( يُحكى أنّ شحيحاً تحركت في قلبه يوماً الشفقة على ابنته الجائعة العارية،فأراد نفسه على أنّ يبذل لها شيئاً من ماله فتأبت عليه، ، فأذن لوكيلة أن يختلس لها من ماله ما يسد خِلتها من حيث لا يعلمه بذلك ولا يدعه ينتبه لشيء منها، علماً بأنه لا يستطيع أن يكون كما يريد).
هكذا هو شأن كثير من الخلق حين تتملكهم مَلَكة قبض اليد، ويترسخ البخل أعماقهم، فكما لا يسأل المسرف عن سبب إسرافه، والغاضب عن غايته من غضبه، كذلك لا يسأل الشحيح عما يستفيد من حرصه وبخله الزائد إلا أن يردعه وازعه الديني. فكثيراً ما تعرض لأرباب هذه الملكات عوارض تقرع بهم إلى الرغبة عن التخلي عنها أحيانا – ونحن من ورائهم نطالبهم بإلحاح للتخلي عن هذه الرذيلة – فلا يجدون لذلك سبيلاً، لمكان تلك المَلَكات من نفوسهم، ونزولها منها منزلة لا تزعزعها الإرادات، وربما رأى البخيل عرضاً يوجعه..محتاجاً أو معسوراً ما يدفعه إلى بذل شيء من ماله، فإذا وضع يده في كيسة وحاول دفع شيء من ماله، أحس كأن"تياراً كهربائياً قد سرى من نفسه إلى يده فتشنجت أعصابها وتصلبت أناملها وأعيت على الالتواء والانثناء، فأخرجها صفراً كما أدخلها، وبوده أن لا يفعل لولا أنّ للغزيرة قوة فوق قوة الإرادة، وسلطاناً تخضع له الرغبات" وتنقاد إليه النفوس، إلا إذا كان وراءها وازع عصا سلطانية ودرة عُمرية
"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "...
وحين تمتد إليه العصا لتروعه وتعلمه درساً فإنها تكسر شرتها وشرهها أحياناً، وإن لم تنتزعها انتزاعاً لأنها متغلغلة..
وسؤالنا ما هي الدوافع والأسباب التي غرست ملكة وغزيرة الشح والبخل والغلظة القلبية عل البؤساء في نفوس البخلاء؟
أن من أهمها سوء الظن بالله، ذلك ان من يحسن الظن فيه وترسخ في قلبه الإيمان بأن لله سبحانه عيناً ساهرة على عباده الضعفاء فهو أرحم من أن يغفل شأنهم ويرعى حوائجهم ويسلمهم لصروف الليالي وعاديات الأيام، فلا يلج به الحرص على الجمع، ولا يزعجه الخوف من البذل والعطاء وعلى العكس منه ضعيف الأيمان، هزيل الثقة بواهب الأرزاق ومقسم الحظوظ، فهو لسوء ظنه وضعف ثقته لا يزال الخوف من الفقر نصب عينيه حتى يصير البخل ملكة راسخة فيه بل موهبة وهواية مفضلة..
وحل هذه المسألة أسهل من السهل، والفكاك من هذه الغريزة لا يحتاج لسوى تقريع النفس وتأديبها وضربها بسياط الرهبة من القوي الجبار
• ومن أبرزها النكبات، اذ كثيراً ما تحل بالإنسان نكبات تصهر قلبه وتزعزع غريزته من مستقرها، ومن ذلك النكبات التي يكون مرجعها قلة المال كأن يقع الرجل في خصومة يرى أنه لولا ضيق ذات اليد لما وقع في مثلها، فكلما لاحت له نكبة أو تمثلت له أزمة لجّ به الحرص وأغرق في المنع، حتى تغشى قلبه، ومن بين هؤلاء جديد النعمة الذي ذاق مرارة الفقر والحرمان حقبة من الزمان وكابد منه ما كابد من الآلام والأوجاع، فإنه مهما حسنت حاله وإنتعشت نفسه وفاضت خزائنه بالذهب والدولارات والدنانير لا تذهب من قمة تلك المرارة، ولا تضيع من ذاكرته آلامها، فلا يزال يتملك قلبه وسواس يخيل إليه ما لا يتخيل، ويريه ما لا يرى، كمن تمثل له خيال الشيطان في أبشع صورة وأفظع شكل فهاله منظره، وذهب الخوف منه برشده، فلا يزال يراه في كل مكان زمان، وفي حالتي الآمن والرخاء.. الطمأنينة والخوف.. الوحشة والأنس..ومن أبرزها اللؤم وسقوط الهمة فإن النفس اذا خبثت طينتها وإجتاحها اللؤم، أصابها داء الحقد والضغينة على الوجود بأجمعه، وبغض الخير للناس قاطبة، فكيف يمنحهم من ذات يده ما يزيده ألماً على ألم، وحسرة فوق حسرة، وهو لو استطاع أن يمنع عنهم سارية السماء وغيثها، ويعترض دونهم نابتة الأرض وغذاؤها وفاكهتها وأبّها لفعل... والإنسان إذا نشأ عالي الهمة طموحاً للذِكر الحسن، والصيت الحسن، والثناء الجميل يسهل عليه أن يبذل في سبيل ذلك كل ما يستطيع بذله من ذات يده أو ذات نفسه، وطلباً لسعادة الحياة بالذكر، وسعادة ما بعد الموت بالدعاء له فَمن لساقط الهمة بدافعِ يدفعه إلى بذل المال والمال له مكانة مرموقة في قلبه؟!! أيدفعه حب المعالي وهو ملتصق بنتن الأرض وعفنها.. أيدفعه حب الثناء وهو لا يشعر بلذته؟ او خوف المذمة، وهو غير مبالي ولا يتألم منها، ولا يحس بمرارتها؟ أم سعادة الحياة وسعادة الممات؟ وهو لا يفهم للسعادة معنى ولو خير بين دفع المال والهجاء لاختار الهجاء*( وقد قال رجل لآخر: يا بخيل، فقال له: لا أحرمني الله بركة هذا الإسم، فإني لا أكون بخيلاً إلا اذا كنت غنياً فسمّ لي المال ولقبني بما تشاء)...
وها هنا لم يبق لنا الا أن نرجو علماء النفس أن يأذنوا لنا بالتوسع في تفسير معنى الجنون حتى لا يكون مقصوراً على من نعرف أوصافهم . بل يكون شاملاً لقابضى اليد والأكف!!!
*ولقد روي أن فتى" قضى حقبة من دهره مولعاً بحب فتاة خيالية لم يرها مرة واحدة في حياته، وإذا تخيل في ذهنه صورة ألفها من شتى المحاسن ومتفرقاتها في صورة البشر، فلما إستقرت في مخيلته تجسمت في عينيه فرآها فأحبها حباً ملك عليه قلبه، وحال بينه وبين نفسه وذهب به كل مذهب، فهام على وجهه وأنشا يفتش عنها بين سمع الأرض وبصرها أعواماً طويلة حتى وجد ضالته المنشودة..."
وهي وأن ظن البعض أنها رواية اسطورية من نسج الخيال فشخصياً لا أستطيع تكذيب هذه القصة لاني ذلك الفتى بعينه، لا فرق بيني وبينه إلا أنه يسمي ضالته الفتاة ونسميها الإيثار، والفرق أنه فتش عنها فوجدها، وفتشت عنها حتى عييت بأمرها فما وجدت إليها سبيلاً، واكتفيت بشم بعض أريجها وطيبها...
فتشت عن الإيثار الحقيقي الخالص... عن هذه الفضيلة المرجَوة في دكاكين التجار فرأيت سواداً عظيماً يجهلون هذه الكلمة، جهل سكان أدغال الأمازون بوجود سكان آخرين على وجه الأرض إلاهُم... بل رأيت سوادهم يبيعون بمائة ما ثمنه عشرون، فعلمت أنهم لصوص للثمانين الأخرى، ولو وكل إليّ أمر الحِسبة والقضاء لأنزلت بهم عقوبة مزلزلة وأدنتهم بتهمتين دامغتين أولاها قبض اليد وثانيها الاستغلال الفاحش.
وأنا لا أنكر على التاجر حرصه في حفظ ماله وعدم التبذير والإفراط، ولا أنكر عليه ربحه، ولكن أنكر عليه ادخاره من غير دفع المستحق عليه في ذمة الفقراء والمحتاجين والمكروبين ، وتناوله أكثر من الجزاء الذي يستحقه..
فتشت عنه في مجالس القانون فرأيت أن أعدل القضاة من يضرب بسيف سيده وأعدلهم من يحرص الحرص كله على أن لا يهفو في تطبيق القانون الذي بين يديه هفوة يحاسبه عليها من منحة هذا الكرسي الذي يجلس عليه مخافة أن يسلبه إياه، أما إنصاف الضائعة حقوقهم والضرب على يد الظالمين، وإراحة الحقوق وإعادتها على أهلها، فهي عندهم ذيول وأذناب لا يأبه لها، ولا يحتفل بشأنها إلا إذا أشرف عليها الكوكب بسعده فمشت مع القانون الموضوع في طريق واحد مصادفة واتفاقاً، فإذا اختلف طريقاهما بين يديه حكم بغير ما يعتقد ونطق بغير ما يعلم، ودان البريء وبرأ المجرم..
فتشت عنها في قصور الأغنياء ومرا بعهم ومراتعهم ومنازل سكناهم التي شادوها مرمراً وجلله كلساً فللطير في ذراه وكور، فرأيت الغني إما شحيحاً أو مِتلافاً وأشد انواع الإتلاف إعطاء من غير تحقق أين ستذهب الأموال؟
وأما الأول فلو سمع أنين طفل يشكو الجوع والبرد لوجدته قلباً صلداً، لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسائم الإحسان والبر..وأما الثاني فَمَالُهُ بين الثغرين، ثغر الحسناء، وثغر الصهباء. فعلى يد أي الشقين يدخل البر مساكن الميسورين؟
فتشت عنها في مجالس الساسة والسياسة، فرأيت أقل العهود تنقض، ورأيت المماليك على كراسي ملكهم يقربون صاحب الجاه وينفرون من صاحب الرأي النجيب إن، كان فقيراً ومعدم الحالة المادية..
رأيت الأمم قد أعدت في مخازنها ومستودعاتها وفي بطون قلاعها، وعلى ظهور سفنها وفوق متون طائراتها ما شاء الله أن تعده لأختها من الموت ،وأفانين العذاب، حتى إذا وقع الخلاف بينهما على حد من الحدود أو جدار من الجدران أو جزيرة مليئة بالديناصورات، أو قطعة أرض قفر، لبس الإنسان فروه ألسبع وإتخذ من تلك العدد الوحشية إظفاراً كإظفاره، وأنياباً كأنيابه، فشحد الأولى وكشر عن الأخرى ثم هجم على ولد أبيه وأمه هجمة لا يعود منها إلا بنفسه التي بين جنبيه، وإنك لو سألت الجنديين المتقاتلين ما خطبكما وما شأنكما وعلام تقتلان، وما هذه المَوجدة التي تحملانها بين جنبيكما؟ ولم الخصومة بينكما وأنتما إخوان وبينكم جيرة؟ لعرفت عن يقين أنهما مخدوعان عن نفسيهما، وأنهما ما خرجا من ديارهم طلب القتال إلا ليضعا درة في تاج ساساتهم، أو نيا شين على صدور القادة .
فتشت عنها بين العلماء والفقهاء وأهل الحل والعقد فرأيتهم – إلا من رحم الله – يتاجرون بالشعارات الطنانة..ليتوسل بذلك إلى الذخائر فيسرقها، والخزائن فيسلبها.
.فتشت عنها في كل مكان أعرف أُنه تُرتبها وموظفها فلم أعثر عنها..فليت شعري هل أجدها في مغارات اللصوص؟
سيقول كثير من الناس، قد غاليت في الحكم على الأشياء وجاوزت المدى في تقديراتك ورجمت بالغيب، وأخطأ تخريصك، والفضائل لا تزال تجد في صدور الكثير من الناس صدراً رحباً، ومورداً عذباً
وإني لقائل لهم:
أجهل مكانها.. وقد عقد رياء الناس وتلون وجوههم أمام عينيّ سحابة سوداء أظلم لها بصري، حتى ما أجد في صفحة السماء إلا بعض النجيمات اللامعات، وحين يقال لي تأمل بلايبينها يصيبني الغبش.. معظم الناس يدعون وصلاً بالجود والكرم ودفع الغموم والغيوم، معظمهم يرتدي رداءها..
(وما يخدعون إلا أنفسهم...)
فمن لي بالوصول إليها في هذا الظلام الحالك، والليل الأليل؟
إن كان صحيحاً ما يتحدث به الناس، فساعدوني أن أعثر في طريقي في يوم من الأيام على ضالتي المنشودة ..
وأكتفي بما قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذنب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير..
*رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم وضواحيها..
رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية-الداخل الفلسطيني.
المراجع
odabasham.net
التصانيف
شعر شعراء أدب ملاحم شعرية