ليس الاختلاف بين دمشق وبغداد بالياسمين فقط، ولا بخلاف البعث وتصنيفاته بين البعث الاشتراكي او البعث العربي، المسافة اوضح كثيرا في الهلال الخصيب، الذي انحاز شامه الى دمشق بل انه اطلق على الياسمينة الدمشقية لفظة البلدي، وبقي الياسمين العراقي هكذا، ليس بلديا، والبلدي دائما اغلى واحلى عند بَر الشام.

وبقيت بغداد وحدها تناكف وتلاطف بلاد الشام في مجموعة الهلال الخصيب الذي بقي محافظا على جفاء الشام منذ الامويين والعباسيين، فالحجاج ظل حارس الحدود بين القطرين وظل هو المرجعية النظرية للحزبين، الى ان جاء صدام حسين رحمه الله، فحمل بفروسيته الجميلة بلاد الشام الى حضن بغداد، وبنى مداميك علاقة مع بغداد لم تكن مبنية الا في اذهان نخبة سياسية محدودة كانت ترى في العراق سندا، فيما ظلت الياسمينة الدمشقية تمنح ظلالا لاحزاب ونخب رغم رقة ساقها اضعاف ما تمنحه النخلة العراقية.

في رمضان شهر العمل والفعل في بلاد الهلال الخصيب، ثمة ثورة في قلب الشام وثمة ثورة متصلة منذ احتلال العراق، ثورة الياسمينة على نفسها وثورة العراق على الذات والاحتلال، فزمن الاقصاء انتهى وزمن الحزب الواحد غادر، والبعث في العراق مقاوم يمشي امينه العام في طرقات بغداد والكاظمية منذ اول رمضان محروسا بأعين العراقيين رغم انه مرصود بالملايين من اعين الاحتلال واعوانه، فيما تختلف التكهنات بمكان امين عام بعث دمشق، وهذا تحت احتلال ويمشي وذاك هو احتلال ويختفي.

ثوريّ العراق يمشي في بغداد وثوري الشام يهرب خارجها، فما يجري في الشام اعادة استحضار لاسوأ اشكال الانتهازية السياسية حين تتحالف مع الطوائف لتشكيل بلد الوحدة والحرية والاشتراكية، فأين الوحدة في عصر الطوائف واين الحرية في زمن القذائف، منذ اول ايام رمضان اعلنت المقاومة العراقية ان الامين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق عزة ابراهيم الدوري يقضي رمضان في بغداد ويمارس صيامه وقيامه في عاصمة الرشيد ومساجدها.

في دمشق تتحدث الاصوات عن مناف طلاس بوصفه زعيم طائفة قادم، وبوصفه اضافة نوعية للمقاومة وخسارة استراتيجية للنظام، فالرجل ابن الطائفة الاكبر في دمشق، والرجل ابن مدينة جرى تحطيم روحها وتدمير ذاكرتها -الرستن- دون ان يشفع لها ابنها الاكبر او ابنها الصغير الذي غادر الى خارج دمشق فهو تيار الحمائم البعثي الذي لا يطيق الدم ولا رائحته رغم انغماس ايدي ابيه في الدم والشعر.

الخلاف بين الشام -وهذا طغيان لدمشق ما بعده طغيان، عندما اختصرت كل المدن لصالحها، فباتت هي الشام- وبين بغداد خلاف لا يمكن ردمه بسهولة، بعد ان فرّطت دمشق ببغداد في حرب البوابة الشرقية، وعادت لتبني معها علاقات تمر بممر لا ينطق بالعربية الفصحى، وتحت اسد علم بلاد العجم لا اسد بلاد العرب، فكانت العلاقة مشروخة ولا تستقيم، وكانت خطيئة العرب عندما قدموا اُضحيتهم الاغلى على مذبح الامريكان في عيد الله اكبر.

الان نحن بحاجة الى مشروع جديد تقوم من خلاله بغداد من وطأة الطائفية وهي العاصمة التي تنطق العربية بالفصحى دون لكنة اعجمية، لتنقذ دمشق من اعوجاج لسانها واعجميته، ولا ضير من بقاء لكنة الشام العذبة، وبدون تمركز المقاومة في بغداد ودمشق ودون النطق بالفصحى في العاصمتين ستبقى مسافة الحرية بعيدة عنّا، فلا يمكن ان تكون الزعامة العربية لغير الهلال الخصيب من قبل ومن بعد ولا بد لربيع الثورة ان يخضوضر، ويتوحد الياسمين، حتى نتفيأ ظلال الربيع وظلال العزة بعد ان استوطن الربيع في بلاد المانجا والرُطب بدون عربية فصحى.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عمر كلاب   جريدة الدستور