يستطيع اي مراقب ان يرى انحسار الاثر الشارعي والكثافة العددية في المسيرات الاخيرة , ويستطيع الرسميون الاتكاء على القراءة الرقمية والاستكانة اليها تبعا لذلك , لكن المفارقة التي لا يتحدث عنها كثيرون , هي الدلالة الشعاراتية المرفوعة في كثير من المسيرات والتي باتت تخدش الحياء الوطني والضمير الجمعي للاردنيين وسط استكانة شبه رسمية لذلك .

طبعا ليس المقصود ان تتدخل الاجهزة الرسمية والحكومية لقمع هذه الشعارات المضللة « بفتح اللام « وكسرها ايضا « , بل على الحكومة ان تعيد قراءة الشعار وتسعى لفكفكته عبر اجراءات مباشرة في كشف بؤر الفساد التي يتحدث عنها الشارع بشكل يؤذي المسيرة الاقتصادية والسمعة الوطنية الاردنية وبمغالاة احيانا وبانتقائية سريالية .

ثمة مستقر في وجدان الشارع بأن سبب التراجع الاقتصادي والازمة المعاشية هو استشراء الفساد والمفسدين وليس اي عامل اخر غير هذا العامل , الذي بات يقينا في وجدان الناس وعقولهم ويسنده شغب الصالونات السياسية وشعارات الاحزاب المناكفة لا المعارضة , لأن المساحة هائلة بين المعارضة التي تعلم علم اليقين ان الحرب على الفساد ليست بهذه السطحية , فالفاسد ليس غبيا حتى يترك ادلة تدينه , كما ان التقاضي له اجراءات طويلة وفيها ثغرات قانونية يمكن لمحامين شطّار ان ينفذوا منها ونقع امام مأزق حقيقي بإدخال القضاء ونزاهته في خلاط السياسة والاحتقان الشعبي , اضافة الى ان المتهمين بالفساد يلجأون الى ابرز الاسماء واكثرها ثقة في عالم المحاماة .

اما الاحزاب المناكفة فتريد دغدغة العواطف والحديث عن الجدية وغيابها بوصفها قرارا حكوميا خالصا وليس آلية معقدة تتطلب دعما مجتمعيا وقانونيا , فالدعم المجتمعي او الاسناد الشعبي سيجعل اسماء قانونية كثيرة تحجم عن المرافعة في القضايا المؤكدة او التي تطالها شبهة اخلاقية رغم قوتها القانونية او عدم وجود ادلة قانونية .

حروب الفساد في العادة حروب شاملة ومسنودة بقوى ضغط ولوبيات دعم , ولا تترك لشعار في مظاهرة او مسيرة على شدة اهمية ذلك كخطوة اولى ولكن على ان يطالها التطور بالاسناد والدعم وجمع الملفات وإسناد الحكومات او كشف زيف حربها على الفساد , وما يجري في مجتمعنا للاسف ما زال في الطور الاول ولم ينتقل الى طوره الثاني الاكثر اهمية ودلالة .

دلالات الحديث الجمعي عن الفساد دلالات خطيرة وغير مهنية , فالمرحلة الاقتصادية الحالية تتطلب حزما في الانفاق وترشيدا في الصرف من اجل ضبط العجز في الموازنة وعدم انتظار دعم قد يأتي وقد لا يأتي او يأتي بكلفة عالية قد تطال ثوابت واستراتيجيات وكرامة وطنية , ولا اخالف الصواب ان قلت ان قرارا مثل استخدام السيارات زوجيا وفرديا في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي لا يمكن ان يمر شعبيا في ظل الانطباع القائم بأن الفساد هو السبب الوحيد , وبالتالي نبقى اسرى عجز المحروقات واسرى عجز الاقبال على اجتراح حلول حقيقة .

كل الخشية ان تستكين القوى السياسية الرسمية والقوى السياسية الراشدة الى القراءة الرقمية لحجم المسيرات وتنسى الدلالة الاخطر والابرز في الحراك المحلي القائم على فرضية ان الفساد ولا شيء غيره هو السبب , فالفساد موجود دون شك فلسنا مجتمعا ملائكيا ولكن بشكله التقليدي فلا احد يتحدث عن الفساد الاداري والقرارات الخاطئة التي كلفت الدولة اضعافا مضاعفة لاختلاس هنا او هناك , كما لا يتحدث احد عن منجزات على الارض بكلف عالية وهذه موجودة على الارض الاردنية ولم يحملها فاسد ويهرب بها .

الخشية ان يخدعنا سراب الرقم وننسى ما يمور تحت الرماد فهناك خداع بصر سياسي كما هو في العلوم الطبيعية والصحراء وعلينا ان ننتبه ونعيد تقييم الاشياء بعين العقل والوعي والا ننجرف وراء السراب وننسى المنجز او ننسى الفساد المستتر خلف اسماء حركية .


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عمر كلاب   جريدة الدستور