الشاعرة: صفاء رفعت محمد من مواليد 21/ 11/ 1975 - طبيبة عيون بمستشفيات جامعة عين شمس بالقاهرة - تُعد للماجستير فى جراحة العيون، محل الميلاد: طرابلس بليبيا، من والد مصرى وأم لبنانية من أصل فلسطينى.
بين يدى ديوانها المخطوط كتبت الطبيبة الشابة صفاء رفعت «... رحلتى مع الشعر بدأت منذ أكثر من عشر سنوات... فى البدء كان الشعر يشجينى، ويطربنى، فكنت أبحث عن أبيات الشعر فى أى كتاب يقع فى يدى، إن شيئًا لا يطرب النفس كما تطربها الحكمة التى تخبئها التجارب، ويرويها الدهر عن أصحابها.
ولأن الشعر هو لغة الحكمة، وهو لغة المعانى الجميلة.. أصبح ضرورة ملحة للنفس..وعندما بدأتُ نظم الشعر فى سنوات تلمذتى بالمدرسة، كنت أجدنى سعيدة بالكلمات التى تتشكل لتصوغ مكنونات النفس... كنت أبحث عن قصيدة تحكينى... كنت أحاول أن أكتب هذه القصيدة يومًا ما... لكنى لم أفعل بعد.
وما أقدمه بين يديك من أبيات هى مجرد محاولات قطعتها فى الطريق... وأنا عاجزة عن تقييمها، ولكن الذى أستطيع أن أؤكده هو أنها صادقة؛ لأنها نبض ما أحس به... دون إسراف أو تزييف...».
**********
ولعل شاعرتنا تدرك بعقلها أن القصيدة الشعرية معمار فنى متكامل تنصهر فيه العناصر الفنية من أفكار وأخيلة ووجدان لتخرج فى أداء تعبيرى آسر، كما عليها أن تدرك أن ما بين يديّ من شعرها ليس مجرد محاولات، ولكنها أعمال شعرية كثير منها جيد، وخصوصًا فلسطينياتها.
أولى قصائد هذا الديوان المخطوط قصيدة بعنوان «يا قدس معذرة»، ومن عجب أن يغلب على هذه القصيدة «شعورها بالذنب» كأنها هى التى فرطت فى فلسطين حتى التهمها الصهاينة وعاش أهلها مشردين لا يجدون منصفًا، أو من يساعدهم على المحن التى استبدت بهم.
تقول الشاعرة:
يا قدس معذرة
لأني
ما وفيتُ لك العهودَ
ولا أرقتُ لك الدما
يا قدسُ معذرة فإني
قد أردتك حرةً
كيما أرى فيك الغدا
يا قدس معذرة لأني
عذتُ بالصمت الكئيبْ
بيدَ أني
قد قرأتُ الحزنَ حلما
فى العيون
لكن صوت الحق
هز الأفْق فى عزم حديدْ
هل تسمعين صدى النشيد:
لا.. لن تموت القدسُ
فالأرض الطهور
زلزلت اليهودْ
إنى أرى الأشواق
فى الأفق البعيدْ
بدرية الضياء والندى
نبوية اليقين والخُطى
لا.. لن تموتى...
... لن نموت
**********
والحزن الرومانسي لا يفارق الشاعرة، بل يلح عليها، وتلح هى عليه إلحاحًا شديدًا، وهذا ما نراه ونعيشه معها فى مطولة من خمس صفحات بعنوان: «بصمات على القدس» استهلتها بقولها:
يا سيدي
إنى لأكره الحياة فى مدينتي
وأكره البؤسَ الذي
يحني ظهور الساكنين
يحيطهم بألف قيد من أسى
ويقتل الزهور فى السهول والهضابْ
ما عدتُ أشتاق الحياة
ما عدت أحمل بسْمتي
تلك التي
كانت تزيل الحزنَ
من كل الوجوه
تلك التى كانت ترش الوردَ
فى درب الثكالى التائهاتْ
تلك التى كانت ضياء
يسعد الطير الحزين
يطلق الظل السجين
وتمضى الشاعرة مازجة بين مشاعرها الملتاعة، ومظاهر الطبيعة التى شاركتها همومها ومواجيدها، وهى هنا تذكرنا بقول ابن زيدون مخاطبًا معشوقته ولادة بنت المستكفي التى قدر له أن يعيش بعيدًا عنها بُعدَ أبناء فلسطين الذين حرم الكلاب عليهم الاقتراب من وطنهم... فعاشوا بعيدًا عنه غرباء مشردين:
إنى ذكرتك بالزهراء مشتاقا=
والأفْق طلْقٌ ووجهُ الأرضِ قد راقا
وللنسيم اعتلال فى أصائلهِ=
كأنما رقّ لى فاعتلّ إشفاقا
وتمضي الشاعرة فى درب أحزانها مبررة مشاعرها بمشاهد تلتقطها من الساحة المأساوية... ساحة فلسطين الذبيحة.
وتقول لي لا أنتحب!!
قلْ لى بربك: كيف ذا؟
يا سيدي:
حين يمر بخاطري
صوت الرصاصة تخترقْ
صدر الصبي المختبئ
فى ظهر والده الذي
لم يستطع أن يحميَهْ
أواه...
دمعي قد غدا
فى مقلتيّ أسى ودمْ
وتمضى عارضة أمامنا المشاهد الدامية، التى تعلل بها حزنها المرير. ومن دواعى تسعر حزنها أكثر وأكثر أنها ترى نفسها عاجزة عن الثأر للضحايا، ونتركها تسترسل فى منظومة أحزانها:
.....
كان صبيًا يافعًا
فى العاشرةْ
زرعوا الرصاصة فى جبيْنه
كانت ملامحه تحرضنى
أن أنتقمْ
لكننى لم أستطع
فأنا السجينةُ
فى قلاع مدينتي
ومدينتي لما تزلْ
تقضى سواد الليل
فى اللهو المتاح
ثم تغفو فى الصباح
.....
ومدينتي
مشغولةٌ
بالرقص حتى الموتِ
فى ليل الأسى المر الطويل
وأنا مللتُ الانتظار
وأنا مللتُ الانتظار
المسئولية إذن عن نكبة فلسطين لا ترجع إلى الصهاينة فحسب، بل يقع وزرها كذلك على أدعياء المواطنة والولاء داخل الأرض المحتلة، وخصوصًا القادة والزعماء الذين شغلوا بأنفسهم، ومتع الحياة الدنيا.. ولولاهم ما سقطت الأرض.. واستبيح الأقصى.. وسالت دماء الأبرياء من الشيوخ والنساء والأطفال
**********
وفى قصيدتها الطويلة «ثلاث قصائد للأقصى» تتسع رؤية الشاعرة، وتعمق مشاعرها، وتتوهج حين تعلن «خلودية» الأرض؛ لأنها ليست مساحة مادية، إنما هى مساحة نفسية عقدية لا تحدها حدود، وهي على هذا أكبر من أن تباع... أو يزايد عليها أحد.. لقد ترسخ وجودها فى ضمير التاريخ بما قدمه أبناؤها من أرواح، وما بذلوه من دماء، لذلك كان «صك» وجودها «أكبر من عمر الموت»، و«أعظم من كل الحسابات».
إن الغضب الصادق
مبعثه الحق الأبقى
من كل حسابات الباعة
من حنكة كل الدلالين
فهذي الأرض المجروحة
والمصبوغة بدماء الأطفال
لا تصلح أبدًا للرهْنِ
أو تعرض فى صفقات البيع
فهذي الأرض المجروحة
روَّاها نبضُ معاناتي
ودموع ثكالى دامية
ودماء الأطفال العزّل
ما عادت أرضًا.. بل عهدًا
... وعْدًا.. لا يخلف
أو يُنقض
ينتظر بصبر فاق الصبر
بطلاً موعودًا مبرورًا
فى ثوب صلاح الأيوبي
ليقود الزحف المشتاقا
ويعيد الحق لأهل الحق
ويصوغ النصر المنشودا
ونرى الطرافة أو التجديد الموضوعي فى قصيدتها «أهم الأنباء»... وهى تدين بشدة استهانة أمريكا والغرب الآثم بدماء العرب ودماء الفلسطينيين فهى رخيصة فى نظرهم، أما إذا قتل منهم قتيل اهتزت الدنيا، وأعلنوا عن غضبهم ونقمتهم، أما الأعداد الهائلة التى يقتلها الصهاينة ظلمًا وعدوانًا، فإن دماءهم هدر لا قيمة لها.
فلم يأبه بهم أحدٌ
وما اهتزت دروب الأرض
للأطفال إذ صُرعوا
ولا للقوة السكْرى
إذا ما أصبحتْ نارا
على حرمات إخواني
وتهدمُ فى ظلام الليل
بيوتًا فوق أهليها
وإذ تحصدْ
حصاد العمر فى لحظة
وتنزعُ غرسَ بستاني
كأن دماءها ليست
دماءً حرة تشكو
لرب الأرض من ظلمٍ
طغى فى الأرض واستفحلْ
كأن صغارنا ليسوا
لهم حق بأن يحيوا طفولتهم
بلا رعب.. ولا قهرِ
بلا قتلٍ ولا هدْمِ...
إن هذه القطوف القليلة من هذه القصيدة الطويلة تطرح الطبيعة الوحشية العدوانية لسياسة أمريكا، ومن دار فى فلكها من دول الغرب، وهى سياسة تكيل بمكيالين متناقضين، فهى دائمًا فى صف الظالم على المظلوم، وصف اللص الناهب على أصحاب الأرض وأصحاب الحق.
* * * *
وفى ديوان الشاعرة الطبيبة قصائد أخرى جيدة مثل «بغداد»، و«زنبقة القلب»، و«صار قول الحق نكرا»، و«أيها الموج قل لى»، و«كيف لي أن أعود ربيعًا؟»، و«أبجدية الريح والأغصان»، و«كيف لى أن أحب الحياة؟» و«فصول من رواية جبلية قديمة: من بوح سيناء»، مما يحتاج إلى وقفات أطول لا يتسع لها المقام.
وثمة ملاحظات تشد الناقد آمل أن تنتفع بها شاعرتنا الواعدة، ألخصها فيما يأتى:
1 - المعانى والأفكار أقوى بكثير من الأداء التعبيرى مما يتطلب منها مزيدًا من الاهتمام بالصياغة اللفظية.
2 - التصوير يميل أحيانًا إلى توظيف الخيال الجزئى التفسيرى، وبعض مطولاتها تعتمد على الاستقراء وعرض المشاهد أكثر من التركيب التصويري الكلي.
3 - الشاعرة فى حاجة إلى مزيد من الدراسة العروضية ومزيد من الثروة اللغوية. وفقها الله.