بعثرة

إن الحديث الذي أريد الخوض فيه هو ...... ! .. أووه

مهلاً مهلاً عزيزي القارئ .. هناك ذبابة ملحةً في مهاجمة المكان فليس باستطاعتي أن .. أن أخوض في الموضوع الآن .. مهلاً

.. الحمد لله .. لقد اختفت لأبدأ الآن .. إن الحديث الذي أردت الخوض فيـ ... آااه يااااا إلهي ... ابتعدي .. ابتعدي .. هيا
اعذرني أيها القارئ سأحضر المبيد فاليوم هو نهاية تلك الذبابة البغيضة


أجل .. أجل .. لقد قتلتها .. حمداً لله لأبدأ إذن .. إن الحديث الذي أردت الخوض فيه هو ... هو .. نسيت .. يااا إلهي .. ماذا أردت أن أكتب؟ أووه لقد أنستني هذه الذبابة الجانية المجني عليها ما أردت الخوض فيه لا يهم .. سأخبركم حالما أتذكر إنما لا أستطيع أن أوقف الآن يديّ عن الكتابة واعلموا .. أني لا أستطيع أن أعيش إلا إذا كتبت، وإني أكتب لأني محتاجة إلى الكتابة، فأنا أكتب من خلال ما يمر بي أو ما أشعر به أو ما أرى ممن هم حولي، فكلما أرى أو أشعر، تنهال عليّ أسطري وخواطري .. كوابلٍ صيّب، فيبللني .. دون احتساب
علمتُ أن الله سبحانه وتعالى قد صنع لي في هذا الأمر، وأنه كتب في لوح مقاديره ما كتب للكُتّاب من الفصاحة، فبالله بالحق أحمد .. وأشكر.

سابقاً .. كانت أمي تخاف عليّ من هذا الجنون.. جنون الكتابة لِأَلاّ يؤثر سلباً على مستوى دراستي ــ فلم أكن أدرس إلا قليلاً قليلاً ــ فقد كانت الكتابة بأشكالها السالب الوحيد لوقتي حينذاك فكانت تحاول أن تحُول
بيني وبينها كما يحول الأب بين ولده وبين ما يعرض له من فتن الزمان فكنتُ لا أستطيع أن ألمّ بقلمي وأكتب إلا في الساعة التي آمن فيها على نفسي أن يلمّ أحد بأمري.. وكثيراً ما كانت تهاجمني إذا عثرَتْ على قلم.. وسط أوراق ملئى بالخواطر الروحانية.. أو كتاب من كتب الحياة ــ الاجتماعية والنفسية والدينية ــ التي تكبرني سناً ..
أجل .. فلم تكن ساعة من الساعات أحب إليّ ولا آثر عندي من ساعةٍ أخلو فيها بنفسي وأمسك على بابي، ثم أكتب، أو أسلم نفسي إلى كتابي، وأحلّق في هذا الجو البديع من الخيال، أضحك مرة، وأتوه مراراً، أستيقظ حيناً، وأغفو أحياناً، حتى يرميني الباب ببعض الطارقين .. فأصحو من يقظة الأدب الجنونية، وأستعيد نفسي ملطخة.. إذ كنتُ غارقة في وحل الأدب .. وفنونه
وقد يسألني كثير من المعارف والقرّاء : (كيف أكتب الذي أكتب) كأنما يريدون أن يعرفوا الطرق التي أسلكها إليها فيسلكوها معي، وخيرٌ لهم ألا يفعلوا
ولكن ..كان من أكبر ما أعانني على أمري في الكتابة بعض الأمور؛ أولها: صدق مشاعري. وثانيها: أني ما كنتُ أحمل نفسي على الكتابة حملاً؛ أي لا أجبرها، ولا أجلس إلى طاولتي مفكرة: يجب أن أكتب شيئاً، وثالثها: أني ما أكتب سوى ما تفضي به مشاعري. رابعها: البحث عن كتب متنوعة فصيحة لأقرأها، فكنت منذ السنة السادسة من عمري، أقرأ من منثور الشعر والحياة العامة وشتى أنواع القصص التي ترتبط بالطبيعة ما شاء الله أن أقرأ.
وهكذا.. هُذِّب بياني وقُوّم لساني، وكثرت مادة علمي باللغة العربية الفصيحة والأدب، لأمسك القلم بشمالي وأكتب الذي أكتب
هذا .. وكل ما كان من أمري، وأنني كنتُ ولا زلتُ امرأة أحب الجمال، والمنطق، والدين وروحانيته، وأفتتن بهم.

آه أجل .. لقد تذكرت الآن ما أردت الخوض فيه ..
إن الحديث الذي أريد الخوض فيه.. هو ما يتعلق بالإنسانية، وكل ما أريده هو أن أخلُ إلى نفسي عدة أشياء أراها قد حوت خير ما عند الإنسانية من فن وأدب، ومن فلسفة وعلم، ومن عمل وأمل، ومن تفكير وتدبر، ورؤية ونشاط..
أخلو إلى نفسي أمام هذه الأشياء، وأفكر: "أخشى أن تؤذن بزوال، وأنّ الإنسانية قد آن لها أن تستريح من جهدها الخصب العنيف، وأن تعود إلى هذه الراحة المجدبة التي يملؤها الذل والعقم والهوان".
أخلو مع نفسي أمام هذه الأشياء، وأراها قائمة باسمة يملؤها الفخر والتيه ويزدهيها الأمن، ثم أراها وقد مسّتها لفحة من لفحات عدوٍ ما، فاستحال ابتسامتها عبوساً، ونضرتها ذبولاً، وكبريارها ذلاً وخنوعاً، وإذا أنا مدفوعة متصلة إليها؛ فأنا فيها أنعم لأنها ناعمة، وأبسم لأنها باسمة، وأبتئس لأنها مبتئسة، ويدركني الموت لأنه أدركها

كلا لا ينبغي أن أصمت حتى أصير إلى مثل ما تصير إليه نعم سأحُول بين الإنسانية وبين ما يتمثل كعدوٍ حتى لا تبلغها قذائفه، أما هو؟ لا ينبغي أن يعيش وأما أنا؟ فمقيمة فيها لا أريم، أعيش فيها مستمتعة بما تمنحه من فن وعلم وأدب بأوفر الحظ مما أبيح لها من لذة العقل والقلب.

يا أيها القارئ؛ لا أريد أن أغلُ ــ رغم أني لم أغلُ ــ ولا أن أصور لم نفسي في صورة البطلة، وأنا أعلم أنك تنكر هذا مني، وتراه جنوناً أو تراه إسرافاً، ولكن ما رأيك في أني أرى هذا طبيعياً وأفكر به حين أكتب وحين أعمل، وما أرى بذلك بأساً أعلم أني ... أَعلم أني سـ ... سـ ..
ما هــــذا .. ذبابة أخرى؟؟ ..
هذا يدل على وجوب إنهاء الحديث، وإلقاء التحية :
إلى اللقاء

بقلم : إسراء الراشد

المراجع

المعهد العربي للبحوث

التصانيف

عقيدة