مائة عام أيها السادة نكتب بحماس عن حكاية الشعب الفلسطيني، عن بطولاته وتضحياته، عن نكباته ونكساته، عن جموع شهدائه ودموع أبريائه، وعن هذا الرصيد الهائل الذي سطره بمداد من العرق والجهاد والثبات.
مائة عام أيها السادة وشعبنا يعيش أطول رواية درامية على وجه المعمورة؛ حتى أطول من الرواية الدرامية الأمريكية (غايدنغ لايت)، التي أُدرجت في موسوعة غينيس للأرقام، كأطول دراما معروضة منذ 72 سنة، لكن ثمة فرقاً بين الرواية الأمريكية والرواية الفلسطينية؛ فالأمريكية امتزجت بالفرح والحزن، أما الفلسطينية فلم تعرف إلا الحزن، الذي لعب دور البطولة في جميع حلقاتها، منذ بداياتها وحتى هذه الحلقة، التي نشاهدها ونحياها يوماً بيوم، من ظروف بائسة وأحاسيس موجعة وهواجس مقلقة، نصارع أهوال الدنيا ونتصدى لقسوتها ونقاتل بعناد وصبر ظروفها، والحكاية هي الحكاية؛ تتحرك أوتارها مع فصول الحكاية، وكأنه نص واحد لا يتغير، تتعدد الفصول وتتشابه الحلقات بين أقصى المأساة وأقصى المرارة، إنه نص حزين في العمق، خالٍ من الفرح، نص مرير، تعابير مأساوية في النص: (احتلال، انتداب، نكبة، نكسة، أسرى، استيطان وإنقسام..)، وما إلى ذلك من الكلمات والتعابير، كلها أحداث تهز القيم والتقاليد هزاً عنيفاً، وتشكل كل كلمة في حد ذاتها فصلاً من فصول البؤس، وما زال النص متدفقاً كالنهر، لا أحد يعلم متى سينقطع دابر هذه الحكاية ويخمد أوراها، لم نصل بعد إلى كلمة الخاتمة في الفصل الأخير من حكاية رائعة، كل أحداثها حزينة، اسمها (فلسطين).
تبدأ الحكاية بفصل مأساوي من صراع العائلات، تلك العائلات الهائمة إلى الوجاهة والإثراء، المولعة بالبطولات، التي امتازت بالثروة واقتناء الأراضي على بقية طبقات الشعب الحزين فنسبت إليها أنها من طينة أخرى غير طينة السواد الأعظم من الناس، حين نشدت كفة الانتداب الراجحة؛ لتدور في فلكها، ولاذت بالسلطة الحاكمة التي ناصبت شعبها العداء، وتباهت بالانتماء إليها. عند ذلك شهدنا أيها السادة من دون أن ندري كلمة الخاتمة في الفصل الأول من الحكاية، التي انتهت بنكبة فلسطين، تلك النكبة التي وزعت أهوالها ومآسيها على الجميع، وساوت بين الجميع وساوتهم بالأرض، هذه الأرض التي يجب ألا ننسى أنها كانت محور الصراع الأساسي في فلسطين، ورأينا الحقيقة المرة التي لا تمارى تقول بإيجاز: ما دام الفلسطينيون تتفرقهم أهواء عديدة وينقسمون شيعاً، لكل شيعة خطتها وأهدافها التي يختصمون عليها، فلا بأس على سلطات الانتداب من أن تضرب بعضهم ببعض، لتملك وتستبد ما شاء لها الاستبداد. وهكذا، أُسدل الستار عن الفصل الأول من حكاية الشعب العربي الفلسطيني؛ باستيلاء إسرائيل على 78% من فلسطين التاريخية واقتلاع ما يناهز 61% من مواطنيها العرب، وتشرد الشعب الفلسطيني وقيادته في المنافي بأرجاء المعمورة. وكل شيء يصير نصاً حزيناً، يترك علاماته على صفحة الزمان والمكان.
وتعيد الحكاية دورتها، كما يعيد البحر في الليل رتابة الموج الحائر، يطل علينا فصل جديد من فصول الحكاية، يخترق تراكمات الزمان، وغبار المكان، وتتحول أحداثها بتناغم شديد من صراع العائلات، أو إن شئت تسميه صراع الكبار والصغار، إلى صراع التنظيمات والتيارات، خاصة الوطني والإسلامي منها، أو إن شئت أن تطلق عليه بصراع الإرادات: بين قديم لا يريد أن يبتعد عن المشهد، وجديد يريد أن يولد من جديد في عالم السلطة والنفوذ، وهكذا دوليك.. مثل حكاية رتيبة قوامها النص الحزين، تتكرس حلقاتها بين حركتين تتصارعان، تتقاتلان، تتبارزان، مثل تنين أو ديوك مجنونة، من أجل أن تكون فلسطين ملكاً لها، عالمها لوحدها والدنيا دنياها لوحدها، وفرح الأرض فرحها. وشعبنا يعاني آلام الفرقة ويتجرع المرار من اختلاف الكلمة.
لقد دخلت فلسطين دوَّامة الصراعات، ولم تعد بإمكانها أن تتراجع، دخلت عالم الانقسام، وأصبح الانقسام مع التحيات والأمنيات الطيبة لمن كان يحلم بعالم آخر. وقتما خيلت لنا الأوهام أننا نمتلك عبقرية فذة ألا وهي الفشل، لقد فشلنا في أن تتعلم من التاريخ الزاخر بالمواعظ والعبر عن الزمن الضائع بالخبث والمؤامرات الدولية حين وقعنا في حبائل الاستعمار البريطاني ومن بعده في شباك الاحتلال الإسرائيلي؛ حين استعجلنا زمن القطاف، تماماً كمن استعجل الشيء قبل آوانه، عندما انتقلنا من الخنادق إلى الفنادق، وكأن أحداً لم يتعلم الدرس.
مائة عام أيها السادة ونحن نشاهد على شاشة الحكاية أبطالاً وأسماءً وأحزاباً وحركاتٍ عدة، كلها وجهان لعملة واحدة، تكيل كل جهة منها إلى الجهة الأخرى السباب والشتائم والانتقاص، وكانت تهمة العمالة والخيانة هي الأكثر خصوبة والأكثر سهولة والتي لا تقبل أي نقاش، حتى عظمت الفرقة. ومع ذلك كله نحتفل في كل عام بذكرى عشرين عاماً أو ستين عاماً على بارون هذا التنظيم أو تلك الحركة، ومهرجانات تقام هنا أو هناك، وتلعب الخطابات الجوفاء - التي لا تحمل من الحقيقة معنى - دور البطولة فيها، من دون أن ندري أن عشرين عاماً أو ستين عاماً أخرى قد سقطت من ضلع فلسطين في نهر المآسي والأسر.
مائة عام أيها السادة وشعبنا يتجرع كؤوس المرار والقضية تراوح مكانها وتنتظر مَن يزيح الغبار عنها، حتى تاهت في أروقة الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمات حقوق الإنسان، وأصبحت صفحات مبعثرة هنا وهناك، وراحت تعيش بين هذه الصفحات المنسية، التي نعاها الزمان وبكاها بدمعة حارة.. مائة عام أيها السادة وقضيتنا صارت كسفينة، ضلت سبيلها لا تعرف مكانها، ولا تعرف خريطتها التي محيت من قاموس السياسة العالمية، ولا أحد استطاع أن يسد الرياح الشديدة عنها وسط الأمواج المتلاطمة إلى أن اصطدمت بصخرة عاتية؛ فغرقنا في بحر من العرق والدم والدموع، وفي خضم ذلك أيها السادة كنا نعتقد أننا نرى شيئاً يلوح في الأفق؛ فرأينا أننا لم نكن نرى شيئاً على الإطلاق، وأصبحنا كالأيتام على موائد اللئام. هذا قدرنا أيها السادة، وقدر شعبنا أن يبقى صاحب قضية لا صاحب وطن، ومَن كان يدري أننا سنصبح ذات يوم قضية دولية على رفوف مكتبات الأمم. عفواً أيها السادة لا بد من توضيح بسيط، فالقضية الفلسطينية التي كانت قضية العرب الأولى ومعهم أحرار العالم، لم تعد سوى قضية ثانوية في العالم، قضية منسية، مهملة، لن يتذكرها أحد إلا حين يفتحون الصفحات المنسية أو الكتب المرمية على الرفوف.
مائة عام أيها السادة والحكاية هي الحكاية، كل فصل منها امتداداً للفصل الذي يسبقه في تجانس وانسجام، وكأنك في نهاية الأمر أمام نص واحد. ومع إطلالة فصل جديد من هذه الحكاية الحزينة نكتب بحماس أيها السادة لنسجل مأساة شعب فلسطين وما خلفوه وراءهم عند اقتلاعهم من مدن وقرى، والأمل يراودهم بالعودة، لا يعرفون اليأس ولا القنوط مهما تكررت العثرات وتوالت العقبات لإيمانهم بالممكن بكل معانيه وأبعاده، والتصدي للأكذوبة القائلة (أرض بلا شعب)، ولنؤكد على عدالة قضية شعبنا وهويته العربية، وتراثه المادي أو المعنوي، وكلنا ثقة بأن الشعب الفلسطيني الذي صمد طوال ألوف السنين برغم جميع المأسي والكوارث والحروب والاحتلالات لن يُقضى عليه؛ بل سيعود مهما تلبد الأفق بالغيوم، وطال الدرب، وتوعث السير، وتأخر زمن القطاف، كما عاد بعد كل محنة مرت به.

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   أدب    كتاب