ها هي جرافات الاستيطان بأنيابها الفولاذية الحادة ، تنهش في ذاكرتنا ، وتُعمل فيها قتلاً وتدميراً وتبديدا.. ها هي يد الغدر الإسرائيلية التي امتدت لتقطف حياة "أبو الوطنية" الفلسطينية المعاصرة ، ياسر عرفات ، تلاحق الزعيم الأبرز للحركة الوطنية الفلسطينية في المنقلب الأول من القرن الماضي الحاج أمين الحسيني ، وتسعى في اجتثاث أثره وذكراه وحضوره ، في مدينته وعاصمة فلسطين ، الدولة العتيدة المنتظرة: القدس الشريف.. ها هو "فندق شيبرد" ، منزل المفتي الكبير ، والمعْلم الوطني التاريخي في المدينة المقدسة ، يتحول إلى "ماخور" للمستوطنين ، بعد تهديمه وإعادة بنائه.

الولايات المتحدة مستاءة.. الاتحاد الأوروبي غاضب.. القناصل الأوروبيون في القدس يرسلون تقريراً مشتركاً آخر.. السلطة تندد بالخطوة الاستفزازية وترى فيها محاولة لتقويض جهود إحياء عملية السلام.. العواصم العربية ترى فيها إجراءً يظهر "عدم جدية" إسرائيل في دفع هذه العملية.. الأمم المتحدة ترى فيها مخالفة صريحة لالتزامات إسرائيل حيال "الشرعة الدولية".. إدانات واستنكارات بالجملة والمفرق تصدر من هنا وهناك.

هذا "الفيلم" حضرناه من قبل ، المرة تلو الأخرى.. لقد حفظناه عن ظهر قلب.. يستطيع أي منا ، أن يمسك بقلم وورقة ، وأن يكتب ملخصاً بكل هذا الذي يجري قبل وقوعه.. يستطيع أي منا أن يعيد كتابة هذا السيناريو ، وإخراج هذا الفيلم الرديء.. لا شيء يتغير على الإطلاق.. أيامّ وتُطوى صفحة "فندق شيبرد" ، بانتظار فتح صفحة جديدة وإزالة معلم تاريخي آخر.

ذات يوم ، قلنا أن استهداف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، المسجد الأقصى الذي بارك الله تعالى به ومن حوله ، لن يحدث أثراً أكثر من هذا الذي ترتب على إزالة "فندق شيبرد" عن الوجود.. لم تعد لدينا "غيرة" أو "حميّة" ، لا دينياً ولا وطنياً ولا قومياً.. أنظروا إلى السودان الذي يُقتطع ربعه اليوم ، من دون أن تخرج تظاهرة أو اعتصام واحد في العالم العربي ، حتى في الخروطوم ذاتها ، كل شيء هادئ ، أو بالأحرى كل شيء ميّت ، لقد فقدنا القدرة على "الإحساس" والقيام بـ"ردات فعل".. حتى التعابير اللفظية الجوفاء التي امتهنا تردادها ، ما عدنا قادرين على ترديدها.. ما لضربْ في ميتْ إيلام.

تأملوا "الحسبة الرياضية" التالية: كم خطوة استفزازية أقدمت عليها إسرائيل ، ألا يكفي كل هذا "الاستفزاز" لتفجير البراكين وتحريك الزلازل.. كم مرة "قوّضت" إسرائيل عملية السلام.. كم مرة "تهددت" الجهود الرامية لإحيائها.. كم مرة "كشف عن نواياها".. كم مرة أظهرت "عدم جديتها".. كم مرة "دقت المسمار الأخير في نعش" السلام.. كم مرة وكم مرة.. حتى هؤلاء المتهافتون ، لم يعد لديهم ما يقولونه في حالات كهذه ، إلا الرجوع لأرشيف بياناتهم القديمة ، واستلال نسخة منه ، وتعديل "المكان" و"التاريخ" فقط ، حتى يصبح جاهزا للنشر والتوزيع على الوكالات والفضائيات والصحف والرأي العام.

وما ينطبق على ردات فعل السلطة ، ينطبق بصورة أسوأ على ردات فعل المعارضة الفلسطينية ، التي تبدو كمن ينتظر أحداثاً كهذه ، للبرهنة على صحة خياراتها وتواجهاتها.. والتأكيد على بؤس الخيار التفاوضي وانسداد آفاق أوسلو وملحقاته ، لكأن الأحداث (تُقرأ الجرائم) لم يعد لها من وظائف سوى البرهنة على "عبقرية" خيار هؤلاء ، وذكاء اختياراتهم.. أما السؤال عن الكيفية التي سنوقف فيه مسلسل العدوان والاستيطان الدامي ، فليس ثمة سوى أجوبة فضفاضة عليه: "نهج المقاومة" ، والذي تحوّل عند البعض منّا ، إلى شعار من طراز الشعار ذائع الصيت: الإسلام هو الحل؟،.

العرب الغافلون عمّا هم فيه وما هم عليه ، منصرفون إلى تعديل دساتيرهم لضمان الانتقال السلس للسلطة من الأب للإبن ، ومن دون "روح قدس".. هم منهمكون في النظر إلى مستقبل وحدة البلاد والعباد بعد انتصار سيناريو التشظي السوداني ، والذي يبدو أنه سيناريو قابل للتكرار في السودان ، وإعادة الانتاج في غير دولة عربية.

لقد شهدنا هذا الفيلم الممجوج من قبل ، وسنشاهده من بعد ، وربما يكون الهدف القادم ، المسجد الأقصى ذاته ، ألم تظهر "السينما الإسرائيلية" في مهرجانها الأخير ، صوراً للقدس بلا أقصى ، وقد حلّ محله هكيل سليمان ، وعلى ذات مساحة المسجد الأقصى وقبة الصخرة معاً؟،.

راح "فندق شيبرد".. راح منزل المفتي الأكبر.. وقريبا سنكتب كلاماً مشابهاً عن معلم جديد آخر ، فنحن أيضاّ لم يعد لدينا الكثير لنقوله ، بتنا نكرر الكلام نفسه ، في المناسبات ذاتها.. أصبحنا كمن ننتقدهم في السلطة والمعارضة والنظام العربي ، لم يعد لدينا الكثير لنضيفه ، وسأحتفظ بهذا المقال لمناسبة قادمة ، قد لا يطول أمد انتظارها ، وسأخبركم بما أجريته عليه من تعديلات ، أعتقد أنها لن تزيد كثيراً عن بضع كلمات ، وسيكون صالحاً للنشر في حينه كذلك ، تذكروا ذلك جيداً ، فليس في الأفق ما يدعو للتفاؤل ، وأعتذر لكم عن كل هذا القدر من "السوداوية" ، فمنظر الجرافات وهي تطيح بذاكرة شعب وتاريخه ، قاسْ على النفس والعقل والضمير والروح ، خصوصا حين يكون "ليس في اليد حيلة".


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور