مقدمة
ننطلق في بداية هذا العمل الذي نتوخى منه إعطاء نمذجة لنظرية التلقي على نصوص إبداعية، من إلقاء بعض الضوء على هذه النظرية من حيث ملاحقتها الإبداع ومحاولتها جهد الإمكان التخلص من موت النص عند حدود التأليف، إلى ما وراء ذلك بغية الكشف والاستبطان.
إن النص الأدبي بكل ما يحمله من سمات لغوية ودلالية يطرح أمام المتلقي عدة فرضيات، تنبني أساسا على العلاقة المفترض قيامها بين المؤلف الأول وهو المبدع، والمنتج الثاني أي المتلقي. والفرضية المحتمل توقعها من خلال التحليل هي الفهم، إذ:" ينطلق (فان ديك) Van Dijk من الافتراض التالي:
حتى يتمكن المستمع/ القارئ من استخدام نص معين في مقام تواصلي ما عليه أن يفهم هذا النص، لذا فإنه سيركز أساسا على ما يسميه فهم النص، معالجا في سياقه النفسي وبالأخص الإدراكي.."1
نقصد من وراء هذا التقديم إبراز سمة التحقق للوصول إلى أفق انتظار القارئ عبر المسافة الجمالية التي تطبع العلاقة بين المؤلف والمتلقي.
1 - النص الأول: إلى الأستاذ العقاد، أحدد عبد المعطي حجازي
يمكن أن نكشف عن تحقق النص الشعري الأول عبر جملة من المحطات التي تتبعها رواد نظرية التلقي. لذلك نبدأ من المبتدأ عندهم وهو أفق التوقعات أو أفق الانتظار، إذ مجابهة هذا النص تتوزع عبر مراحل:
أولا:اعتماد العتبة الأولى ( إلى الأستاذ العقاد): فالخطاب الموجه إلى الأستاذ يحمل دلالة الاحترام كما ينفيه ( استغلال طاقة النفي)، ففي الحالة الأولى نزعم أن حجازي يوجه خطاب شكر أو تهنئة. أما التوقع الثاني فلا نتوصل إليه إلا بعد مجابهتنا للنص المقدم من طرف الناشر حيث يوضح فيه دوافع الكتابة ومقصديتها.
ثانيا: استغلال طاقة النفي: إن الشاعر حين يستهل المقاطع الأولى من قصيدته بالتنكر لخصمه وعم الاعتراف بشعره، إنما يجلب هذه الطاقة إلى نفسه، وكأنه بنفيه لها لدى العقاد يجعلها سمة شعره.
ثالثا:استراتيجية النص: إذ هي تصل بين عناصر السجل الذي يحتويه ما هو خارج عن النص من المعايير والأعراف والتقاليد التي تحكم النص، فالهجاء الذي يوبخ به حجازي العقادَ لن يكون إلا آخر نص من هذا النوع لن العراف لم تعد تستسيغه.
رابعا:" مواقع اللاتحديد: إن قراءتنا لهذا النص تحولنا إلى ملء بعض الفراغات، منها نفي طاقة الشعر عن العقاد في مقابل إلمام حجازي بكل أنواع الشعر عموده وحره، ونلمس ذلك من خلال إتيانه بالتفعيلة (مستفعلن..).
خامسا: من جراء هذا التفاعل النائي بين ما هو معترف به وما هو في عداد المتنكر منه، استطاع أحمد عبد المعطي حجازي أن يخلق المسافة الجمالية التي تنبع بين كتابة المؤلف وأفق الانتظار عبر ثلاث أفعال كما حددها ياوس H-R- Yauss:
أ- الاستجابة: فهل ما وضعه حجازي بين أيدينا يتلقى استجابة مطلقة أم أنه يبقى مجرد قول؟ إن بحثنا في شعر العقاد يضعنا أمام نظم في المستوى 0لذلك يضعنا أمام:
ب- التغييب: إذ نصطدم مع عبقرية العفاد وما تحتويه نصوصه.
ج- تغيير أفق الانتظار: فنجعل من النص فقط منطلقا للتحليل ونبعد عنه التهم التي وجهها حجازي للعقاد.
من هنا نستطيع أن نحاكم النص الشعري عبر هذه المحطات لنستبين الطريق، ونوجه أفقنا نحو التحليل المقصدي المبني على الفهم الصحيح والحقيقي الذي يوصل لدرجة التحقق القصوى. ولا يتأتى ذك إلا للقارئ النموذجي أو المثالي Le Lecteur Ideal كما حدده إيزرw. Iser الذي يملك نفس سنن الكاتب حتى يتمكن من فك المعنى، أو يحقق مبدأ التأويل الذي يفترض أن يكون طريق الحل والفهم.
2- النص الثاني: شعاع لمحمد الهرادي ( أحلام بقرة)
في محاولتنا قراءة نص محمد الهرادي ( شعاع) الذي يقع ضمن مؤلفه (أحلام بقرة)، نستطيع أن نبدأ البحث من تحليل العتبات المرافقة. كان من الممكن ألا نقع على العنوان الأساس الأول، لكن مرافقته للنص أعطانا الإحاء الأول بأننا إزاء الأدب العجائبي ( الفنتازيا) دون التعمق في التحولات الدلالية. لذا ننطلق من العتبة الأولى.
أ- أحلام بقرة: تطبع هذه البنية الأولى سمة التضاد المعرفي، فنحن أمام شكلين لا متناسقين ولكي نفك هذا اللغز نحتكم إلى الأس الأول في نظرية التلقي وهو أفق الانتظار.
إن بقرة في مثل وضعية الحلم تستلزم إخراجها من وضعية البقرة العادية إلى بقرة حالمة ذات سمات إنسانية، لذلك فتحقق المعنى من هذا الجانب الأول يخضع لفهم الوضعية الجديدة. والفهم كما يتحدد في نظرية التلقي ملازم لرسم معالم المضمون، كما أن الخطاب الذي يحمله العنوان الأول يحدد القواعد الكبرى Macroregle المرتبطة بالمعايير المعبر عنها في النص عبر جمله الكبرى.
ب- شعاع: وهو بنية العنوان الثاني إذ يحيلنا إلى الموقع الافتراضي للنص، فالشعاع هو امتداد للضوء، وهو تحقق لاستمرارية السنا، كما هو ظل للحقيقة. يمكن أن نملأ الفراغ في العنوان باستلهام الحيثية المرتبطة بالعنوان الأول فالشعاع الذي هو امتداد للضوء هو استمرار لحقيقةٍ يود المؤلف إبرازها متمثلاً صورته في رمز البقرة الحالمة.
أولا:نوع النص: فالجنس الذي ينتمي إليه النص المفترض أن يكون قصة بمعنى سردا لحقيقة البقرة، لا نكتشف ألغازه إلا بالسياق لأنه نص مغلق كما حدده إيكو U- Eco: Texte Ferme لذلك ننتبه إلى بعض مفرداته التي تقيم جسرا بين النص والقارئ.
ثانيا:قراءة النص: نخترق نص شعاع من خلال مواقع اللاتحديد فنملأ بعض الفراغات0 نبدأ من الكلمة الأولى (أيقظني ) فهي حقيقة تنم عن الصحو من النوم، وهي في العمق وما يمكن أن نتوقعه هو بداية الحلم، لأنه ينشأ بين الجدران الناعسة، والستائر المتحركة في حلمها...
نستغل هنا كذلك طاقة النفي لنقول إن الهرادي لا يبتغي حقيقةً فعل (أيقظني) وإنما يحاول أن ينبه إلى ضده أي الدخول في ما بعد الصحو.
في الفقرة الثانية ينتقل المؤلف إلى فعل ثان ( حسبت نفسي مقيما في أحد القصور) فالدور الذي تلعبه هذه البداية الثانية يتطلب الوقوف عند سجل النص الذي يساهم في بناء المعنى المتوقع ، لذلك نتساءل كما تساءل إيزر عن الكيفية التي يكون بها لهذا النص معنى عند القارئ العادي قبل غيره (النموذجي/ المثالي)؟؟
منشأ هذا التحدي المفترض من القارئ يقابله إرجاء المعنى إلى حلقة أرحب وأوسع، إنها فعل التأويل الذي ينبه إلى تحقق المعنى المفترض والمتوقع. إذن من هو هذا العبد الذي ظهر فجأة ليغير من معالم النص؟ ويحول المؤلف من سرير الحرير إلى المنضدة الفولاذية المتحركة. نمل بعض هذه الفراغات ببعض تأويلات للمعنى. إن المؤلف وهو في صورة رمز البقرة ينقل به إلى حالة العبودية عبر ناقلة ( سيارة أو غيرها) من ثمة يكمم فمه ولا يستطيع أن يحقق إنسانيته بقدر ما يتنصل منها ليخور.