د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
قد يستطيع إنسان أن يمتلك أي جسد إنسان آخر بتفوقه عليه بأمور تجعل الشخص الآخر يبيع نفسه مقابل قوت يومه أو تأمين بعض مقتضيات حياته حتى لا يموت جوعا , بحيث تقع الفائدة المتبادلة بين الطرفين ولو بنسب غير متساوية
فقد تستطيع شراء جسدي ولكن لن تستطيع شراء روحي , إلا إذا بعتك الجسد والروح معا وتنازلت عن السلعتين لشخصك الكريم وأكون بذلك متفقا معك في أنني لن أعمل عملا ضد مصلحتك وأي عمل أقوم فيه يكون لحسابك ومصلحتك
للشخص الحرية فيما اختار , والإختيار هنا ناتج عن تبادل المنفعة
ولكن في وطننا العربي سؤال يطرح نفسه
ما هي المصلحة المتبادلة وتبادل المنفعة في أن يبيع الشعب جسده وروحه للحاكم ؟
فالحاكم هو الذي يحتاج الشعب حتى يطعمه وليس الشعب (جان جوك روسو1712-1777)
كسب حققه الإنسان عبر رحلته الطويلة على الأرض , فإذا كان التاريخ هو تحقق الروح كما يقول هيجل , وإذا كانت ماهية الروح هي الحرية . معنى ذلك إن تقدم التاريخ يعني تقدما في تحقيق الحرية , أو هو الوعي بهذه الحرية التي تحققت .فالشعوب المتقدمة هي الشعوب التي تشعر بنفسها حرة , وتتمسك بهذه الحرية فتنتج علماً وفناً وفلسفة .
والإنسان هو الحرية , أو هو مقدار ما يتمتع بها كما عبر سارتر عن صيغة وجودية خالصة <<لست العبد ولست السيد ولكني أنا الحرية التي أمتلكها>> (أ. د.إمام عبد الفتاح إمام 1983) الطاغية
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وجملته المشهورة (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)
فلو غصنا في عمق ثقافتنا والتي نشأت عبر أجيال متعاقبة على تلك الثقافة, في أننا أمة لم تخرج من الظلم ومن وطأته الناتج من استبداد الحاكم إلا نادرا , وإن خرجت تعود إليه مسرعة , كأنها تهرب من حر الصيف عندها وأشعة الشمس المحرقة , إلى ظل شجرة الإستبداد والظلم
والمحير جدا في ثقافتنا هو أن الحاكم المستبد والظالم عندما يموت يرثى ويعم الحزن ويزداد اللطم وحتى قد ينتحر البعض حزنا عليه , وكأن النساء تعجز عن أن تلد رجلاً مثله
مع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ,عزل خالد بن الوليد لكي لا يفتن الناس فيه وليبرهن للناس بأن النصر هو من عند الله وليس سببه شخص
ومن الأمثلة الحية على ثقافتنا وتعلقنا برموز كرتونية هو:
خروج الشعب المصري بالملايين بعد هزيمة حرب حزيران وإعلان عبد الناصر عن استقالته
وبمقارنة بسيطة مع الشعوب التي تشعر بالحرية نرى
كيف اسقط الشعب البريطاني تشرشل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مع ما قدم من خدمات جبارة لبريطانيا , وكذلك سقوط ديغول في فرنسا
يمكنني القول أن الشعب البريطاني والفرنسي بشعورهم بالحرية استطاعوا النظر للأمر أن الذي قاما به الزعيمان , ما هو إلا واجب عليهم كأي مواطن عادي , فالرمز والتخليد هنا يقع على الشعب كله وليس الحاكم فقط
بينما في ثقافتنا فلو قدم الحاكم خير بسيط فهو منة منه وإحسانا , ومهما عمل من جرائم ودسائس وقتل وتشريد وسفك دماءٍ بريئة وهزائم وإذلال يبقى هو السيد والذي يجب أن لا يحاكم أبداً ,على جرائمه ,وتقوم قيامة الشعب يوم موته
في الشريعة الإسلامية حدد العزاء بثلاثة أيام , فجعلوها سبعة وموت الحاكم أو الزعيم المستبد والذي أهلك الحرث والنسل , أو أحد خلفائه يكون العزاء والحزن 45يوما ويمتد لسنين , ويسمى شهيداً ولو مات في يا خور
كلمات وجمل وعبارات سمعناها كثيراً
لقد فقدت الأمة رجلا في أحلك ظروفها , فإن مات ولكنه يبقى الخالد والرمز للأمة
مع أنه كان هو المدمر للأمة , وكأن لسان الحال يقول:
لقد فقدت الأمة رجلا وقائداً في أحلك ظروفها لأنه لم يتمكن بعد من هدم مكونات الأمة كلها , ولكن لن يخذلكم في ذلك فوريثه سيكمل الهدم حتى ينمحي ذكر الأمة كلها
بينما ذلك الشامخ العادل الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال عند سماعه أن خالداً بن الوليد رضي الله عنه أنه قد مات (عجزت أن تلد النساء مثلك يا خالد)
وعندما توفي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدق المسلمون ذلك الحدث العظيم واضطرب الناس , وقف أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال (إن كان محمد قد مات فإن الله حي لا يموت )
فلقد برع حكامنا رؤساء وسلاطين وملوك في تحويلنا لعبادة الأجساد وابتعادنا عن الروح
وتقبلنا هذا عبر أجيالنا المتعاقبة , وأصبحت مظاهر الجسد هي الحكم الفصل وليس المضمون أو الفعل , وفي عصرنا الحالي , كان الأدباء والمثقفين والمفكرين والقسم الأعظم منهم هم الوحي المسيطر على الشعوب في نزع الروح من جسد الناس وجعلهم جسداً خواء لا روح فيه
فترى المفكر والصحفي والكاتب يرفع مكانة الحاكم للسماء ويعظم ويكبر ويسري وراءه الحاكم حتى وصل الأمر بالسجود كما يحصل في بلد عربي الآن , والمصيبة الأكبر يعظم بحاكمه ويبتدع كل أنواع القبح يوجهها على مثيله في دولة أخرى إذا كان الملك غير راض عن الحاكم الآخر
ينشأ الطفل عندنا ولا يرى إلا الحديث عن الحاكم , يذهب للمدرسة نفس الشيء المهرجانات كلها للحاكم , يخرجون في مظاهرة استنكار لجرائم الصهيونية , فبدلا من أن يقولوا شعارات تدين العدو , يحملون صور الرئيس ويقولون بالروح بالدم نفديك يا رئيس
فالتربية كلها تسير عبر قنوات تأليه الجسد والبعد عن المضمون والعمل
من هذه الثقافة الموروثة والمتجددة جعلت السمات الشكلية للشخص تعبر عن الحكم عليه
فقد ترى أحدهم يواظب على العبادة ملائم شكله الظاهري بملابس ومظاهر شكلية تعبر عن تدينه ليثق الناس فيه , مع أن روحه قد لا تملك ذرة تتواءم مع مظهره ويكون مصدر ثقة للكثير
فأصبح النفاق والكذب والتحايل والرشوة والفساد هي السمة التي يعبر عنها في مجتمعنا بأنه رجل فهلوي , والصدق والفضيلة والروح الطيبة هو الموهن لنفسية الأمة (فلا فضيلة ولا محاسن ولا روح في مجتمعنا)
وهذا لم يكن ناتجا عن عبث أو حالة طارئة , وإنما منشئه من أن الناس على دين ملوكها , فهي آخذة الشكل ذاته من القمة في الهرم إلى القاعدة
والقاعدة المنطقية في مثل هذه الحالة تكون :إذا فسد الرأس فسد الجسد كله
فمن منطلق إيماننا بأن الإسلام لم يفصل بين الجانب الروحي والجانب المادي , وأن النفس لها حقوق كما الجسد له حقوق
فالواجب علينا كأمة من مثقفيها ومفكريها وخواصها وعوامها
أن الله خلقنا بشراَ جسدا وروحاً , فكرا وعقلا قلباَ وقالبا
ولم يخلقنا عبيداً , وقد أعطى امتيازا لشخص ما في مجال ما, بينما أعطى امتيازا لشخص ما في مجال يختلف عن الآخر , أي الفضل هنا يقاس بمقدار العطاء وليس التقديس , وأن المبدع في المجال لم يكن هدفه خدمة الآخرين بقدر ما يكون عمله خدمة لنفسه
ومهما كان الشخص مهما في عمله وتفوقه على أقرانه , علينا النظر للأمر على أنه واجبه فقط وليس يحمل مكانة قدسية في نفوسنا يذكر في محاسنه ولا تغطي عيوبه أبداً
فالبداية تكون في أن نخرج الناس من عبادة تلك الأجساد المحنطة , إلى الوعي وتوعية المواطن بقيمة روحه وأن جسده لا معنى له بدون روح والروح لا قيمة لها بدون الجسد
وعندما نبني ذلك المفهوم في أنفسنا ومجتمعنا , وأن الروح التي نملكها غالية جدا نستطيع أن نبدع في إطار مجتمع ينعم بالعدل والحرية والمساواة