ربما يكون مفهوم الإيقاع من أكثر المفاهيم الشعرية إشكالاً لكونه يتعالق مع مفهوم ( الوزن Meter ) عند أهل العروض ، خاصة إذا ما نظرنا إلى مفهوم الإيقاع باعتباره نقلة موسيقية حدثت من شعر البحور إلى شعر التفعيلة . كذلك يزيد من إشكالية هذا المفهوم النظر إليه كمصطلح وافد لا علاقة له باللغة العربية مع أن العرب قد ميزوا بين ( الإيقاع ) و( النظم Verse ) منذ بداية اجتهادات الخليل في هذا المضمار .
ويرى البعض أن الإيقاع " ليس شيئاً آخر سوى نظم التفعيلات في البيت الواحد ، أو الانتقال من نظم الأبيات والبحور إلى شعر التفعيلة بما يتيح حرية أوسع في حركة تنظيم التفعيلات "(1) .
والوزن أو النظم من الناحية التاريخية أكثر التصاقاً بالشعر دون غيره من الفنون . فالوزن هو المقياس الذي : ينظم الخصائص الصوتية في اللغة ، ويضبط الإيقاع في النثر ، ويقربه من التساوي في الزمان ، ومن ثم يبسط الصلة بين أطوال المقاطع الهجائية . كما أنه يبطئ التوقيت ، ويطول أحرف المد بغية عرض لون الطبقة الصوتية أو النغمة الممدودة " (2) . وعلى هذا فإن مفهوم الوزن مهيمن على مفهوم الإيقاع وموجه له ، وذلك لكون الوزن واقع في النثر كما هو واقع في الشعر .
 ويرى د. كمال أبو ديب أن " للنثر إيقاعه ، وبمعنى آخر أنه يقوم على إيقاع الفقرة أو السطر لأنه يستند بقوة إلى الفصل والوصل . فقد كانت مبادئ الفصل والوصل في الشعر الخليلي تقوم على طول التفعيلات وحدودها ، وعلى الشطر ثم على السطر ، والشطر والسطر محددان بالقافية ونهاية البيت . أما إيقاع النثر فيقوم على فصل ووصل من نمط مختلف ينشئه البعد الدلالي المتعلق بامتداد النفس ، والضغط النابع من تموجات التجربة والقراءة ، والحركة الداخلية للهجة الشعرية " (3) . 
ويرى كوهن أن الوزن اعتماد تحليلي على توافر عدد معين من المقاطع يتكون منها البيت الشعري . وليست العبرة في هذا السياق عدد هذه المقاطع بل تكرارها في سياق البيت والأبيات اللاحقة ، وذلك لأن " ليس عروضياً إلا لكونه متماثل الوزن ، وهو ما يتيح له تحقيق تماثل وزني داخلي" (4) . فحقيقة الوزن هو توالي مقاطع صوتية طويلة وقصيرة على نحو منتظم ومتكرر ، يوظف شكل الساكن والمتحرك للقيام بهذا الدور خلوصاً إلى تحديد شكل التفعيلة الصوتية التي يتم النسج على منوالها في سياق البحر الشعري .
والإيقاع بمفهومه العام هو التنظيم أي تنظيم أي شيء في هذه الحياة . أما الإيقاع كمصطلح فني له حدوده وقوانينه في الشعر والنثر معاً فإنه ينطلق من مفهوم العام وهو التنظيم ليمارس مثل هذا الدور في سياق المستويات اللغة ، إذ يناط به تنظيمها ليسهل أداء الوظائف المبتغاة من استخدامها . ولأن الشعر جزء من هذه اللغة ، فإنه يعد لغة فوق اللغة ، بمعنى أنه يُوَظِّف اللغة جمالياً ( فنياً ) في مفارقة واضحة للمستوى المعياري لهذه اللغة ، فلغة الشعر" هي إعادة تنظيم للغة العادية " (5) . ويتم هذا التنظيم من خلال المستوى الصوتي للغة ، والذي يقوم بهذا الدور التنظيمي هو الإيقاع لأنه الميزان الحاكم لهذه العملية . فالإيقاع هو الميزان ، والميزان هو الإيقاع ، والعلاقة بينهما كعلاقة العين والبصر ، وإذا أسندنا إلى الإيقاع وظيفة ما فإنه يصبح ميزاناً ضابطاً لهذه الوظيفة (6) .
وغالباً ما تكون الوظيفة المنوط بالإيقاع تنظيمها هي تحقيق ( الشعرية ) للقول الشعري من خلال عناصر التشكيل الشعري ( اللغوية ، والتقنية ، والشكلية ) . وهذا ما عُرِفَ في العصر الحديث عند جاكوبسن بـ(نحو الشعر ) (7) فلا توجد كلمة في السياق الشعري منفصلة عن موسيقاها أو إيقاعها وذلك لأنها ليست مجرد كلمة ، بل هي مجموعة من التراكمات النصية على مستوى النص كله . ولذا فإن الكلمة تكون حاملة لخصائص هذه المستويات النصية ، وممثلة لها بما تحمله من خصائص (8) . 
مستويات الإيقاع :
يمكننا أن نصنف مستويات الإيقاع في العربية في ثلاثة مستويات هي :
الأول : ويظهر فيه الإيقاع معتمداً على توزيع المقاطع اللغوية ، وعندئذ يسمى الإيقاع الكمي (9) .
والمستوى الثاني : ويعتمد الإيقاع فيه على ( النبر ) في الجمل ، إذ تنظم المقاطع تبعاً لانتظام النبر . فالإيقاع يعطي نوعاً من النظام للمقاطع المنبورة ، ويمكن عده في اللغة العربي تبادلاً بين المقاطع المنبورة وغير المنبورة في داخل انتظامات إحصائية محددة (10) .
ويخضع النبر في اللغة العربية لانتظامات وقواعد محددة تتمثل في (11) :
1 - يقع النبر على المقطع الأخير من الكلمة إذا كان هذا المقطع طويلاً مثل كلمة ( مكتوب ) .
2 - يقع النبر على المقطع قبل الأخير من الكلمة إذا كان هذا المقطع متوسطاً مثل كلمة ( الأعلى ) .
3 - يقع النبر على المقطع ما قبل الأخير من الكلمة إذا كان المقطع قصيراً مثل كلمة ( عَلامَ ، إلامَ ) .
ملحوظة : إذا كان المقطع الثاني من آخر الكلمة قصيراً فإن النبر يقع على ما قبله مثل ( سيكتب ) .
وعلى هذا فإنه وفقاً للمقطع الأخير من الكلمة يتحدد موقع المقطع المنبور فيها (12) .
أما المستوى الثالث : فالإيقاع يعتمد فيه على ( التنغيم ) أي أصوات الجمل من صعود وانحدار وما شابه ذلك . ويرى د. سيد البحراوي أنه " حسبما تنتهي الجملة صوتياً ودلالياً يأخذ التنغيم شكله . فالجملة التقريرية ( الإثبات ، والنفي ، والشرط ، والدعاء ) تنتهي بنغمة هابطة ( / ) . كذلك الأمر بالنسبة للجملة الاستفهامية بغير الأداتين ( هل والهمزة ) . أما الاستفهام بهاتين الأداتين فإن الجملة الاستفهامية تنتهي بنغمة صاعدة ( ) . لكن إذا وقف المتكلم قبل تمام المعنى وقف على نغمة مسطحة ( ــ ) لا هي بالصاعدة ولا بالهابطة " (13) . ويمكننا أن نمثل لهذا الإجمال بتفصيل جلي من خلال الآيات القرآنية كما يلي : 
1 – النغمة الهابطة ( / )  Falling :
تتمثل النغمات الهابطة في الجمل التقريرية ( الإثبات ، والنفي ، والشرط ، والدعاء ) .
- فالإثبات يمثله قوله تعالى : ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ (14) . فقد تم الوقوف على كلمة ( القدر ) ، وهو وقوف على نغمة هابطة في سياق جملة مثبتة .
- والنفي يمثله قوله تعالى : ]مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [ (15) . فالوقف هنا على كلمة ( قلى ) يمثل نغمة هابطة في سياق ختام جملة منفية .
- والشرط يمثله قوله تعالى : ] وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ [ (16) . فالوقف هنا على لفظ الجلالة ( الله ) يمثل نغمة هابطة في سياق جملة جواب الشرط .
- والدعاء يمثله قوله تعالى : ] رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً [ (17) . فالوقف هنا متعدد لأنه سياق دعاء . فقد تم الوقوف على ( لي )   و ( لوالدي ) ، و ( مؤمناً ) و ( المؤمنات ) و ( تباراً ) في تشكيلات بنائية لجملة دعاء متصلة السياق ، نلمح من خلال هذا السياق نغمات هابطة في هذه الوقفات .
- والاستفهام بغير ( هل والهمزة ) يمثله قوله تعالى : ]عَمَّ يَتَسَاءلُونَ [ (18) ، وقوله تعالى : (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا [ (19) . ونلمح هنا النغمات الهابطة في ( يتساءلون ) و ( مرساها ) و ( ذكراها ) ، لأن الاستفهام هنا دلالي سياقي أكثر منه طلباً للإخبار .
2 – النغمة الصاعدة ( ) Rising  : 
وتتمثل تلك النغمات في السياق الاستفهامي من خلال الأداتين ( هل والهمزة ) ، وذلك كما يلي :
* الاستفهام بهل وهي متعددة المعاني والدلالات (20) .
- فتأتي لمعنى التقرير والإثبات كما في قوله تعالى : ]هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً [ (21).
 - وبمعنى (ما) كما في قوله تعالى :  ] هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [ (22) .
- وبمعنى ( قد ) كما في قوله تعالى : ] هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [ (23) .
- وبمعنى ( ألا ) كما في قوله تعالى : ]هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً [ (24) .
- وبمعنى الأمر كما في قوله تعالى : ] فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [ (25) .
- وبمعنى السؤال كما في قوله تعالى : ]هَلْ مِن مَّزِيدٍ  [ (26) .
- وبمعنى التمني كما في قوله تعالى : ]هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ [ (27) .
- وبمعنى ( أدعوك ) كما في قوله تعالى : ]هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى [ (28) .
فالوقوف على كلمات ( مذكوراً ) و( الغمام ) و( موسى ) و( أعمالاً ) و( منتهون ) و( مَزِيد )   و( حِجْر ) و( تَزَكَّى ) يتم في سياق نغمات صاعدة قوية تترصد الإجابة التي تستقر عندها هذه الأسئلة ، لتشكل هذه الإجابات نغمات هابطة قارة في هذا السياق . وتَرَصُّد الإجابات مرحلة تدوم فترة من الوقت ليظل المعنى القرآني مفتوحاً أمام متلقيه ليسهم بدوره في رصدها بتأمل هذه السياقات .
أما الاستفهام بالهمزة فله دلالات أخر تتنوع في مراميها وأهدافها ، فتأتي (29) :
- بمعنى الاستفهام كقوله تعالى : ] أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً[ (30) .
 - وبمعنى الإثبات كقوله تعالى : ] أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ (31) .
- وبمعنى الإنكار التوبيخي كقوله تعالى : ]أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [ (32) .
- وبمعنى التقرير كقوله تعالى : ]أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ [ (33) .
- وبمعنى التهكم كقوله تعالى : ]أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا [ (34) .
- وبمعنى الأمر كقوله تعالى : ] وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [ (35) .
- وبمعنى التعجب كقوله تعالى : ]أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [ (36) .
- وبمعنى الاستبطاء كقوله تعالى : ]أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [ (37) . 
فالوقوف على نهايات الأسئلة بما تحمله من شحنات دلالية وسياقية يظل متصاعداً في سياق نغمي لأن الإجابات على هذه السياقات الاستفهامية لم يتم رصدها ، وإن تم هذا الرصد في سياق لاحق على هذه الأسئلة ، ومن ثم يظل المعنى مفتوحاً ، وقابلاً لممارسة فعل التلقي في إطار هذا السياق .
3 – النغمة المسطحة ( ـــ ) :
    هي تلك النغمة التي تقع ( بين بين ) أي بين النغمة الهابطة والنغمة الصاعدة لكون المعنى لم يتم عندها ، لأن هذه النغمة لا تملك مقومات الأداء التصاعدي الموجود في سياق الاستفهام بهل والهمزة ، كما أنها لا تملك الحس التقريري الذي تسمح بنية به الجمل التقريرية ( الإثبات والنفي والشرط والدعاء ) فتنتمي إلى سياق النغمة الهابطة ، لكنها تتأرجح بين السياقين إلى أن يتم تغليب أحدهما ، و إنهاء هذا التأرجح السياقي .
ونمثل لتلك النغمة المسطحة بقوله تعالى : ] إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [ (38) . فالوقوف على فواصل الآيات السابقة على فاصلة جواب الشرط ( أخبارها ) هو وقوف على نغمات مسطحة لم يتم المعنى عندها ، ولم تستقر بالجواب ، ويتمثل ذلك في الوقوف على كلمتي ( زلزالها ) و ( أثقالها ) . أما الوقوف على كلمة ( لها ) فهو وقوف على نغمة هابطة في سياق استفهامي بغير ( هل والهمزة ) ، وهو استفهام بالأداة ( ما ) .
إن التنغيم بهذا الدور الصوتي الهام يؤدي وظيفة عظيمة تتمثل في " انسجام الأصوات حيث تكتمل فيه النغمات وتتآزر مؤدية المعاني والمقاصد " (39) . والتنغيم بهذا المفهوم ما هو إلا " تغييرات موسيقية تتناوب الصوت من صعود وهبوط ، أو من انخفاض إلى ارتفاع ، ويحصل في كلامنا وأحاديثنا لغاية وهدف ، وذلك حسب المشاعر والأحاسيس التي تنتابنا من رضا وغضب ، ويأس وأمل ، وتأثر ولا مبالاة ، وإعجاب واستفهام ، وشك ويقين ، ونفي وإثبات . فنستعين بهذا التغير النغمي الذي يقوم بدور كبير في التفريق بين الجمل. فنغمة الاستفهام تختلف عن نغمة الإخبار ، ونغمة النفي تختلف عن نغمة الإثبات " (40) .
والأمر بهذا الشكل له صلة وثقى بحالة ( المتكلم ) وسيكولوجيته ، وهذا جوهر ما أشار إليه د .سمير ستيتية إذ يقول : " قد تكون النغمة نغمة تفاؤل فيسميها بعضهم النغمة الوجدانية ، وقد تكون نغمة تشكك أو ضجر أو يأس أو استسلام أو غير ذلك مما له علاقة بسيكولوجية المتكلم " (41) .
والتنغيم بهذا الشكل يلعب دوراً رائعاً في تغيير دلالات الجمل من تركيب إلى آخر ، ومن باب إلى باب مثلما نجد أنفسنا في زخم دلالي وسياقي عند قراءة قوله تعالى : (قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ) (42) . فالنغم الموسيقي في هذه الآية له دلالة كبرى في الكلام . فالتنغيم في الجزء الثاني من الآية يُعَدُّ محوراً رئيساً في تحديد التركيب . فيمكن أن نقرأ كما يلي :
-       جملة ( قالوا جزاؤه ) بنغمة الاستفهام ، أي : ما جزاؤه ؟!
-       وجملة ( من وجد في رحله فهو جزاؤه ) على التقرير جملة واحدة .
-       ونقرأ على التعجب والاستهجان ( قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه ) .
-       ونقرأ على التبرم والانزعاج ( من وجد في رحله فهو جزاؤه )  .
وهكذا في تقليبات تنغيمية في سياق الآية دون المساس بالأصل الدلالي ، بل يتم التنويع في إطار هذا الأصل الدلالي ودون العدول عنه . وعلى هذا فإن المستويات الثلاثة المشكلة لجوهر الإيقاع من مقاطع ونبر وتنغيم هي في جوهرها منظومة متكاملة للمعنى الإيقاعي في سياق النص القرآني . كما أنها تسهم في إضفاء لمسة نظمية على سياق الإيقاع من ناحية ، وتشييد بعد جمالي في إطار هذا النظم من ناحية أخرى ، وما ذاك إلا تنويع على الوتر الصوتي الذي يمثله هذا المفهوم .
ويجب أن نقرر أن التعامل مع المستوى الأول من مستويات الإيقاع وهو المستوي ( الكمي ) هو الأكثر حضوراً في هذا السياق ، وإن كان ذلك لا يمنع حضور المستويين الآخرين بشكل ضمني في سياق هذا المستوى .كما أنه يمكننا اعتماد الإيقاع كبنية بلاغية تنطلق من كون ( الوزن ) أساسه التعامل مع الكلمة ، في حين أن الإيقاع لا يتعامل مع الكلمات ، بل إن أساسه ( الجملة الواحدة ) . وهذه البنية البلاغية تتمثل في مستويين هما (43) :
أ - المستوى الصوتي : ويهدف هذا المستوى إلى توظيف الجماليات البلاغية في إطار إيقاعي ، مثل توظيف فنون البديع الصوتية ( الجناس ، والتكرار ، والتوازي ، التضمين ، والمشاكلة ، ورد الإعجاز على الصدور ، والترديد ) وغيرها مما سنتناوله فيما بعد .
ب – المستوى الدلالي : حيث يتم هنا استثمار دلالات التراكيب على المستوى الإفرادي ( ما يخص الكلمة كالطباق ) ، وعلى المستوى الجملي ( ما يخص التركيب كالمقابلة ، والتقديم والتأخير ، والفصل والوصل ) وغير ذلك .
وبتعاضد هذين المستويين تتشكل بنية الإيقاع البلاغي بما يحمله من خصائص مائزة ومميزة تسهم في إبراز جمالية الأداء الصوتي ، وما يلحقها من تأثيرات سياقية .
الإيقاع القرآني :
كما علمنا فإن الإيقاع يحدث بالإفادة من جرس الألفاظ وتناغم العبارات لإحداث التوافق الصوتي بين مجموعة من الحركات والسكنات لتأدية وظيفة سمعية والتأثير في المستمع . ويأتي الإيقاع من اختيار الكلمات من حيث كونها تعبر عن قيمة التأثير الذي تحدثه وظيفة الكلمة في مدلولها الإيقاعي ، فهو إحداث استجابة ذوقية تمتع الحواس وتثير الانفعالات (44) . كما أن عدد الكلمات التي تكون الإيقاع بتركيباتها تعتمد تماماً على عدد الكلمات اللازمة لتوصيل المعنى في النثر .
والقرآن الكريم يمتاز في كل سورة منه وآية ، وفي كل مقطع منه وفقرة ، وفي كل مشهد فيه وقصة ، وفي كل مطلع منه وختام بأسلوب إيقاعي فني (45) . فالعربية لغة موسيقية ، والقرآن الكريم يسير على سنن العربية وأساليبها في التعبير فتميز أسلوبه بالإيقاع المعجز والجرس اللافت للنظر .
 والإيقاع في القرآن الكريم صورة للتناسق الفني ، ومظهر من مظاهر تصوير معانيه ، وآية من آيات الإعجاز الذي يتجلى في أسلوبه المتميز . ويحوي القرآن الكريم إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع ليؤدي وظائف جمالية متعددة إذ " إن الأثر الممتع للإيقاع ثلاثي : عقلي ، وجمالي ، ونفسي . أما العقلي فلتأكيده المستمر أن هناك نظاماً ودقة وهدفاً في العمل . وأما الجمالي فلأنه يخلق جواً من حالة التأمل الخيالي الذي يضفي نوعاً من الوجود الممتلئ في حالة شبه واعية على الموضوع كله . وأما النفسي فإن حياتنا إيقاعية : المشي والنوم والشهيق والزفير وانقباض القلب وانبساطه " (46) .
لقد جمع النسق القرآني بين مزايا الشعر والنثر ، فهو قد تجاوز قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة ، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة . وتضمن في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقى الداخلية ، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل ، والتقفية التي تغني عن القوافي . فالموسيقى القرآنية إشعاع للنظم الخاص في كل موضع ، وتابعة لقصر الفواصل وطولها . كما أنها تابعة لانسجام الحروف في الكلمة المفردة ، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة (47) . فالعطاء الموسيقي في القرآن الكريم يأتي من اللغة إذ أن الموسيقى فيه لا تنبع من وزن شعري كالذي عرفناه في تفعيلات الشعر العربي ، ولكنها تنبع من اللغة نفسها ، وهي ائتلاف الأصوات في اللفظة الواحدة ، وفي سياق الألفاظ وتناسقها وتناغمها وأدائها للمعنى ودلالتها عليه .
ولا شك أن الانتظام في الإيقاع النثري قابل للتحقق دون موازين الخليل , وأكبر دليل على ذلك النص القرآني . ولنتأمل سورة الإخلاص مثالاً على ذلك . يقول تعالى : ] قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ [ (48). إن الانتظام هنا لا يتمثل في تكرار ظواهر صوتية معينة على مسافات معينة بقدر ما يتمثل في انتظام تزايد زخم الإيقاع النبري من نبرتين إلى أربع نبرات إلى خمس نبرات في الأخير ، بعد أن كان استهل بنبرتين قويتين متتاليتين على الكلمتين ( قل هو ) ، ونبرتين بعدهما على ( الله أحد ) . أي أن النص شكل قدراً من التوازن أولاً ثم كسر هذا التوازن   ( أربع نبرات + نبرتين + أربع نبرات + خمس نبرات ) خالقاً بذلك نسقه الإيقاعي الحاد حدة باترة من جهة ، والمتلطف قليلاً من جهة أخرى (49) . ويمكننا أن نعد ذلك جوهر موقف القرآن الكريم من المذاهب التي تنسب لله ولداً . غير أن هذا الانتظام ليس له صيغة محددة تشترك بها نصوص عديدة , بل ينشأ حين ينشأ بنهج خاص بالنص الذي يحدث فيه . وينجلي ذلك بمقارنة إيقاع هذه السورة مع سور قصيرة مماثلة لها مثل سورة الناس , وسورة الفلق, وسورة المسد وغيرها .
إن منابع الإيقاع القرآني الظاهرة في العمل يمكن ردها إلى ما يأتي (50) :
1- الموسيقى النابعة من تآلف أصوات الحروف في اللفظة الواحدة ، كما لا يخفى أن الأصوات متفاوتة في الجرس يقرع بعضها بعضاً حين تجتمع في اللفظ ، فينتج عن تقارعها المتناغم لغة موسيقية جميلة .
2- الموسيقى النابعة من تآلف الكلمات حين تنتظم في الترتيب فقرات وجمل ، فالألفاظ المفردة تقرع الألفاظ المفردة المجاورة لها سابقاً ولاحقاً ، وينجم عن تقارعها المتناسق لغة موسيقية جميلة (51) .
وليست غاية الألفاظ للوصف والتصوير فحسب بل النغم أيضاً ، والذي يأتي من طبيعة الحروف . وهذا النغم ليس غاية في ذاته وإنما هو وسيلة للإيحاء . وللألفاظ قيمة ذاتية إذ تقدم المتعة الحسية التي يجدها المتلقي مستمعاً أو قارئاً ، فتنشأ من تتابع أجراس حروفها ، ومن توالي الأصوات التي تتآلف منها في النطق ، وفي الوقوع على الأسماع . كما أن التلاؤم يكون في الكلمة بائتلاف الحروف والأصوات وحلاوة الجرس ، ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقرات وحسن الإيقاع (52) . وليست آيات القرآن الكريم موزونة حسب قواعد السجع ، ولا يمكن أن نسمي ما فيه من جرس وإيقاع سجعاً ، لأن هذا الاسم مأخوذ من مصدر بشري هو سجع الكهان ، وسجعات القرآن توضع تحت اسم فاصلة (53) .
كما أن للقرآن الكريم نظام صوتي وجمال لغوي ، ينتظم باتساقه وائتلافه في الحركات والسكنات والمدات والغنات اتساقاً عجيباً وائتلافاً رائعاً . فهذا الجمال الصوتي هو أول شيء أحسته الأذان العربية ، أما الجمال اللغوي فيتميز برصف الحروف وترتيب الكلمات . كما أن للقرآن الكريم تعاملاً خاصاً مع الحرف والكلمة ، فهو له تعابيره الفريدة ، وكذلك قدراته التعبيرية لتقديم الصورة الفنية ، وتعميق الملامح ، وعرض التجربة كما لو كانت حية معاشة تتخلق أمامنا ، فهو قد بُنِيَ على تقطيع الأصوات ، وجرس الحروف ، وإيقاع الكلمات . فما من قدرة تعبيرية للحرف والكلمة إلا فجرها كتاب الله - عز وجل - وبنى عليها معماره المتناسق الجميل (54) .
إعجاز النغم القرآني :
ونحن عند قراءتنا للقرآن قراءة سليمة ندرك أنه يمتاز بأسلوب إيقاعي ينبعث منه نغم ساحر يبهر الألباب ، ويسترق الأسماع ، ويستولي على الأحاسيس و المشاعر . وأن هذا النغم يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار والفواصل السريعة ، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة ، ويتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال ، ولكنه يظل دوماً ملاحظ في بناء النظم القرآني .
و لعلنا لا نخطئ إن رددنا سحر هذا النغم إلى نسق القرآن الذي يجمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً . يقول سيد قطب : " النسق القرآني قد جمع بين مزايا الشعر والنثر جميعاً ، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة ، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة ، و أخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر ؛ الموسيقى الداخلية ، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تغني عن التفاعيل ، والتقفية التي تغني عن القوافي ، وضم ذلك إلى الخصائص التي ذكرنا فجمع النثر والنظم جميعاً " (55) .
كما أن هذا النغم القرآني ليبدو في قمة السحر والتأثير في مقام الدعاء ، إذا الدعاء بطبيعته ضرب من النشيد الصاعد إلى الله ، فلا يحلو وقعه في نفس المبتهل إلا إذا كانت ألفاظه جميلة منتقاة ، وجمله متناسقة متعانقة ، و فواصله متساوية ذات إيقاع موسيقي متزن .
 والقرآن الكريم لم ينطق عن لسان النبيين والصديقين والصالحين إلا بأحلى الدعاء نغماً , وأروعه سحراً وبياناً . كما أن النغم الصاعد من القرآن خلال الدعاء يثير بكل لفظةٍ صورةً ، وينشئ في كل لحن مرتعاً للخيال فسيحاً . فتصور مثلاً ونحن نرتل دعاء سيدنا زكريا u شيخاً جليلاً مهيباً على كل لفظه ينطق بها مسحة من رهبة ، وشعاع من نور ، و نتمثل هذا الشيخ الجليل ـ على وقاره ـ متأجج العاصفة ، متهدج الصوت ، طويل النفس ، ما تبرح أصداء كلماته تتجاوب في أعماق شديدة التأثير، بل أن زكريا في دعائه ليحرك القلوب المتحجرة بتعبيره الصادق عن حزنه وأساه خوفاً من انقطاع عقبه ، وهو قائم يصلي في المحراب لا ينئ ينادي اسم ربه نداء خفياً ، ويكرر اسم ( ربه ) بكرة وعشياً ، ويقول في لوعة الإنسان المحروم ، وفي إيمان الصديق الصفي في هذه الآيات من سورة مريم : ] رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً [ (56) .
إن البيان لا يرقى هنا إلى وصف العذوبة التي تنتهي في فاصلة كل آية بيائها المشددة وتنوينها المحول عند الوقف ألفا لينة كأنها في الشعر ألف الإطلاق . فهذه الألف اللينة المرخية المنسابة تناسقت بها كلمات ( شقياً ) و( ولياً ) و( رضياً ) مع عبد الله زكريا ينادي ربه نداء خفياً ، ولقد استشعرنا هذا الجو الغنائي ونحن نتصور نبياً يبتهل وحده في خلوة مع الله ، وكدنا نصغي إلى ألحانه الخفية تتصاعد في السماء .
ولو تصورنا جماعة من الصالحين مختلفي الأعمار ، وهم يشتركون ذكرانا وإناثاً، شباناً وشيوخاً بأصوات رخيمة متناسقة تصعد معاً وتهبط معاً ، وهي تجأر إلى الله  و تنشد هذا النشيد الفخم الجليل في آيات من سورة آل عمران : ]رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ[ (57) . ففي تكرار عبارة ( ربنا ) ما يلين القلب ، ويبعث فيه نداوة الإيمان ، وفي الوقوف بالسكون على الراء المسبوقة بالألف اللينة ما يعين على الترخيم والترنم .
 و لئن كان في موقفي الدعاءين هذين نداوة ولين ، ففي بعض مواقف الدعاء القرآني الأخرى صخب رهيب . ها هو ذا نوح - عليه السلام-  يدأب ليلاً و نهاراً على دعوة قومه إلى الحق ، ويصر على نصحهم سراً وعلانية ، وهم يلجون في كفرهم وعنادهم ، ويفرون من الهدى فراراً ، ولا يزدادون إلا ضلالاً واستكباراً ، فما على نوح ـ  وقد  أيس منهم ـ إلا أن يتملكه الغيظ و يمتلئ فمه بكلمات الدعاء الثائرة الغضبى تنطلق في الوجوه مديدة مجلجلة ، بموسيقاها الرهيبة ، وإيقاعها العنيف ، وما تتخيل الجبال إلا دكاً ، والسماء إلا متجهمة عابسة والأرض إلا مهتزة مزلزلة ، والبحار إلا هائجة ثائرة ، حين دعا نوح على قومه بالهلاك والتبار فقال في سورة نوح : ] رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً [ (58) .
أما الحناجر الكظيمة المكبوتة التي يتركها القرآن في بعض مشاهده تطلق أصواتها الحبيسة ـ بكل كربها وضيقها وبَحَّتِها وحشرجتها ـ فهي حناجر الكافرين النادمين يوم الحساب العسير ، فيتحسرون ويحاولون التنفيس عن كربهم ببعض الأصوات المتقطعة المتهدجة ، كأنهم بها يتخففون من أثقال الديْن ، يدعون ربهم دعاء التائبين النادمين ويقولون في سورة الأحزاب : ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [ (59) .
 إن هذه الموسيقى الداخلية لتنبعث في القرآن حتى من اللفظة المفردة في كل آية من آياته ، فتكاد تستقل ـ بجرسها و نغمها ـ بتصوير لوحة كاملة فيها اللون زاهياً أو شاحباً ، وفيها الظل شفيقاً أو كثيفاً . أرأيت لوناً أزهي من نضرة الوجوه السعيدة الناظرة إلى الله ، ولوناً أشد تجهماً من سواد الوجوه الشقية الكالحة الباسرة في قوله تعالى في سورة القيامة : ] وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ[ (60) . لقد استقل الإيقاع في لوحة السعداء بلفظة ( ناضرة) وبتصوير أزهى لون وأبهاه ، كما استقل في لوحة الأشقياء لفظة ( باسرة ) برسم أمقت لون وأنكاه .
إن العلاقة بين القرآن الكريم والموسيقى اللغوية علاقة وطيدة ، فموسيقى القرآن اللغوية من أروع أنواع الموسيقى اللغوية وأجملها على الإطلاق ، وأشدها تجانساً ، وأكثرها تناغماً وانسجاماً . وهي موسيقى ناشئة من تخير الكلمات وترتيب الحروف والجمل حسب أصواتها ومخارجها ، وما بينها من تناسب في الجهر والهمس والشدة والرخاوة ، إلى درجة الرافعي أن هذه الموسيقى جزء من إعجاز القرآن الكريم ، ولكن هذه الموسيقى لا تخرج عن كونها موسيقى لغوية هدفها هز مشاعر النفس وإذكاء الروح حتى تستجيب لأمر الله وتنقاد لشرعه (61) .
حقيقة الإيقاع القرآني :
يرى كثير من الباحثين أن الإيقاع القرآني يصعب شرحه لما يمتاز به من عمق وسحر لا يعرف مصدره تحديداً ، وإن كان من الممكن الحديث عنه أو تفسيره تخمينا . يقول سيد قطب : " على أن هناك نوعاً من الموسيقى الداخلية يلحظ ولا يشرح ، وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة ، وتركيب الجملة الواحدة ، وهو يدرك بحاسة خفية وهبة لدنية " (62) .
وكثيراً ما نلمح في النص القرآني ما يعضد هذا الإيقاع ، ويقوي أصوله ، مثلما نلمح في قوله تعالى من سورة طه : ] وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ  وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [ (63) ، كلمات في غاية الرقة مثل ( يبساً ) أو ( لا تخاف دركاً ) فالكلمات تذوب في يد خالقها ، وتصطف وتتراص في معمار ورصف موسيقي فريد ، هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً ولا حقاً ، لا شبيه بينه وبين الشعر الجاهلي ، ولا بينه وبين الشعر والنثر المتأخر .
ويرى مصطفى صادق الرافعي أن هذا الإيقاع القرآني الفريد هو مناط الإعجاز والتحدي لقريش لما قرأه عليهم رسول الله r في بدء الدعوة . يقول الرافعي : " لما قرئ عليهم [ يعني قريشاً ] القرآن رأوا حروفه في كلماته ، وكلماته في جمله ، ألحاناً لغوية رائعة ، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة ، قراءتها هي توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى وأنه أمر لا قبل لهم به ؛ وكأن ذلك أبين في عجزهم حتى إن من عارضه منهم كمسيلمة جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظماً موسيقياً أو باباً منه ، وطوى عما وراء ذلك من التصرف في اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البياني ، كأنه فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها . وليس يتفق ذلك في شيء من كلام العرب إلا أن يكون وزناً من الشعر أو السجع " (64) .
  وقد حاول سيد قطب توضيح حقيقة الإيقاع في القرآن فقال : " إن في القرآن إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع يتناسق مع الجو ويؤدي وظيفة أساسية في البيان . فالإيقاع الموسيقي في القرآن الكريم ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات ، وتناسق الكلمات في الجمل ، ومرده إلى الحس الداخلي . والإدراك الموسيقي الذي يفرق بين إيقاع موسيقي وإيقاع ولو اتحدت الفواصل والأوزان " (65) .
ويقترب الرافعي قليلاً من سر هذه الموسيقى  فيقول : "  فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره ، أو أقحم معه حرف آخر ، لكان ذلك خللاً بيناً أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وجرس النغمة ، وفي حس السمع وذوق اللسان ، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض ، ولرأيت لذلك هجنة في السمع كالذي تنكره من كل مرئي لم تقع أجزاؤه على ترتيبها ، ولم تتفق على طبقاتها ، وخرج بعضها طولاً وبعضها عرضاً " (66) .
 ويجب أن نلاحظ أن الإيقاع القرآني لا يعمل بصورة منفردة وبمعزل عن السياقات المتنوعة في النص القرآني ، وذلك لأن النص القرآني منظومة متكاملة الأطراف يفضي بعضها إلى بعض في سياق تنظيمي فريد . فالإيقاع القرآني يتبع في نطاق عمله الموضوع الذي تتكلم عنه الآيات القرآنية .
ويرى سيد قطب أن الإيقاع القرآني يتنوع تبعاً للموضوع الذي تتحدث عنه الآيات القرآنية فمثلاً  " التكوين الموسيقي في قوله تعالى : ]وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [ (67) يذهب طولاً وعرضاً في عمق وارتفاع ، ليشترك في رسم الهول العريض العميق ، والمدات المتوالية المتنوعة في التكوين اللفظي للآية تساعد في إكمال الإيقاع وتكوينه واتساقه مع جو المشهد الرهيب العميق " (68) .
وإذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر والعجب والذهول ، فالسبب هو التعود والألفة والمعايشة منذ  الطفولة ، والبلادة والإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا. ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكررون السور من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة . نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني وتتسطح العبارات .
التشكل الإيقاعي في القرآن (69) :
تنبع من النظم القرآني خصائص نغمية وإيقاعية تتشكل وفقاً للتوجه السياقي في كل جملة من آياته . ويتم هذا التشكل من خلال وضع الحرف أو الكلمة أو الجملة على هذا النحو من الأنحاء وذلك قصدأً إلى ملامح فنية تأتي في مقدمتها الموسيقى ، وبذلك يضحي التعبير أبرع والتأثير أروع .
إن دور الإيقاع في القرآن- هذا الدور الكبير- لا تنبع أهميته من أنه أحد عناصر الأسلوب الفني أو وسيلته البارزة وسيلة التصوير والتعبير والتأثير فحسب ، بل لأن له هدفاً دينياً أولاً ، ولأننا نستطيع أن نجعله- ثانياً- أساساً أو معياراً أو مفتاحاً- اختر ما شئت- لأحد علوم القرآن الكريم .
فالإيقاع ذو هدف ديني من جانبين : جانب الحافظ وجانب المستمع ، فالأول يساعده على حفظ القرآن وتذكره وتلاوته ، والثاني يجعله ينفعل له ويتأثر به . ولعلنا نلمح أن إدراك الطفل لنغم الكلام وجرسه يسبق إدراكه لمعناه وأخيلته ، كما أن الإنسان لديه ميلاً غريزياً أو استعداداً فكرياً لالتقاط وتذكر جملة من المقاطع الصوتية المنغمة والمترددة أكثر بكثير من استعداده لالتقاط بعض المقاطع العادية غير المموسقة من الكلام ، وكل من شاهد حفظة القرآن من الأطفال يعرف أنهم يجدون سهولة واضحة في حفظه وتذكره أكثر مما يجدون في حفظ غيره من النصوص وتذكرها لأن الإيقاع يساعدهم على هذا .
وبالإيقاع نستطيع أن نعرف المكي من المدني لا سيما في تلك السور التي وقع حولها خلاف فقيل إنها مكية كما قيل إنها مدنية (70) . ويمكن عن طريق فحص الموضوع والأسلوب وطريقة الأداء والوقوف عند نغم الآيات وإيقاعها أن نحدد - ونحن مطمئنون - مكية بعضها مثل : ( التكاثر ، والعاديات ، والزلزلة ، والرعد ، والرحمن ) ،  ومدنية بعضها الآخر مثل : ( الجمعة،  ومحمد ، والحج ، والنساء ) . ولنأخذ سورة الزلزلة مثالاً على هذا الإيضاح الإيقاعي (71) . يقول تعالى : ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا {2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا {5} يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ {6} فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ {7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ {8}‏ ) .
تبدأ حركة النص عنيفة قوية ، إنه يوم القيامة حيث ترجف الأرض وتزلزل ، وتنفض ما في جوفها ، تتخفف من أثقالها التي حملتها وناءت بها ، ويقف الإنسان دهشاً ضائعاً مذعوراً يتساءل : ما الأمر؟ ما لهذه الأرض ترج وتزلزل ، ماذا أصابها ؟ وتتحدث الأرض ، تصف ما جرى لها ، إنه أمر الله ، أمرها أن تمور فمارت ، أن تقذف ما في بطنها فقذفت ، هنا والإنسان مشدوه يكاد لا يلتقط أنفاسه ، خائف يترقب ، في لمحة سريعة يعرض مشهد القيامة من البعث حتى الحساب ، الناس يصدرون كالجراد ، وينتشرون موزعين متخالفين ، فقوة الزلزلة وهول البركان العظيم فرقهم ، جعلهم مذعورين خائفين أشتاتاً أشتاتاً حيارى يهرعون في كل اتجاه ، ولكن إلى أين ؟ إلى الميزان ليحاسبوا ، ليروا أعمالهم ، فمن يعمل الخير أو الشر مهما يكن هذا أو ذاك ضئيلاً ودقيقاً سيجده ماثلاً إزاءه ، يراه رأي العين .
إيقاع النص يساوق هذا المعنى ويحمله فهو مثله لاهث سريع يرجف كالأرض وكالإنسان فرقاً واضطرابا ً. كل ما فيه متحرك بارز  ماثل ، الكلمات في جرسها ، في طباقها وتوافقها ، فيما تنشره من أفياء وظلال . كلمات ( الزلزلة ، أثقال ، مثقال ، ذرة ، أشتاتاَ ، ليروا ، يره ) كلها تشي بالموقف وتعبر عنه ، ومع ذلك فهذه الكلمات وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ في وصف المشهد قدر ما يبلغه الخيال السمعي والبصري حين يتملى النص ، فالسورة هزة ، وهزة عنيفة للقلوب الغافلة ، هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي ، إنها صيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها ، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار ، فهل هذا أو بعض هذا مما يجيء في السور المدنية ، أو تعبر عنه وتصفه السور المدنية ؟! (72) .
مصدر الإيقاع القرآني :
أحياناً قد نتساءل : ما مصدر الإيقاع في القرآن ؟ وإلامَ يرجع ؟ أو َيرجع إلى الآيات بما فيها من قيم موسيقية ؟ أم يرجع إلى التنغيم بما فيه من قيم إنشائية ، أم يرجع إلى مصدر غيبي بما له من سحر خفي نحس أثره في النفس ولا نعرف منبعه؟ وبكلمات أخرى هل يعود الإيقاع في القرآن إلى النص ، أو إلى المقرئ ( التالي ) ، أو إلى المتلقي ( السامع ) ؟ ولنناقش المصادر الثلاثة.
أولاً : مصدر النص :
قررنا فيما سبق أن الإيقاع من خصائص الشعر والنثر معاً ، ولذا فإنه من المفترض بنا الآن أن نميز بين ثلاثة أنواع من الإيقاعات النثرية :
الأول : إيقاع النثر العادي أو العام الذي يفلت من عنصري الانتظام والتوقيت (73) .
والثاني : إيقاع النثر الفني الذي يعتمد بالصنعة عليهما.
والثالث : إيقاع القرآن الذي يباينهما لينشئ تدرجات صوتية مختلفة ، وكيفيات نغمية تتراوح بين الانتظام والتناسب ، وبين التوازن والتقابل ، تبعاً للفكرة أو للموضوع ، وللموقف أو للمعنى الذي يريد أن يعبر عنه أو يوصله . وفي كل سورة أو نص قرآني ينبع الإيقاع من اندماج عنصرين هما :
1 - نغمة خاصة تناسب الفكرة ، وتقوم الفاصلة فيها بدور المفتاح .
2- لحن ينتظم النغمات جميعاً على اختلافها ، في شكل منسجم ، يخلف في روح المتلقي شعوراً ما .
 وبالنغمات يوقع القرآن إيقاعات شتى على أوتار النفس ، وباللحن المتساوق يترك وحده الأثر ، والعلاقة بين النغمات التي تصنع اللحن علاقة ذات أساليب شتى ، فقد تقوم على الشوق أو الترقب ، أو على الترجيع أو على سواها حتى يثير القرآن في أنفسنا ألواناً من الانفعالات تنصهر أخيراً في بوتقة الإحساس النهائي حين تتجه إلى غايتها المنشودة . ولعل التطبيق الإيقاعي على أحد السور القرآنية يكون مفتاحاً لتبيان هذا التقرير التفصيلي لأنواع الإيقاع كما يلي :
سورة النازعات : مكية ، وعدد آياتها (46) آية . تُقَسَّم إلى ستة محاور تبعاً للسياق القصصي فيها . يقول تعالى :
الأول : ] وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً{1} وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً {2} وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً{3} فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً{4} فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً {5} [ .
الثاني :  ]يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ {6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ {7} قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ {8} أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ {9} يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ {10} أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً {11} قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ {12} فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ {13} فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ {14} [‏ .
الثالث : ] هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى {15}‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى {16} اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى {17} فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى {18} وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى {19} فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى {20} فَكَذَّبَ وَعَصَى {21} ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى {22} فَحَشَرَ فَنَادَى {23} فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى {24} فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى {25} إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى {26} [‏ .
الرابع : ] أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا {27} رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا {28} وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا {29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا {30} أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا {31} وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا {32} مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ {33} [‏ .
الخامس : ] فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى{34} يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى{35} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى{36} فَأَمَّا مَن طَغَى{37} وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا {38} فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى {39} وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى {41} [‏ .
السادس :  ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا {42} فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا {43} إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا {44} إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا {45} كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا {46} [‏  . pixle.gif (35 bytes)
المعنى الجامع :
موضوع السورة يوم البعث ، وهذا الموضوع أكثر هيمنة في الآيات المكية عنها في المدنية . فهذا اليوم ينكره الكافرون ويهزأون به . فكيف يثيره القرآن في نفوسهم ؟ لا بد أن يلفت نظرهم أولاً إلى واقع مادي مماثل يشاهدونه كل يوم ، وليس لدى العربي أجمل من منظر الخيل المغيرة السابحة التي تكابد وتنزع في أعنتها حتى تنهي الحرب ، وتدبر أمر الظفر والغلبة. ثم يستحضر لهم في المقابل واقعاً آخر من الغيب الذي يرفضونه ولا يؤمنون به ، ويمثل لهم ما يحدث فيه من هزة عنيفة تغير الثابت من نظام الكون . ثم يأخذ بهم ثانياً في الماضي وفي الحاضر ، فيما يسمعون من قصص الغابرين ، وفيما يرون من آثارهم الدارسة أمامهم . ويعود بعد ذلك إلى القضية الأم ، المسألة الأصل ، يوم القيامة فيصف مآل الناس فيها إلى نعيم مقيم أو عذاب خالد ، ويختم بالسؤال عن موعد هذا اليوم وعن ترقبه الداهم ، وخفاء ذلك على كل البشر حتى المصطفى – صلى الله عليه وسلم - .
التحليل الإيقاعي :
يتألف إيقاع السورة من ست جمل موسيقية :
1- الجملة الأولى واجفة مسرعة ، تركض ركضاً ، وتنزع نزعاً ، وتستحيل في ارتفاع درجتها ، وحدة جيشانها إلى خمسة تركيبات متساوية كأنها موزونة وزن الشعر ( مستفعلن فعولن ) ، وهذا المطلع السريع يتفق مع ظل المعنى الغامض وإيماءاته المتعددة ، وما يثيره في النفس من هزة ورهبة وتوجس . إن الأنفاس تكاد تتقطع ذعراً وارتجافاً وانبهاراً مرة بالموسيقى الخاطفة القارعة ، ومرة بفيء المعنى الغامض .
2- ثم تجيء الجملة الثانية طابعها من طابع المطلع ، وإيقاعها من إيقاعه ، كأنما المطلع لهذا المشهد إطار ، الموسيقى ما زالت واجفة ، هزاتها في الحس قوية ، وتوجساتها في الشعور تهول وتروع .
3- تتغير النغمة أو الإيقاع في العبارة الثالثة ، فجو الحكاية وعرض الماضي واستحضار الذكريات لا تناسبه نغمات قارعة ولا واجفة ، معها يهدأ الإيقاع وينساب ، فتمتد العبارة ، وتطول الجملة ، ويتحول الخيال السمعي إلى خيال تأملي استرجاعي ، ومما يوافق هذا الخيال  نغمات لا تعنف ولا تشتد بل تبطئ وتسترخي .
4- ترتفع نبرة النغمة في الجملة الرابعة حين ننتقل من ساحة التاريخ والذكرى إلى كتاب الكون المفتوح ومشاهده الهائلة ، هنا يبدو التعبير قوي الأسر قوي الإيقاع ، ولكنه لا يصل إلى درجة المطلع أو المشهد الأول في حدته ، وإيقاعه اللاهث .
5- وتجيء الجملة الخامسة في سياق مشهد الطامة الكبرى ، فتعود النغمة حادة كما كانت في المطلع ، تتسق معه قوة وعنفاً وبروزاً .
6- في اللحظة التي يغمر فيها الوجدان ذلك الشعور المنبعث من التوقيعات المختلفة ، واللمسات الموحية ، يرتد السياق في الجملة الأخيرة إلى المكذبين بيوم الساعة بإيقاع حازم هائل وسريع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها في الحس وفي النفس ، وتشارك الهاء الممدودة في تجسيم الهول وتشخيص الضخامة .
ولقد كانت الفاصلة ( القافية ) في النغمات جميعاً تقوم بدور المفتاح ، فتلون النغمة وتمنحها درجتها ، وتعددت الفواصل بتعدد النغمات حتى بدت كأنها النهايات الطبيعية التي كانت تصل إليها كل موجة متدفقة من موجات التعبير الزاخر بالحركة والجيشان .
أما لحن السورة وهو مجموع النغمات بمفاتيحها وفواصلها في حالات ارتفاعاتها وانخفاضاتها فإنه يعتمد على لونين من الإيقاع :
- أولهما : إيقاع هادئ بطيء هو اللون الثانوي كما في الجملة الثانية .
- وثانيهما : إيقاع شديد بارز هو النغمة الرئيسة ، ويبدو في حدة كلماته ، وشدة نبراته ممثلاً في ( النزع ، والغرق ، والراجفة ، والرادفة ، والزاجرة ، والطامة ، وطغى ، وبرِّزت ، والجحيم ) . وكان يتم الانتقال من نغمة إلى نغمة ، أو من جملة إلى جملة ضمن الإيقاع العام ، ويجمعها جميعاً صور من صور التعانق أو التآلف التي تسري فيها حركة واحدة رغم تموجها ، هي حركة الإيقاع وحركة الصورة ، وحركة الكون الخارجي ، وحركة النفس الداخلية . وهي حركات تقوم على الرجف والوجف والاضطراب ، وتكون النتيجة أن القلب البشري يحس في ذاته آثار الزلزلة والهول ، ويهتز هزة الخوف والوجل ، ويتهيأ لإدراك ما يصيب القلوب يوم الفزع الأكبر من ارتعاش لا ثبات معه ، وبذلك يصل القرآن إلى مقصده .
هذا هو المصدر الأول لإيقاع القرآن متمثلاً في إيقاع النص , و يتجلى واضحاً لكل من عاش القرآن ، واستلهم روحه ، وأرهف السمع لنغماته .
ثانياً: مصدر المقرئ ( التالي ) – التنغيم :
نميز تلاوة القرآن من تنغيمه ، فالتلاوة بطرائقها الثلاث : الترتيل والتدوير والحدر علم شرعي يتناول الحروف في مخارجها وصفاتها ، وهو علم قديم له أصوله وقواعده التي ثبتت عبر العصور فلم تتغير ، ولعل القرآن من هذه الجهة هو الحافظ الوحيد الذي حفظ العربية وطريقة نطق حروفها ، ومن يستمع إلى المصحف المرتل يستطيع أن يتمثل أحكام النطق ومواقع النبرات في لغتنا .
أما التنغيم أو التغني فأمر آخر مختلف ، إنه فن المقرئ الخاص ، وكيفية أدائه للقرآن ، مظهر من مظاهر الإبداع ، أو محاولة من المرتل لإظهار براعته ، علاوة على تعميق أثر النص الذي يقرؤه في نفوس سامعيه ، وبهذه الدلالة للتغني يكون أقرب إلى الموسيقى منه إلى التلاوة ، فهو والغناء صنوان يلتقيان في الأصل الإيقاعي وفي الجذر اللغوي ثم يفترقان أو يتخالفان .
ثالثاً : مصدر المتلقي :
لا شك أن في القرآن نوعاً من الموسيقى الخفية تلفظ ولا تشرح ، لكن كيف ندرك هذه الموسيقى ، وهذا الإيقاع ؟ وهذا التساؤل يلحق به تساؤل آخر مكمل له هو : كيف نتلقى القرآن ؟ فالدراسات النفسية والجمالية لعملية التلقي تثبت أن تركيب الأثر الفني لا يكون تاماً ولا كاملاً إلا إذا التقت في رحابه وتداخلت طاقتان الطاقة الكامنة في النص والطاقة المنبثقة عن التلقي (74) .
والتقاء عالَم النص وعالَم المتلقي أمر ضروري لحياة النص ، فللنص حياة تعج بالحركة والامتداد بما يحمله من كلمات تعبيرية وصور فنية ، وقيم موسيقية ، وتركيبات بلاغية . أما عالم المتلقي فله حياة وخبرات جمالية وثقافية تتصف هي الأخرى بالحركة والتقابل والامتداد . ومن خلال عملية الإدراك تتصالح الحياتان ، وتلتقي الطاقتان ؛ الطاقة الكامنة في النص ، والطاقة المنبثقة عن القارئ ، ولن يكون التلقي كاملاً ، ولن يدرك القرآن إدراكاً كاملاً ، إلا إذا تداخل العالمان وتناغما .
فالقرآن يملك قيمه الروحية والفنية الخاصة به ، وهذه القيم لا تحضر إليه أو تفرض عليه ، والمتلقي الذي يكابد قراءته وتدبره ، ويعيش عالمه ، ويحلله لا يجلب معه قيماً يتخيلها ، أو لا يفترض في النص الذي بين يديه قيماً غير موجودة ، إنه يكشف القيم الكامنة فيه . وفي حالة القرآن تبدو العلاقة بين النص وقارئه أقوى لأن الأمر يتعلق بالإيمان ، بتلك الحالة النفسية التي اشترط بعضهم وجودها لإدراك ما في الكتاب من جمال ومن أداء ومن إعجاز . وحين يعايش المتلقي عالم الإيقاع القرآني يجد نفسه في واحد من أربعة مواقف (75) :
1- أن يشعر بالإيقاع وجوداً ونوعاً ويعلله .
2- ألا يلاحظ شيئاً اسمه إيقاع .
3- أن يرى تناقضاً بين المعلومات التي يعرفها عن الإيقاع وهذا الذي يجده في النص .
4- أن يحس الإيقاع ولكنه لا يستطيع أن يشرحه ويعلله ، أو يحدد مصدره .
فالموقف الأول منطقي ومتماسك ، والثاني يشير إلى أن إحدى الطاقتين الكامنة أو المنبثقة معطلة ، والثالث يدعونا إلى أن نجعل من معلوماتنا أداة موظفة لخدمة الإحساس وإلا حكمنا بفسادها ولو جزئياً إذا ناقضته ، أما الرابع فقد أغنانا عن التعليق عليه الخطابي حيث ذهب في رسالته عن إعجاز القرآن ) إلى أن ( السبب قد يخفى وأثره في النفس واضح ، وهذا لا يقنع في باب العلم ) (76) .
 ودون أن نصل إلى ذلك نقول أن مجرد المحاولة لتلمس الظواهر الإيقاعية في التعبير القرآني مهما خفيت تظل ضرورية بغض النظر عن نتائجها . وتظل موسيقى القرآن هي موسيقى النفس ، ويظل الإيقاع هو المعبر عن حالات تلك النفس ، ويرتبط بحركة شعورها ، لأنه في حقيقة الأمر هو صوت النفس البشرية ، صوت حالاتها المتباينة ، صوت فرحها وحزنها ، أملها ويأسها ، غضبها وسعادتها . لقد صور حركة إحساسها ، وكان صدى مشاعرها وانفعالاتها ، وبلغ في ذلك الغاية ، وأربى على الغاية تعبيراً وتأثيراً .

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب