للان لا احد يعرف من هو كوبان صاحب الاسم الاكثر شهرة في موروث الاغنية الاردنية، الذي نغنيها كثيرا "تخسى يا كوبان ما انت ولف لي.. ولفي شاري الموت لابس عسكري" فهو مجرد اسم علق في ذاكرة طفل كانت امه تهدهده على انغامها لينام، ظلت الكلمات الاولى راسخة في ذهن الطفل ليستحضرها يوم صار رجلا على كتفيه مهام جسام.

الطفل كان وصفي التل، والاغنية حضرت في وعيه يوم استهدفت آلة الصهاينة جيش العرب، وكذلك استهدفه المحيط كله، فكانت الموهبة المتفجرة قيادة وطهارة تحتاج الى لحظة لشدّ الازر والاهم ازر العسكر، فالعسكر هو وتر الوطن المشدود من الرمثا الى العقبة، فتجلّت العبقرية عن اغنية كي تواجه الاف التعليقات السياسية وانتجت تماسكا وإقبالا على الجيش صبيحة يوم بثّ الاغنية.

وصفي وحسني فريز، الذي ورث مهابة الكلمة بعد وفاة الشيخ رشيد الكيلاني، وكل ما امامهما مقطع وحيد علق في ذاكرة وصفي ابان طفولته، وعلى فريز ان يكمل الاغنية بنفس الرتم ونفس المهابة، ولدت الكلمة وتفجّرت على لسان فريز الكلمات وبدأ البحث عن اللحن والصوت.

من الضفة الغربية، كان صوتها هادرا وعذبا ومن روابي جنين وطولكرم جاء الصوت الجبلي ليصدح بالحان جميل العاص الذي اضنى وصفي وهو يبحث عنه الى ان التقطته سيارة نجدة من وسط البلد، فتم اغلاق الباب عليه الى ان يكتمل اللحن على اوتار "البزق" آلة جميل العاص الصدّاحة وظلت الاذاعة كلها مشغولة بالتسجيل الذي تم بحضور الحسين عليه الرحمة.

كان زمان وصفي، زمان الاوتار المشدودة سهاما ونبالا وغناء، زمان يكون فيه الرجال على مستوى هامات الاوطان، يستنجدون بالذاكرة كي تحمي الحاضر وترسم المستقبل، اغنية، مجرد اغنية اعادت استنهاض الهمم فقد حدث زلزال في البلاد يومها بين ربع الكفافي الحمر والبوريهات ومشى الجندي مختالا بين الربوع والمرابع.

نروي الحكاية كي نستذكر وصفي روحا ومهابة وسلوكا، كي يقرأ جيل الربيع العربي ان ثمة سلوكا تليدا يسند واقعا نرسمه بريشتنا لا بألوان الساحات والرايات المتضاربة، واقع نعيد فيه الهيبة والمهابة، فلا باخرة تفرّ جهارا نهارا ونلقي القبض فيه على سلحفاة ضالة، واقع تمشي فيه الصبايا محروسات برنين صوت الرجولة لا بزوامير سيارات الشرطة القادمة كي تفض مشاجرة في جامعة على مقربة من قبر وصفي.

فلو علم الشباب من ساكن القبر لما رجموا مقاعد دراستهم ووجدان التعليم العالي المسفوح يوميا، ولجلس واحدهم يقرأ ما تيسر لروح وصفي وروح الرجال الرجال الذين بنوا واشادوا وطنا نبيلا كريما ولما استحضرنا قول الشاعر "يا ربّ حي رفاة القبر مسكنه.. ورب ميت على اقدامه انتصبا".

ولما ناشدناه مثل ثكالى "يا ابن عرار الا سيف تؤجره.. فكل سيوفنا قد اصبحت خشبا".

فنحن في زمان تختلط فيه الاشياء خلطا عجيبا، نضغط على اعصاب الوطن باسم الحب له، نفتته باسم السعي لقوته، نجزّ عشبه جزّا وندّعي زراعة دروبه، نريد زمان وصفي وزامننا نريد وطنا نغني له لا نبكي عليه.

نريد رجالا مثل وصفي يخوضون "لجّ" الوطن متسربلين بالنزاهة والفصحى والعسكر، فالوطن بلا بحر نعم، لكن قلوب رجاله تفيض بحارا بحبه والايمان به.

لك الرحمة يا وصفي.. ولنا بعض ذكريات وايمان لا يلين.


المراجع

مكتبة الجامعة الأردني

التصانيف

صحافة   عمر كلاب   جريدة الدستور