تعد قاعدة "اليقين لا يزول بالشك"  من أكثر القواعد الكبرى تطبيقاً، فهي تمتد إلي غالبية أبواب الفقه،كما قال السيوطى:(( هذه القاعدة تدخل فى جميع أبواب الفقه،والمسائل المخرجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر)) كما أن هذه القاعدة "تعدُّ أصلاً لكثير من القواعد الفقهية كقاعدة الاستصحاب مثلاً، وتعتبر هذه القاعدة مظهراً من مظاهر اليسر والرحمة فى الاسلام"، ومعنى هذه القاعدة الفقهية:أن الأمر الثابت باليقين لا يرتفع بمجرد طروء الشك عليه، "لأن الأمر اليقيني لا يعقل أن يزيله ما هو أضعف منه، بل ما كان مثله أو أقوى".فإذا ثبت بين اثنين عقداً من العقود ثبوتاً يقنياً، ثم وقع الشك في فسخه فالمعتبر هو بقاء العقد، "لأنه ثابت باليقين، ولاعبرة بالفسخ لأنه ثابت بالشك، وهكذا فى كل الصفات والأحوال الثابتة باليقين فانها لا تزول إلاّ باليقين، أما الشك فلا يؤثر فيها".وكذلك إذا سافر رجل إلي بلاد بعيدة نائية فانقطعت أخباره مدة طويلة، فانقطاع أخباره يجعل شكاً في حياته "إلاّ أن ذلك الشك لا يزيل اليقين وهو حياته المتيقنة قبلاً وعلى ذلك فلا يجوز الحكم بموته، وليس لورثته اقتسام تركته ما لم يثبت موته يقيناً، وبالعكس إذا سافر آخر بسفينة وثبت غرقها فيحكم بموت الرجل لأن موته ظن غالب، والظن الغالب بمنزلة اليقين"، وقد اتفق الفقهاء على هذه القاعدة، واعتبروها أصلاً من أصول الشريعة، نعم أصل شرعى يدعمه العقل، والقران،والسنة النبوية،
*فمن جهة العقل:اليقين أقوى من الشك، لأن فى اليقين حكماً قطعياً جازماً، فلا ينهدم بالشك.
*ومن جهة القرآن ورد قوله تعالى:(( وما يتّبِعُ أكثرُهُم الّا ظنّاً انّ الظّنّ لا يُغنِى مِنَ الحقِ شيئًاإنّ الله عليمُ بما يفعلون)). سورة يونس:36.  
*ومن جهة السنة: مستندهم في ذلك حديث عباد بن تميم في صحيح البخاري عن عمه أنه ُشكى إلي النبى صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يُخيّلُ إليه أنه يجد الشئ في الصلاة،قال:(( لا يَنْفتِلْ أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً))، وبمقتضى الحديث يكون من تيقن الطهارة وشك في الحدث محكوماً له ببقائه متطهراً، قال النووى:(( وهذا الحديث أصل من أصول الاسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها..ومن ذلك إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة وحصوله خارج الصلاة))،  وقد أجمع العلماء على العمل بأصل هذه القاعدة، وممن نقل الإجماع الإمام القرافى إذا قال في فروقه:(( فهذه قاعدة مجمع عليها، وهي أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذى يجزم بعدمه))، ويعضد ذلك أيضاً حديث أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(( إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك، وليبين على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته، وإن كان صلى اتماماً لاربع كانتا ترغيماً للشيطان)). رواه مسلم،  فالشك في كل هذا لم يثبت به حكم، ولم يرتفع به يقين، وفي هذا الحديث من الفقه أصل عظيم جسيم في أكثر الأحكام وهو أن اليقين لا يزيله الشك، وأن الشيء مبنى على أصله المعروف حتى يزيله يقين لاشك معه، "وذلك أن الأصل في صلاة الظهر أنها فرض بيقين أربع ركعات، فإذا أحرم بها ولزمه اتمامها، وشك في ذلك، فالواجب الذي قد ثبت عليه بيقين لا يخرجه منه إلاّ يقين، فانه قد أدى ما وجب عليه من ذلك"، وهو في ذلك مثل الشبهة من حيث" أنها لا يثبت بها أو معها عقوبة حدية لكون الأصل براءة الذمة مما تلزم به العقوبة الحدية"، ومن نتائج هذه القاعدة أن القاضى إذا شك في الحد أجلد أم رجم "فانه لا يحد بل يعزر، ولو تردد بين عقوبتين، ما لم يكونا قتلاً، سقطتا وانتقل إلي التعزير، ومن نتائج هذه القاعدة أيضاً الأخذ في جرائم الحدود وعقوباتها بأقصى سن التكليف، وذلك لأن الأصل في صغار السن أنهم غير مسئولين جنائياً فإذا ارتكب شخص جريمة لم يؤخذ بها إلا إذا كان قد بلغ أقصى سن التكليف لأن ما ثبت باليقين لا يزول بالشك"، و "قاعدة اليقين لا يزول بالشك" تماثل في النظم المعاصرة القاعدة المعروفة"الشك يفسر لمصلحة المتهم".ومؤداها أنه اذا كانت وقائع القضية تحتمل تأويلاً لمصلحة المتهم وتأويلاً ضد مصلحته فترجح مصلحة المتهم،. لأن الأصل براءته" ومع حصول الشك في ادانته، نرجح جانب البراءة فنفسر الشك لمصلحته، وحتى لو حصل خطأ في هذا الاتجاه فان الخطأ في براءة متهم خير من الخطأ في ادانة برئ"، و وقد أقرت الشريعة هذا النبراس القانوني العظيم منذ ظهورها، وجعلته من أصول أحكامها، وقد أخذت به التشريعات الجنائية الحديثة ، وإن كانت لم تلتزم بتعبيرات الفقهاء في الشريعة الإسلامية، ولكن بل ريب ما هو إلا من باب درء الحدود بالشبهات، وتطبيقاته عديدة لا يحيط بها الحصر، منها "أن الشك إذا قام لدى المحكمة في توافر ظرف من الظروف المشددة في جريمة من الجرائم كما في الاكراه في السرقة، فانها تستبعد هذا الركن وتقضى في الواقعة على أساس أنها سرقة عادية، وإذا حصل الشك فيما يؤثر على وصف التهمة، تركت الوصف الأشد إلي الأخف، من ذلك أن يثور الشك في قصد القتل في جريمة الشروع في القتل، فان المحكمة تقتضى على أساس أن الجريمة جنحة ضرب عمد، وقد يثور الشك لدى المحكمة في ركن من ألأركان المكونة للجريمة، فهى عند ذلك تقضى بالبراءة، من ذلك أن يثور لديها الشك في ركن الاختلاس في جريمة السرقة، ففي مثل هذه الحالة يُقضى بالبراءة على أساس تفسير الشك لمصلحة المتهم، واعتبار أن الجريمة غير متوافرة الأركان التى تلزم للعقاب. وهكذا تتطابق النتائج التي يصل اليها الفقه الاسلامى باعمال قاعدة"درء الحدود بالشبهات"،مع النتائج التى يصل اليها القضاء الجنائى المعاصر باعمال القاعدتين الاجراءتين((افتراض البراءة)) و((تفسير الشك لمصلحة المتهم)).وكلتا القاعدتين سبق للفقه الاسلامى تقريرهما بصفة عامة،واعمالهما فى المجال الجنائى بصفة خاصة.

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   أدب    كتاب