعرب تتوسع فيها ما لا تتوسع في غيرهما . لكننا في سياق البحث عن " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية وجدنا لأشباه الجمل دوراً كبيراً ومؤثراً في توجيه تفصيلات " التقديم والتأخير " في الفاصلة القرآنية . فقد أحصينا مواضع كان لأشباه الجمل فيها الكلمة العليا في توجيه دلالات الفواصل القرآنية . هذه المواضع تمثلت في :
1- تقدم الظرف على المفعول به ، والذي ورد ممثلاً في ( آيتين فقط ) .
2- تقدم الجار والمجرور على المفعول به ، والذي ورد ممثلاً في ( 52 اثنتين وخمسين آية ) .
3- تقدم الجار والمجرور على المفعول المطلق ، والذي ورد ممثلاً في ( 8 ثماني آيات ) .
4- تقدم الجار والمجرور على الحال ، والذي ورد ممثلاً في ( 5 خمس آيات ) .
5- تقدم الجار والمجرور على المتعلق به ، والذي ورد ممثلاً في ( 53 ثلاث وخمسين آية ) .
أي أن أشباه الجمل أسهمت في توجيه سياقات التقديم في الفاصلة القرآنية ، وتمثلت في (110 مائة وعشر آيات) بنسبة (29.6%) من جملة الآيات التي تقاطعت فيها الفاصلة القرآنية مع سياقات " التقديم والتأخير " .
ولتقديم أشباه الجمل دلالات عديدة ، يقول العلوي : " اعلم أن الظرف لا يخلو حاله إما أن يكون وارداً في الإثبات ، أو يكون وارداً في النفي . فإذا ورد في الإثبات فتقديمه على عامله إنما يكون لغرض لا يحصل مع تأخيره ، فلا جرم التزم تقديمه ، لأن في تأخيره إبطالاً لذلك الغرض " (39 ). وعلى هذا الرأي فإن تقديم أشباه الجمل يكون على إفادة غرض ما من وراء هذا التقديم ، هذا الغرض ينتفي إذا تأخرت أشباه الجمل .
ولنحاول الآن الوقوف على حركية ( أشباه الجمل ) في هذه التركيبات للوقوف على مدى ما أسهمت به من دلالات في سياق ( الفاصلة القرآنية ) . فمثلاً قوله تعالى : ) إِنَّ هَؤُلاَء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًاً ثَقِيلاً( سورة الإنسان آية رقم (27) ضربت هذه الآية للدلالة على تقدم (الظرف) على ما هو أولى منه بالتقديم ( المفعول به ) فأصل الكلام - في غير القرآن - : ( إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون يوماً ثقيلاً وراءهم ) . وما حدث هنا هو تقديم ظرف المكان ( وراءهم ) على المفعول به ( يوماً ) . والتقديم الذي حدث هنا على غرضين :
الأول : بلاغي يتعلق بمدلول كلمة ( وراءهم ) التي تشير إلى ( اليوم الآخر ) ، فكأن هؤلاء المعرضين عن الآخرة ، استقبلوا ( العاجلة ) الدنيا بوجوههم ، وأداروا الظهور للآخرة ( وراءهم ) فصارت بمنزلة ( الوراء ) مع كونها هي ( الأمام ) . وهذا الجمال في الآداء التعبيري بهذا اللفظ عضد الغرض من وراء وصف المفعول به هنا ؛ وهو ( الإشعار بالغفلة الشديدة ) . والذي عضد أيضا هذا الغرض وصف المفعول به بالصفة ( ثقيلاً ) ، فهذا الوصف أمعن في إبراز الغفلة ، وهول ما ينتظرهم في هذا اليوم .
والغرض الثاني: إيقاعي يتعلق ببناء الفاصلة في الآية ، والتي بنيت على حرف (اللام المعانق لألف المد) ، هذا الحرف الذي بنيت عليه ( 9 تسع فواصل ) في السورة . ومعظم فواصل السورة على حرف ( الراء المعانق لألف المد ) ، وحرف ( الميم المعانق لألف المد ) وهذه الأحرف الثلاثة جميعها متقاربة المخارج ، ولذا فالقول بالتشاكل والمماثلة الصوتية يكون حاضراً في هذا المقام . ويكفينا أن نشير إلى شكل الآية لو لم يقاطع سياقها "التقديم والتأخير" فشكلها - في غير القرآن - يكون كالتالي : (ويذرون يوماً ثقيلاً وراءهم ) .
فاعتماد الفاصلة هنا سيكون كلمة ( وراءهم ) مما سيشكل نبوا موسيقياً وإيقاعياً في سياق فواصل السورة . ومن هنا تأتي الإشارة إلى الأهمية البلاغة لهذا التقديم في الحفاظ على سياق الفاصلة في السورة .
* أيضا قوله تعالى : ) مَالَكُم لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا( سورة نوح آية رقم ( 13 ) . تم تقديم الجار والمجرور (لله) على ما هو أولى منه بالتقديم المفعول به (وقارا) . هذا التقديم يفنده الزمخشري بقوله : " ) لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا( لا تأملون له توقيراً أي تعظيما . والمعنى مالكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب . و( لله ) بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة للوقار " (40) . وقد أحسن الزمخشري في هذا التحليل البلاغي ، لكني لم أفهم مقصده بكلمة ( صلة ) ولعل مقصده أن يكون ( صفة ) لهذا المفعول .
والغرض المتوخى من وراء توظيف هذا التقديم هو (التهويل) إذ كيف لا ترجون ( لله) وقارا ؟! ، فهذا التقديم هو مناط الاهتمام في الآية .
كما أن للتقديم دوراً في الإسهام في المشاكلة الصوتية للفاصلة في السورة ، إذ هي مبنية في معظم فواصلها على حرف ( الراء المعانق لألف المد ) ، وتكرر ذلك في ( 17 سبع عشرة آية ) من إجمالي ( 28 ثمان وعشرين آية ) هي جملة آيات السورة .
* وفي قوله تعالى : ) وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ( سورة التغابن آية رقم ( 13 ) تقدم الجار والمجرور (على الله ) على المتعلق به الفعل ( يتوكل ) ، على قصد ( القصر ) أي أنه لا يجوز للمؤمنين أن يتوكلوا إلا على الله وحده . فهذا ( القصر ) هو عين الحقيقة المرادة في الآية . والآية مصدرة بالتوحيد ، ونفى الإشراك ، ولذا كان لا بد من اتباع هذا التوحيد بكمال الاتكال على الله - عز وجل - . يقول البيضاوي : " لأن إيمانهم بأن الكل منه يقتضي ذلك " (41) . فالتوحيد يقتضي حسن التوكل على هذا الإله الواحد المتكفل بقضاء حوائج خلقه .
* وفي قوله تعالى : )وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ( سورة المدثر رقم ( 7 ) تقدم الجار والمجرور ( لربك ) على المتعلق به الفعل ( اصبر ) . هذا التقديم قائم في المقام الأول من أجل الحفاظ على التشاكل الصوتي في الفواصل المتتالية والمبنية على ( حرف الراء ) من أجل إشعار المتلقي بأهمية ما يتلى .
يقول د . السيد خضر : " الفاصلة عنصر أساسي من عناصر التصوير باللوحة القرآنية ، حيث أن اللوحة القرآنية تتبع كل آياتها تقريباً فاصلة واحدة أو فواصل متقاربة الإيقاع " (42) . هذه اللوحات هي مكونات إبداعية للسور القرآنية . ففي كل سورة تتكرر اللوحات وتتضافر فيما بينها لتؤدي أهدافا ومقاصدا من وراء هذا التوظيف الدلالي الرائع .
وفي سورة المدثر تبدأ بنداء الله تعالى لرسوله r ، وإسداء بعض الأوامر والنواهي إليه في الآيات من ( 1- 7 ) ، ونجد الفواصل في هذه اللوحة تنتهي ( براء ) قبلها حرف متحرك مع تقارب في الوزن ، ومنها ( المدثر ، وأنذر ، وكبر ، طهر ) (43) .
والسؤال الآن لم اختيار حرف ( الراء ) هنا في هذه الآيات ؟! والإجابة نجدها في الإحصاء الذي قدمه لنا د . السيد خضر حول فواصل القرآن إذ احتلت ( الراء ) المركز الثالث في أكثر فواصل القرآن عددا ، وتكررت ( الراء ) في الفواصل القرآنية في ( 690 ستمائة وتسعين آية ) بنسبة ( 11.04 % ) من جملة فواصل القرآن (44) .
وبناء على هذه الملاحظة نشير إلى أن ( حرف الراء ) يتميز بنسبة وضوح سمعي كبيرة ، هذا الوضوح السمعي جعله يتكرر في فواصل القرآن . كما أن بناء الفاصلة على شكل ( الراء الساكنة ) لا يتمثل إلا في مواضع ( الحث والاستنفار ) كما في آيات سورة ( المدثر ) التي بين أيدينا فهي محققة للمراد من الأمر والنهي للنبي r ، وهو هذا الاستنفار .
هكذا تسهم ( أشباه الجمل ) في تعضيد سياقات ( الفاصلة ) في تقاطعاتها مع سياقات " التقديم والتأخير " فيها . كما أن الهدف الأسمى لألوان " التقديم والتأخير " في أشباه الجمل هو الحفاظ على التدفق الإيقاعي ، والتشاكل الصوتي للفواصل القرآنية في سياقات ( حزب المفصل ) .
القسم الرابع : ما يختص بالفصل :
لأشباه الجمل دور آخر غير الذي تقوم به بالنسبة للمتعلق به . هذا الدور يتمثل في كونها ( فواصل ) بمعنى ( معترضات ) بين ما يكون كالجملة الواحدة . وقد قرر النحويون مواضعاً لا يحسن فيها الفصل ، ويقبح . من هذه المواضع التي قرروها (45) :
1- الفصل بين الصلة والموصول .
2- الفصل بين العدد وتمييزه .
3- الفصل بين الجار والمجرور .
4- الفصل بين ( قد ) والفعل بعدها .
5- الفصل بين المضاف والمضاف إليه .
6- الفصل بين الصفة والموصوف .
7- الفصل بين حرف العطف وتاليه .
8- الفصل بين الحروف النواصب وبين منصوبها .
9- الفصل بين ( لم ) ومجزومها .
10- الفصل بين كم الخبرية ومميزها المجرور .
أما بالنسبة للفصل في( حزب الفصل ) فقد وقع في سياق ( الفاصلة ) على خمسة أضرب هي :
1- الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور .
2- الفصل بين اسم كان وخبرها بالجار والمجرور .
3- الفصل بين اسم إن وخبرها بالجار والمجرور .
4- الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور .
5- الفصل بين الصفة والموصوف بالجار والمجرور .
و الأضرب الثلاث الأولى هي في حقيقة أمرها نوع واحد ، إذ يمكن رد كل من ( الفصل بين اسم كان وخبرها ) ، و ( الفصل بين اسم إن وخبرها ) إلى النوع الأول ، وهو الفصل بين (المبتدأ والخبر) واعتماد ذلك نوعاً واحداً . هذا وقد ورد ( الفصل ) بين ركني الجملة الاسمية ( المبتدأ والخبر ) و( اسم كان وخبرها ) و ( اسم إن وخبرها ) ممثلاً في ( 83 ثلاث وثمانين آية ) .
أما الفصل بين ( الفعل والفاعل ) فتمثل في ( 14 أربع عشرة آية ) . وتمثل الفصل بين ( الصفة والموصوف ) في ( 7 سبع آيات ) .
ومما يجب ملاحظته هنا أن ( الجار والمجرور) هو ( الفاصل ) بين أركان هذه الجمل ، كما أنه - في أصل الكلام - كان يجب أن يكون هو ( الفاصلة ) التي تختم بها الآيات . إلا أن محكمات السياق والدلالات هي التي سمحت له بهذا التقديم غير الرتبي ، والفصل بين هذه الأركان . فمثلاً في النوع الأول كان يجب أن يكون ( الجار والمجرور ) هو ( الفاصلة ) ، فلما حدث هذا الفصل ، تحولت مركزية الفاصلة إلى ( الخبر ) . ويمكننا تمثيل ما حدث في الجدول الآتي :
النوعوع
الفاصلة في غير القرآن
الفاصلة في القرآن
الفصل بين المبتدأ والخبر بالجار والمجرور .
الجار والمجرور
الخبر .
الفصل بين اسم كان وخبرها بالجار والمجرور .
بالجار والمجرور
خبر كان .
الفصل بين اسم إن وخبرها بالجار والمجرور .
بالجار والمجرور
خبر إن .
الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور .
بالجار والمجرور
الفاعل .
الفصل بين الصفة والموصوف بالجار والمجرور.
بالجار والمجرور
الصفة .
جدول رقم ( 3)
إذن تم العدول عن وضعية ( الركن الثاني ) من هذه الأنماط التركيبية للجمل السابقة لإحلال عنصر آخر في وصفية أخرى . كل هذا لإرادة بناء الفاصلة في هذه المواضع على نمط معين .وقد نتساءل ألا يمكن عد ( الفصل ) بين هذه الأركان من قبيل تقديم أشباه الجمل ؟ ! والإجابة أن وضعية ( الجار والمجرور ) هنا هي التي حكمت له بحكم ( الفصل ) ، لوقوعه بين هذه الأركان .
ولنحاول الآن تلمس الدلالات لهذه المواضع . فمثلاً قوله تعالى : ) ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ( سورة ق آية رقم ( 44 ) . فقد فصل هنا بالجار والمجرور ( علينا ) بين الخبر( حشرٌ ) الموصوف وصفته ( يسيرٌ ) . فالفصل هنا فصل بين ( الصفة والموصوف ) . وأصل الكلام - في غير القرآن - : ( ذلك حشرٌ يسيرٌ علينا ) . إلا أن إرادة المحافظة على التماثل الصوتي والإيقاعي للفاصلة في السورة كان هو الموجه الأول لهذا الفصل ، رغم أن بناء الفاصلة في سورة ( ق ) على حرف ( الراء ) لم يكرر إلا في ( آيتين ) فقط ، منهما هذه الآية التي بين أيدينا . إذن الموجه هنا هو الحفاظ على نمط سياقي وإيقاعي مقبول ، إذ لو بنيت الفاصلة هنا على كلمة ( علينا ) ، وأردنا وصل الآية بما بعدها لشكل ذلك نبوا إيقاعياً وصوتيا ملحوظاً .
كذلك قوله تعالى : )فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى( سورة النجم آية رقم (10) . تم الفصل هنا بالجار والمجرور ( إلى عبده ) بين الفعل ( أوحى ) والفاعل الاسم الموصول (ما) . هذا الفصل الذي كان بغرض الحفاظ على النمط السياقي والإيقاعي للفاصلة في السورة ، والتي بني مقطعها على ( الألف المقصورة ) بالنسبة للأسماء ، وعلى ( ألف المد ) بالنسبة للأفعال . والفاصلة هنا ( أوحى ) مبنية على ( ألف المد ) الذي تكرر في فواصل السورة في ( 28 ثمان وعشرين آية ) بنسبة ( 45% ) من جملة آيات السورة . وهذا الفصل بين الفعل والفاعل بالجار والمجرور كان مراداً منه غرضان هما :
الأول : الحفاظ على سياق المماثلة والمشاكلة في بناء الفاصلة في السورة .
والثاني : بلاغي ، يتمثل في إفادة الاختصاص ونفي المشاركة ، فالوحي لا يكون إلا ( لعبده ) r .
وهكذا يدور ( الفصل ) على مدار سياقي ودلالي يهدف من ورائه ، ويقصد من توظيفه .
وخلاصة القول :
إن " التقديم والتأخير " في سياق الفاصلة القرآنية كان متمحوراً في المقام الأول حول المشاكلة والمماثلة الصوتية ، إذ هي مناط الأمر كله . ولم يمنع ذلك أداء سياقات " التقديم والتأخير" لأغراض بلاغية متضافرة مع سياق الفاصلة .
على أنه يجب أن نلاحظ أن " التقديم والتأخير " في الفاصلة في سياق الجملة الفعلية كان أكثر استحواذاً وهيمنة ، إذ بلغ عدد الفواصل المقدمة في سياق الجملة الفعلية كان أكثر استحواذاً وهيمنة ، إذ بلغ عدد الفواصل المقدمة في سياق الجملة الفعلية (217 مائتين وسبع عشرة آية) بنسبة ( 53.9 % ) على حين بلغ عدد الفواصل المقدمة في سياق الجملة الاسمية ( 185 مائة وخمس وثمانين آية ) بنسبة ( 46 % ) من إجمالي الآيات . وهذه الهيمنة يجب تفسيرها في إطار إفادات التعبير بالجملة الفعلية ، والتي تدور على مدارات التجدد ، وهذا مناسب لسياقات النص القرآني ، التي تتسم بالعطاء المستمر ، والمنح المتواصل ، وهذا أحد إعجازات هذا النص المعجز .
وبحق فإن الفاصلة القرآنية تحتاج إلى دراسة متكاملة تضم في جنباتها المستويات الأربع للغة من حيث النحو والصرف والدلالة والصوت ، للوقوف على الشبكة الدلالية التي تحكم النسيج السياقي للفاصلة ، وتوظيف ذلك في إطار النسيج القرآني كله .