الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
 
يَتَمَلَّكُكَ الذهولُ وَتَعْتَريكَ الدهشةُ وأنت تَطَّلع على النتاج الثقافي الضخم والمُتَنَوِّع الذي خَلَّفته الحضاراتُ الإنسانية، ولا تملك إلاّ الإكبارَ لهؤلاء الرُّوَّاد الذين كتبوا في كل فَنّ، وَوَرَدُوا - وَأَوْرَدُوا مَن لَحِقَهُم - كلَّ نَبْع.
ولعلَّ هذه الموسوعيةَ في الثقافة أبرزُ ما يُلحَظ في علوم هؤلاء الرُّوَّاد، سواء منهم الإغريقيين أو المسلمين بمختلف أعراقهم، وإن كانت - تلك العلومُ - عند الإغريقيين تنحو إلى التنظير التخيلي أكثر من التطبيق التجريبي الذي اتَّسَمَ به علماءُ المسلمين لاحقاً، فأخضعوا علومَ الإغريق للتحقيق والنقد والتشريح، حتى إن الجاحظ مع عُلُوِّ كعبه في اللغة والأدب واشتهاره بهما، لم يكن يجد حَرَجاً أو غَضاضةً في نقد مَن يُسَمِّيه "صاحب المنطق" ويعني به "أرسطو" في أمور تتعلق بطبائع الحيوان مثلاً، بل ويتجاوز ذلك بتقديم رأيٍ لأعرابي جاهلي سَجَّله في مَثَلٍ أو بيتٍ شعري على رأي أرسطو، وكأنه يشير من طرفٍ خفي إلى أن هذا الرأي من الأعرابي ناتجٌ عن تجربة حية، لا عن تَخَيُّلٍ يَتَرَاءَى لفيلسوف في بُرجه العاجيّ.
وعلى الرغم من هذا "القصور المنهجي" في العلوم الإغريقية بحكم قِدَمِها الزمني، إلاّ أنها شَكَّلَت نَوَاةً للشجرة المثمرة التي نَبَتَتْ بجهود علماء المسلمين سقايةً ورعايةً وتشذيباً حتى آتَتْ أُكُلَها.
بل إنَّ أرسطو اليوناني الذي لُقِّبَ بـ "المُعَلِّم الأول" لأنه تَبَحَّر في العلوم المختلفة حتى في ما وراء الطبيعة "الميتافيزيقا"، لم يَجد له رَدِيفاً إلاّ في الحضارة الإسلامية، حيث ظهر أبو النصر الفارابي، الذي وَلَجَ أبواباً شتى من المعارف، فكتب في الفقه والطب والفلك والفلسفة والمنطق والموسيقى، فاستحقَّ أن يُلَقَّب بـ "المعلِّم الثاني".
ولئن كان مَبعَثُ المعرفة لدى الإغريق نوعاً من الارتقاء بالذات، وتحقيقاً لمصالح الناس، فإنه لدى المسلمين - فَوقَ هذا - استجابةٌ لأمر الله تعالى، وعبادةٌ يُتَقَرَّب بها إلى رحابه.
ولأنَّ الإسلام لم يَستَبعد أو يَحظُر نمطاً من أنماط المعرفة التي تَعودُ بالنَّفع الغالب على الإنسان، أَغْرَقَ العلماءُ في التبحر المعرفي إلى درجة أنَّ قارئَ نتاجهم لا يَكادُ يَنسِبُهُم إلى عِلْمٍ مُعَيَّن، وكلما قرأ لأحدهم كتاباً أو مقالةً في فَنٍّ ما ظنَّ أنه بلغ مُنتهاه من العلم، فإذا اطَّلع على كتابٍ آخرَ له ظنَّ كذلك أن هذا آخرُ ما يُحْسِن، وهكذا.. ومن هنا نشأ مصطلحُ "وحدة المعرفة" الذي يُرَادُ به ترابطُ العلوم ببعضها ترابطاً إيجابياً، فَرَجُلٌ كابن سينا طبيبٌ مُبدع، وفيلسوفٌ مُشْرِق، وشاعرٌ مُفلِق.
إذاً.. لم يكن التخصص المعرفي بالمفهوم الحديث شائعاً، وكان يَعيبُ المرءَ أن يُحسِنَ فناً واحداً، دون أن يكون له اطلاعٌ على باقي العلوم. وهناك روايةٌ عن بعض العلماء المتخصصين الذين حَضَرُوا مجلساً لأحد الولاة، فطفق الوالي يسأل كلاًّ منهم مسألةً هي من تخصص الآخَر، فلا يُحِيرُ أحدُهم جواباً، ويُشير إلى صاحب التخصص.
فاستنكر الوالي ذلك واستقبحه، وأفاد بأن الكِسائيَّ - شيخ الكوفة - لو سُئل عن كل ذلك لأجاب.
وتوحي هذه الرواية بالعبارة الشائعة التي تَحُثُّ - في بناء المُثَقَّف - على التخصص، ولا تُهمِلُ التَّوَسُّع، فالثقافة أن "تَعرفَ كلَّ شيء عن شيء، وشيئاً عن كلِّ شيء".
أما اليوم.. فَمَعَ تَشَعُّب العلوم وَتَعَقُّدها، وكثرة مشاغل العصر وَمُتَطَلَّباته وَمُلهياته، لربما باتَ بناءُ المثقف الموسوعي أمراً عسيراً، إن لم يكن مُتَعَذِّراً، وغدا التَّخَصُّصُ مفتاحَ النجاح وتحقيقِ الذات وتأمينِ لقمة العَيش، في ظلِّ تَخَلِّي "الجهات المعنية" عن تأمين تلك اللقمة لمن آتاه الله القدرةَ والإرادةَ على التحصيل المعرفي، فهو بين وظيفة - ربما لا تُناسِبُ معرفته - تأكل نصفَ وقته، وبين دراسته واطلاعه وبحثه - الفرديّ - مُنهَكَ القُوَى مُشَتَّت الذِّهن، تَضيع طاقةُ عقله بين ذلك كُلِّه هَدَراً.
ولعلَّ في الحديث عن الدَّرس والتحصيل مدخلاً مناسباً للحديث عن دَور المدارس في تكوين الثقافة المتخصصة فضلاً عن الموسوعية لدى الطالب في مختلف مراحل دراسته..
وهذا ما سيكون موضوعَ المقال القادم إن شاء الله تعالى.

المراجع

odabasham.net

التصانيف

شعر  شعراء  أدب  مجتمع