اهتم أهل البلاغة في إطار بحوثهم الجمالية لتصرفات المباحث البلاغية بصور مختلفة من الألوان البديعية الصوتية التي لها مزية حسن الوقع السمعي ، والتي صُُنِّفَت مندرجة تحت مسمى ( المحسنات اللفظية ) . وهذا الاهتمام بالأثر الصوتي لهذه المحسنات الصوتية ، يصدر عن نزعة جمالية لديهم .
ولا شك أننا نجد في الشعر الجيد إيقاعاً موسيقياً غير متولد عن معانقة الوزن فقط ، بل هو ناتج عن علاقات نسقية بين الألفاظ من الناحية الصوتية ، وما يتخلل ذلك من الاتكاء على معطيات النبر والتنغيم عند الأداء الصوتي لهذا الشعر . وهذا الإيقاع الموسيقي الناتج عن مثل هذه العلاقات النسقية لا نستطيع أن نفصله عن ألوان الإيقاعات الأخرى داخل السياق الأدائي ، لأنها جميعاً تتداخل معاً لتنتج لنا مزيجاً صوتياً عذباً ، يتآلف مع المقومات الأخرى للعمل الفني كالصور والأخيلة والمعاني والانفعالات . على أنه يجب الحذر من الإسراف في تنمية مثل هذه العلاقات الصوتية لأن ذلك سيؤدي إلى نشاز جمالي داخل السياق الكلي للعمل الفني . فهذه العلاقات يجب أن يكون مقدارها موازياً لمقدار الإيقاع ، ومنضبطة معه .
ونجد عند ابن سنان لمحات عبقرية إذ أدرك الأثر الجمالي لهذه العلاقات الصوتية ، وتمثلها في نواح متعددة داخل السياق الإبداعي ، بل وجعلها شرطاً من شروط الفصاحة ، وهي ما سماه ( المناسبة بين اللفظين ) ، وهي عنده على ضربين هما ([1]) :
الأول : مناسبة بين اللفظين من طريق الصيغة .
والثاني : مناسبة بين اللفظين من طريق المعنى .
وقد جعل ابن سنان المناسبة اللفظية متمثلة في ألوان البديع الصوتي مثل : ( السجع ، والازدواج ، والجناس ، والترصيع ) ([2]) .
وابن سنان بهذا الصنيع يكون سابقاً للدراسات التعبيرية الحديثة عندما تعقد للأصوات في وضعها التعبيري أهمية قصوى لأنه " ثمة إمكانات تعبيرية كامنة في المادة الصوتية . هذه التأثيرات تظل كامنة في اللغة العادية حيث تكون دلالة الكلمات التي تتآلف منها ، والظلال الوجدانية لهذه الكلمات بمعزل عن قيم الأصوات نفسها ، ولكنها تتفجر حيثما يقع التوافق من هذه الناحية . إذن فثمة مجال بجانب علم الأصوات بمعناه الدقيق لعلم أصوات تعبيري " ([3]) .
هذا العلم بمعناه الجديد هو عين ما عناه جان كوهين باسم علم ( الأسلوبية الصوتية ) ([4]) ، وهي تلك الأسلوبية التي تنبع أصلاً من الدلالة الصوتية للكلمات . ويجعل كوهين هذه الدلالة على شقين هما :
الأول : دلالة الوزن والقافية الشعرية .
والثاني : الدلالة الصوتية الذاتية للكلمات المنتظمة داخل النسق الشعري .
والشق الثاني هو مناط الاهتمام في هذا المقام ([5]) .
ويرى بيير جيرو أن " في حوزة اللغة نسقاً كاملاً من المتغيرات الأسلوبية الصوتية ، ويمكن أن نميز من بينها : الآثار الطبيعية للصوت ، والمحاكاة الصوتية ، والمد ، والتكرار ، والجناس ، والتناغم " ([6]) .
كما أن هذه المحسنات الصوتية في توظيفها الصوتي تكون منطلقاً للوعي والتأثير . " فالشاعر حينما يكرر حرفاً بعينه ، أو مجموعة من الحروف ، إنما يكون لهذا مقصد ومغزى يعكس شعوراً داخلياً للتعبير عن تجربته الشعرية . وقد يتفوق الجرس الصوتي على منطق اللغة فيخرج عن قيد الصوت المحض إلى فيض الدلالة التي تحرك المعنى وتقويه . وليس من شك في كون الشاعر دائماً ما يحمل هم إحداث التـناغم بين الذات والصوت ، وهو في ذلك يرتكز على قيمتين تختزنهما أبجدية الحروف اللغوية هما : الأثر السمعي والمعنى " ([7]) . كما أن لهذه المحسنات أهمية قصوى في الإسهام بفاعلية في إنتاج بنية التوازي " التي يحظى فيها الصوت حتماً بالأسبقية على الدلالة " ([8]) .
والتلوينات ( التنويعات ) الصوتية التي تزخر بها اللغة ، بما لها من أثر تحسيني في بنية الأداء لهذه اللغة ، هو ما دفع البلاغيين إلى مراقبة البنية التكوينية للجملة ، والتدقيق في رصد الخواص الصوتية التي تتصل بعملية التحسين في هذا السياق .
والدراسات اللسانية والنصية الحديثة تتخذ من محددات النص - أي المكونات التي يكون بها النص نصياً – محوراً للدراسات والبحوث . والأسلوبية الصوتية التي دعا إليها كوهين ترى في توافق تام مع مقررات اللسانيات النصية أن من أهم هذه المحددات النصية عنصر ( السبك Cohesion ) الذي يتحقق بفضل انسجام عناصر نحوية وعناصر معجمية ([9]) .
والنحوية هنا تتسع في دلالاتها لتشمل المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية . وليس هناك أدل على إدراك أهل البلاغة لمفهوم السبك من مقالة ابن الأثير حين تحدث عن العلة في تفضيل لفظ على آخر بقوله : " ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظين تدلان على معنى واحد ، وكلاهما حسن الاستعمال ، وهما على وزن واحد ، وعدة واحدة ، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه ، بل يفرق بينهما في مواضع السبك . وهذا لا يدركه إلا من دقَّ فهمه ، وجلَّ نظره . فمن ذلك قوله تعالى : ( مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) ([10]) ، وقوله تعالى : ( رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ) ([11]) فاستعمل ( الجوف ) في الأولى و ( البطن ) في الثانية ، ولم يستعمل الجوف موضع البطن ، ولا البطن موضع الجوف ، واللفظتان سواء في الدلالة ، وهما ثلاثيتان في عدد واحد ، ووزنهما واحد أيضاً ، فانظر إلى سبك الألفاظ كيف تفعل ؟! " ([12]) .
والنص واضح بذاته ويدلنا على مدى الفهم الواعي لمحددات الذوق البلاغي الذي كان عليه أهل البلاغة في تعاملهم مع النص القرآني ، ومحاولاتهم تفسير ظواهره الأسلوبية الثرية .
والسبك المعجمي هو المنوط به تحقيق الصوتية الدلالية في نص ما ، لأنه يرتكز على تصرفات الألفاظ والمفردات . كما أنه يتحقق عبر ظاهرتين لغويتين هما : التكرار ( Reiyeration ) ، والمصاحبة المعجمية ( Collocation ) وهي تلك الألفاظ المتصاحبة دوماً ، بمعنى أن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر ، ومن ثم يظهران معاً دوماً ([13]) . وما يهمنا هنا في هذا المقام هو الحديث عن ظاهرة التكرار بكل أشكالها مع مراعاة أن الجانب التراثي لتناول هذه الظاهرة لن يكون حاضراً بشكله ، بل من خلال معطياته وفق تصنيف آخر يتضح من خلال السرد البحثي .
فالتكرار في صورته العامة عبارة عن تكرار لفظين مرجعهما واحد ، أي أن الأصل المعجمي لهما واحد ، دون الاعتداد بالمعنى في هذا السياق . كما " أن مثل هذا التكرار يعد ضرباً من ضروب الإحالة إلى سابق (Anaphora) بمعنى أن الثاني منهما يُحيل إلى الأول ؛ ومن ثم يحدث السبك بينهما ، وبالتالي بين الجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الأول من طرفي التكرار ، والجملة أو الفقرة الوارد فيها الطرف الثاني من طرفي التكرار " ([14]) .
كذلك ينظر إلى التكرار من زاويتين هما : زاوية الألفاظ ، وزاوية المعاني . فالتكرار من الناحية اللفظية يحقق إيقاعاً موسيقياً متناغماً ، وذلك إذا كان قائماً على وحدات متساوية من الأصوات التي اتصفت بالحسن . أما إذا قام على أصوات أو ألفاظ توصف بالثقل أو الغرابة فإنها تؤدي إلى نتائج عكسية وهي التنافر والقبح السمعي ([15]) . أما التكرار من الناحية المعنوية فإنه يرتبط بالإيجاز والإطناب والمساواة ، ويرتبط بصورة أوثق بمقام التلقي وأقدار المستمعين ، فهو يحسن في مقامات ويقبح في أخرى .
والنص القرآني لديه المثال الأوفى في توظيف التكرار واستعماله ، فهو يعتمد الإيجاز البلاغي في مخاطبة العرب أهل الفصاحة . يقول الجاحظ : " رأينا الله تبارك وتعالى إذا خاطب العرب والأعراب أخرج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف . وإذا خاطب بني إسرائيل أو حكى عنهم جعله مبسوطاً ، وزاد في الكلام " ([16]) .
وهذا اللون من التكرار المستعذب للأصوات التي تحدث إيقاعاً موسيقياً يختلف تماماً عن الإيقاع الناتج عن الأوزان الشعرية ، والقائم على تكرار التفعيلة ، وهو ناتج عن تكرار الحركات والسكنات على نحو منتظم لا يقتصر على الشعر بل يكثر أيضاً في النثر . واللسانيات النصية قدمت لنا تصنيفاً فريداً لجمالية التكرار لكن من زاوية لسانية بحته . هذا التصنيف يتمثل في أربع درجات هي ([17]) :
الأولى : إعادة العنصر المعجمي ( Repetition of Lexical Item ) ويقصد به تكرار الكلمة ذاتها دون تغيير ، ولذا يسمى التكرار التام (Full Repetition ) . وهو عند علماء البلاغة العربية تحت مسمى ( التكرير اللفظي ) ([18]) .
والدرجة الثانية : الترادف أو شبه الترادف (Synonym or Near Synonym ) ويقصد به تكرا المعنى دون اللفظ . ويكون شبه الترادف حين يتقارب اللفظان تقارباً شديداً لدرجة يصعب معها التفريق بينهما مثل كلمتي (عام) و(سنة ) ([19]) . وهذا اللون من التكرار يسمى عند البلاغيين العرب باسم ( التكرير المعنوي ) ([20]) .
والدرجة الثالثة : الاسم المشترك ( Super Ordiante ) ويقصد به الاسم الشامل الذي يحمل أساساً مشتركاً بين عدة أسماء ترتكز في سياقاتها جميعاً على هذا الأساس المشترك مثل كلمة ( إنسان ) التي تحمل أساساً مشتركاً للعديد من الكلمات مثل ( رجل ، وامرأة ، وولد ، وبنت ، وشيخ ... إلخ ) ([21]) .
والدرجة الرابعة : الكلمات العامة ( General Words ) ويقصد بها تلك المجموعة من الكلمات التي فيها من العموم والشمول حيزاً أكبر بكثير مما في درجة الاسم المشترك أو الاسم الشامل .
وهذا التقسيم اللساني لعنصر التكرار روعي فيه التدرج التوزيعي ، والمنطقة التوليدية تأثراً بنا قدمته المدارس اللسانية السابقة كالتحويلية والتوزيعية والتوليدية، فجاء هذا التقسيم متفرداً عنها ، ومنطلقاً في الوقت ذاته من أساساتها المتعددة .
وتأسيساً على التقسيم السابق فإنه يمكننا التعرض للسياق التكراري كقيمة صوتية تنضوي في طياتها العديد من القيم الصوتية البلاغية التي تؤدي الدور الأهم في السياق الدلالي . ولذلك فإنه يمكن تقسيم التكرار إلى لونين هما :
الأول : تكرار اللفظ والمعنى .
والثاني : تكرار اللفظ دون المعنى .
ونفصل القول في كل منهما على حدة .
أولاً : تكرار اللفظ والمعنى
وهذا القسم هو بعينه ما تناوله أهل البلاغة العربية قديماً في ثنايا مؤلفاتهم تحت مسمى ( التكرير أو التكرار ) ([22]) . وقد عولج هذا اللون البديعي عند البلاغيين على أساس أن حده ( دلالة اللفظ على المعنى مردداً ) كقوله تعالى : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) ([23]) بتكرار كلمة ( السابقون ) لفظاً ومعنى . وهذا التكرار اللفظي رصد له ابن رشيق تسع وظائف دلالية ترتبط كل منها بغرض شعري معين . وهذه الوظائف تتمثل في ( التشويق ، والاستعذاب ، والتقرير ، والتوبيخ ، والوعيد والتهديد ، والتوجع ، والازدراء ، والتهكم ، والتنقيص ) . وقد عدَّد ابن رشيق لكلٍ منها مجموعة كبيرة من الشواهد الشعرية المدللة على كل منها ([24]) . وما فعله ابن رشيق هو في حقيقته خلاصة ما تعاوره أهل البلاغة في دراسة مسائل التكرير ، وذلك بشيء من التفصيل والإيضاح ([25]) .
ولا شك في امتلاك ابن الأثير فنية الحس الذوقي عندما تعامل مع مسائل هذا المبحث على المستوى الإفرادي بشيء من الحرفية والإحساس الراقي . يتضح ذلك بصورة جلية من خلال تحليله لقوله تعالى : ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِِ الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ ) ([26]) حيث يقول عن تكرار ( الرحمن الرحيم ) : " كرر (الرحمن الرحيم ) مرتين ، والفائدة في ذلك ـن الأول يتعلق بأمر الدنيا ، والثاني يتعلق بأمر الآخرة . فما يتعلق بأمر الدنيا يرجع إلى خلق العالمين في كونه ، خلق كلا منهم على أكمل صفة ، وأعطاه جميع ما يحتاج إليه حتى البقة والذباب . وقد يرجع إلى غير الخلق كإدراك الأرزاق وغيرها . وأما ما يتعلق بأمر الآخرة فهو إشارة إلى الرحمة الثانية يوم القيامة ، الذي هو يوم الدين " ([27]) .
وابن الأثير يحلل التكرار في سياق إفرادي خالص ، دون أن يتطرق إلى دوره في السياق الكلي للآيات ، وما له من وظائف في هذا السياق . و هنا يثور سؤال مفاده : هل للتكرار دور وظيفي في تحقيق السبك السياقي ، بعيدا عن وظيفته التقليدية وهي التوكيد ؟! والإجابة عم هذا السؤال نتلمسها عند السجلماسي إذ يقول عن تكرار ( البناء ) وهو ضرب من أضرب التكرار عنده : " هو إعادة اللفظ الواحد بالعدد وعلى الإطلاق المتحد المعنى كذلك مرتين فصاعداً خشية تناسي الأول لطول العهد به في القول . ومن صوره الجزئية قوله عز وجل : ( أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ ) ([28]) فقوله : ( أنكم ) الثاني بناء على الأول ، وإذكار به خشية تناسيه لطول العهد به في القول " ([29]) . وهذا التكرار يسهم في تنشيط ذاكرة المستمع والمتلقي وذلك بإحالة مدلولات اللفظ الثاني إلى محكمات الأول في إطار السياق ذاته .
ويتخذ تكرار اللفظ والمعنى أشكالاً متعددة في هيكل البلاغة العربية ، تتحد هذه الأشكال على تباعدها التنظيمي في أداء الوظيفة الصوتية الدلالية ، إذ يجمعها هذا الرابط ، ويحدد هدفها في هذا الاتجاه . فمن هذه الألوان ما يلي :
الترديد :
ويقصد به أن يأتي الشاعر بلفظة متعلقة بمعنى ، ثم يرددها هي بعينها مع تعلقها بمعنى آخر في البيت الشعري نفسه ، أو في جزء منه ([30]) . وعليه قول زهير ([31]) :
مَنْ يَلْقَ يَوْماً عَلَى علاَتِهِ هَرَماً يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلُقاً
فقد علَّق ( يلق) الأولى بلفظة ( هرماً ) ثم علّقها ثانية بلفظة ( السماحة ) ، فردد اللفظة ذاتها ( يلق ) مع تعلقها بمعنيين .
ويرى ابن أبي الإصبع أن الترديد هو " أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى ثم يردها بعينها بمعنى آخر كقوله سبحانه وتعالى : (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )([32]) فالجلالة الأولى مضافاً إليها ، والثانية مبتدأ بها " ([33]) .
وينصب الترديد أحياناً على حروف المعاني إذ يتم تكرارها مرتين أو أكثر كقوله تعالى : ( وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )([34]) فقد تردد حرف الجر ( من ) في السياق الأول بكاف الخطاب ، ثم اتصل الحرف ذاته في السياق الثاني بضمير الغائب للجمع . وهذا الاتصال أسهم دلالياً في تحقيق قيمة التوقع عند المتلقي ، إذ يتوقع القارئ أنه عند موالاة الكفار يُصبح ( الموالِي ) منهم . وهذا التوقع هو الناتج الأسلوبي لقيمة الترديد في سياق هذه الآية ([35]) .
والترديد ظاهرة لغوية ذات طبيعة صوتية محضة ، ولكنها لا تهمل الجانب الدلالي الذي ينبغي أن تؤديه من خلال علاقاتها التركيبية . وقوام هذه الظاهرة هو التكرار والإعادة . والترديد بهذا الشكل يمثل مظهراً إيقاعياً يلعب فيه ذكر اللفظ ثانية دوراً موسيقياً حراًّ ([36]) .
وظائف الترديد :
للترديد ثلاث وظائف متكاملة تتمثل في ([37]) :
الأولى : إيقاعية . وأبرز ما يمثلها ترديد اللفظة نفسها في السياق .
والثانية : دلالية . وهي تقوم على ما تؤديه اللفظة المرددة من أدوار نحوية تتبعها أغراض سياقية دلالية أهمها على الإطلاق التوكيد .
والثالثة : شعرية . تقوم على ما تفرزه الألفاظ المترددة من أنماط تركيبية وإخبارية وبيانية متنوعة على مستوى الخطاب ، وتحقيق عناصر دلالية مثل المفاجأة ، والإثارة اللتين تجلبان اهتمام السامع ، وتحقيق سياق التوقع الجمالي لديه .
2- التعطف :
ويقصد به : أن تذكر اللفظ ثم تكرره والمعنى مختلف ([38]) . ولذا فهو شبيه بالترديد لكنه يختلف عنه من وجهين هما :
الأول : أن الترديد يشترط فيه إعادة اللفظة بصيغتها ، التعطف لا يشترط فيه ذلك .
والثاني : أن الترديد قد يكون في أحد أقسام البيت ؛ في المصراع الأول أو الثاني أو هما معاً ، أما التعطف فيشترط فيه أن يتباعد اللفظان بحيث يكون كل منهما في قسم منفصل .
ومن أمثلة التعطف في النص القرآني قوله تعالى : ( قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ )([39]) . فالتعطف في الآية ورد في موضعين متعلقين بلفظة ( تربصون ) التي تعلقت بالجار والمجرور ( بنا ) ، ولفظة ( نتربص ) التي تعلقت بالجار والمجرور ( منكم ) ، فتم العقد بين كل متربصين تعطفاً .
ويلاحظ ما يسهم به التعطف في سياق المنظومة الصوتية ، وما يتبعها من جماليات دلالية وسياقية قوامها ( التعلق ) الذي هو عين ( السبك ) في الدراسات النصية والأسلوبية الحديثة .
3 – رد الأعجاز على الصدور :
ولهذا المبحث تصرفات متنوعة في سياق الشعر والنثر ، ولذا فإنه يتنوع في أداء وظائفه الجمالية تبعاً لتنوع هذه السياقات .
ويقصد به في السياق النثري : أن يجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة ، والآخر في آخرها . وعليه يخرج قوله تعالى : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) ([40]) ويقصد به في السياق الشعري : أن يكون أحد اللفظين في آخر البيت والآخر في صدر المصراع الأول ، أو في حشوه ، أو في آخره ، أو في صدر المصراع الثاني . ومثال ذلك قول الأقيشر الأسدي ([41]) :
سَرِيعُ إلَى ابْنِ الْعَمِّ يَشْتُمُ عِرْضَهُ وَلَيْسَ إلَى دَاعِي النَّدَى بِسَرِيع ِ
فقد وافق الجزء الأخير من البيت ( بسريع ) الجزء الواقع في فاتحة البيت وصدره .
ويسمي بعض أهل البلاغة هذا اللون باسم ( التصدير ) ([42]) ، وإن كان أغلبهم على تسميته بـ( رد الأعجاز على الصدور ) خصوصاً المتأخرين منهم ([43]) .
أقسام رد الأعجاز على الصدور :
لهذا اللون أقسام عديدة تصل إلى ستة عشر فرعاً ، وذلك بحسب موقع اللفظة الأولى ( الصدر ) لأنها الدالة المتحركة بحرية بخلاف الثانية ( العجز ) الثابتة دوماً في نهاية البيت .
وهذه الأقسام العديدة ناتجة عن عملية حسابية تعدت الأصل فصارت على هذا التزيد . فنحن لدينا أربعة أشكال من الألفاظ التي يقع فيها هذا اللون ، وهذه الأشكال هي ( المكرران ، والمتجانسان ، والملحقان بالمتجانسين اشتقاقاً ، والملحقان بالمتجانسين بشبه الاشتقاق ) . كذلك لدينا أربعة مواقع للفظ الأول ( الصدر ) وذلك لثبات الموقع للفظ الثاني ( العجز ) . وهذه المواقع هي :
- أول المصراع الأول .
- حشو المصراع الأول .
- آخر المصراع الأول .
- أول المصراع الثاني .
وعليه يكون مجموع ما لدينا من أضرب وأقسام لهذا اللون هو الناتج من حاصل ضرب الأشكال الأربعة في المواقع الأربعة . وما يهمنا من هذه الأضرب هو ما ورد من توظيف في سياق النص القرآني ، وبيان هذه الأنماط كما يلي :
النمط الأول : أن يكون أحد اللفظين المكررين - وهما المتفقان لفظاً ومعنى – في سياق الآية القرآنية ، في بداية الآية ، أو ما يشبه بدايتها . وعليه قوله تعالى : ( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ([44]) . فقد بدأت الآية بكلمة (استهزئ) ، وختمت بكلمة ( يستهزئون ) . واللفظان متفقان لفظاً ومعنى ، فهما مكرران .
والنمط الثاني : أن يكون اللفظان متجانسان ، أي متشابهان في اللفظ دون المعنى . ونظراً لإمكانية خلط هذا النمط بمبحث ( الجناس التام ) الذي تتفق صورته ويختلف معناه ، فإنه يجب إيضاح الفارق بين اللونين . فمثلاً قوله تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ) ([45]) هناك تجانس تام بين لفظي ( الساعة ) أي : يوم القيامة و ( ساعة ) أي : مدة زمنية معينة . وهذا التجانس قائم بصورة أساسية على التماثل الحادث في المستوى الشكلي ( البصري ) ، أي على مستوى ( البنية السطحية Surfuce Structure ) ، لكنهما تختلفان بالطبع على مستوى ( البنية العميقة Deep Structure ) ، وهذا هو عين تعريف الجناس التام . لكن المفارقة هنا بين الجناس التام وهذا النمط من رد الأعجاز على الصدور تكمن في أن هذا النمط من رد الأعجاز يستلزم التجانس وليس التماثل الكامل ( التكرار التام ) ، وهذا ما لا يتحقق سوى في ( الجناس التام ) فقط .
ومن أمثلة البلاغيين لهذا النمط من رد الأعجاز قولهم ([46]) : ( سَائِل اللئيم يرجع ودمعه سَائِل ) ومعناه : أن طالب المعروف من الرجل اللئيم يرجع ودمع هذا اللئيم سائل ، وهذا أبلغ في الذم لهذا الشخص . فكلمة ( سائل ) في أول الفقرة وآخرها متجانستان لأن الأولى من (السؤال) والثانية من (السيلان) ([47]) .
والنمط الثالث : أن يكون اللفظان ملحقين بالمتجانسين عن طريق الاشتقاق ، أي أنهما يشتركان في الأصل اللغوي دون النظر إلى الصورة الشكلية التي وردا عليها . وعليه يخرج قوله تعالى : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ) ([48]) . فكلمتا ( استغفروا ) و ( غفاراً ) بينهما اشتراك في أصل المادة اللغوية ( غفر ) ، وكذلك بينهما شبه تجانس بالاشتقاق .
وكذلك يخرج على هذا النمط قوله تعالى : (وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ )([49]) فكلمتا ( هب ) فعل أمر من وهب ، و (الوهاب ) صيغة مبالغة من المادة نفسها ، وبينهما اشتراك في أصل المادة اللغوية ( وهب ) ، وكذلك بينهما شبه تجانس بالاشتقاق .
والنمط الرابع : أن يكون اللفظان ملحقين بالمتجانسين عن طريق شبه الاشتقاق ، أو الصورة المشبهة للاشتقاق شكلاً . وعليه يخرج قوله تعالى : (قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ ) ([50]) فبين كلمة ( قال ) فعل ماض من ( قَوَلَ ) ، وكلمة ( القالين ) اسم فاعل للجمع من ( قَلَى ) أي بغض وكره ، تجانس عن طريق شبه الاشتقاق بصورة شكلية ، أي على المستوى البصري .
وكذلك يخرج على هذا النمط قوله تعالى : (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) ([51]) فبين كلمة ( الظلمات ) من ( الظُلْمَة ) ، وكلمة ( الظالمين ) اسم فاعل للجمع من ( ظَلَمَ ) ، تجانس عن طريق شبه الاشتقاق بصورة شكلية ، أي على المستوى البصري .
وكذلك يخرج على هذا النمط قوله تعالى : (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ) ([52]) فبين كلمة ( أعْرَضَ ) من ( الإعراض ) ، وكلمة ( عريض ) صيغة مبالغة للكثرة ، تجانس عن طريق شبه الاشتقاق بصورة شكلية ، أي على المستوى البصري .
ويرى د. محمد عبد المطلب أن التكرارية ملحوظة في هذا اللون على المستوى الشكلي ، كما أنها ملحوظة على مستوى البنية العميقة عندما تتوارد لفظتان بمعنى واحد أو بمعنيين مختلفين ، ولكن طبيعة البعد المكاني للفظتين هو الذي نقل هذا اللون من بنية التكرار إلى هذا السياق ، فكأن التكرار هنا لابد من أن يتوفر فيه ذهنياً مسافة في الدلالة تسمح للفظة أن تستقر محققة نوعاً من اكتمال المعنى أو تحقيقه ([53]) .
تلك هي أهم أنواع هذا اللون البديعي الموظف صوتياً في السياق الدلالي للكثير من النصوص الشعرية والنثرية .
4 – تشابه الأطراف :
ويقصد به : أن يُختم الكلام بما يناسب أول في المعنى ([54]) . ويرى ابن أبي الإصبع أن هذا اللون يُسمى ( التسبيغ ) ومعناه " أن يعيد لفظ القافية في أول البيت الذي يليها ، والتسبيغ زيادة في القول " ([55]) . وقد خرج أبن أبي الإصبع على هذا اللون قوله تعالى : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ )([56]) . فقد تشابهت أطراف الجمل القرآنية بتكرار ختام كل جملة في بداية الجملة التالية كما يلي :
- كمشكاة فيها مصباح .
- المصباح في زجاجة .
- الزجاجة كأنها كوكب دريّ .
إذ تبادلت لفظتا ( مصباح ) و ( زجاجة ) أدوارهما من كونهما ختام الجمل القرآنية ، إلى الابتداء بهما في سياق الجملة التالية . ويرى د . محمد عبد المطلب أن تشابه الأطراف " يقدم بنية تكرارية تعتمد على إعادة الشاعر لفظ القافية في أول البيت التالي لها ، أو أن يعيد الناثر القرينة الأولى في أول القرينة التي تليها . فالتكرارية هنا ملحوظ فيها البعد المكاني في تجاوز الدالين ، برغم تمايز التراكيب التي تضم كلا منهما من حيث الختام والابتداء " ([57]) .
وواضح أن هذا اللون التكراري يعتمد في أداء وظيفته على المفاجأة الأسلوبية واختراق توقع القارئ الذي يتوقع اختلاف البداية للبيت التالي ، فيجد نفسه مع ختام السابق مع بداية التالي من خلال الابتداء بهذا السابق ، فينتقل أفق توقعاته إلى مدار أسلوبي أرقى وأفسح على المستوى الدلالي والنصي ([58]) .
5- المجاورة ([59]) :
وهذا اللون البديعي من مبتدعات العسكري الذي يرى في تعريفه أنه " تردد لفظين في البيت ووقوع كل واحد منهما بجنب الأخرى أو قريباً منها من غير أن يكون أحدهما لغواً لا يحتاج إليها " ([60]) . وقد خرج العسكري على هذا اللون قول علقمة الفحل ([61]) :
وَمُطْعِمُ الْغُنْمِ يَوْمَ الْغُنْمِ مُطْعِمه أَنَّى تَوَجَّهَ والْمَحْرُومُ مَحْرُوم
فقوله : ( الغنم يوم الغنم ) مجاورة ، وكذلك قوله : ( المحروم محروم ) .
ونتلمس هذا اللون في سياق النص القرآني في قوله تعالى : (وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) ([62]) . فقد تجاور لفظ الجلالة ( الله ) مرتين بلا فاصل ، ولكل منهما دلالته العامة والخاصة ، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن أحدهما على الإطلاق .
وهذا اللون البديعي تعتمد فيه الأسلوبية الصوتية على بنية التكرار الخالصة وذلك على مستوى البنية السطحية والعميقة معاً . كما أن حركة المعنى فيه تأخذ شكلاً رأسياً بوضع المعنى طبقات بعضها فوق بعض ، مع توازيها في قيمتها التعبيرية ، وإن اختلف الأثر الدلالي النهائي نتيجة لتراكم هذه الدلالات ([63]) .
تلك هي أهم الأنماط التكرارية التي تتخذ من تكرار اللفظ والمعنى شكلاً تعبيرياً خاصاً بها في أداء ما يناط بها من وظائف أسلوبية سياقية في تقاطعات سياقاتها مع سياقات الألوان الأخرى ، وما يؤدي غليه كل ذلك من جماليات نصية هي المبتغى من وراء هذه التوظيفات .
ثانياً : تكرار اللفظ دون المعنى
ويقصد به ذلك اللون من التكرار الذي يعتمد التوافق السطحي الشكلي بين البنى التركيبية مع الاختلاف على مستوى البنية العميقة لهذه البنى . ولهذا اللون من التكرار أشكال متنوعة تفصيلها كالتالي :
الجناس التام :
وله ثلاثة أضرب هي ( المماثل ، والمستوفي ، والمركب ) ([64]) ، نفصل القول فيها كما يلي :
أ – المماثل : ويقصد به اتفاق اللفظين في أنواع الحروف وعددها وهيئاتها وترتيبها مع الاختلاف في المعنى . وقد يكون اللفظان اسمين كما في قوله تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ) ([65]) . فقد جانس هنا بين كلمتي ( الساعة ) أي يوم القيامة ، و ( ساعة ) أي مدة زمنية قصيرة . وواضح هنا أن التماثل على المستوى (الخطي) فقط ، وهناك اختلاف على مستوى البينة العميقة للكلمتين .
وقد يكونا فعلين كقولهم : (فلان يضرب في البيداء فلا يضل ، ويضرب في الهيجاء فلا يكل) . فالجناس هنا بين فعلين ( يضرب ) الأول منهما بمعنى يقطع المسافة ، والثاني بمعنى الحمل على الأعداء .
وقد يكون اللفظان حرفين كقولهم : ( قد يجود الكريم ، وقد يعثر الجواد ) . فالجناس هنا بين حرفين ( قد ) الأول منهما يدل على الكثرة لدلالة القرينة اللفظية التالية لها ( الكريم ) ، والثاني يدل على القلة .
ويعتمد هذا اللون من الجناس على فكرة ( المخادعة ) وكسر أفق التوقع الدلالي الناتج عن اتحاد اللفظين شكلياً ، وذلك عند تلقيهما من جانب القارئ خاصة في ظل اتحادهما الصوتي . فالمتلقي هنا يكون أمام نوعين من التلقي هما :
الأول : التلقي البصري الناتج عن التماثل الشكلي الذي يؤدي إلى توهم خاطئ بفكرة الاتحاد الدلالي .
والثاني : التلقي الثقافي أي وفق الخلفية الثقافية للمتلقي من خلال إدراكه لفنية الاختلاف الدلالي بين اللفظين ، وتخالف البنية العميقة لكل منهما ، ثم إدراك المخادعة الدلالية التي تمت في سياق هذا اللون البديعي ، وما لها من أثر جمالي في هذا السياق ([66]) .
ب – المستوفي ([67]) : وهو ما كانت كلمتاه من نوعين مختلفين كأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلاً ، أو أن يكون إحداهما اسماً أو فعلاً والآخر حرفاً .فمن أمثلة الجناس المستوفي بين اسم وفعل قول أبي تمام ([68]) :
مَا مَاتَ منْ كَرَمِ الزَّمَانِِ فَإِنَّهُ يَحْيَا لَدَى يَحْيَى بن عَبْدِ الله ِ
فقد جانس هنا بين اسم ( يحيى ) وفعل ( يحيا ) .
ومن أمثلة المستوفي بين فعل وحرف قولنا : ( علا سيدنا محمد على جميع الأنام ) . فقد جانس هنا بين فعل ( عَلا ) وحرف جر هو ( على ) .
ومن أمثلة الجناس المستوفي بين اسم وحرف قوله – صلى الله عليه وسلم - : ( إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها ، حتى ما تجعل في فِي امرأتك ) ([69]) . فقد جانس هنا بين اسم ( فِي ) وهو الفم وحرف جر هو ( في ) .
جـ- المركب ([70]): إذا كان أحد طرفيه مركباً من أكثر من كلمة والآخر مفرداً . وهو ثلاثة أقسام هي :
المرفو : إذا كان طرفه المركب مركباً من كلمة وبعض كلمة ، وذلك مثل قول أبي القاسم الحريري ([71]) :
ولا تَلْهُ عَنْ تِذْكَارِ ذَنْبِكَ وابْكِهِ بِدَمْعٍ يُحَاكِي الْوَبلَ حَالَ مَصَابِهِ
وَمَثِّلْ لِعَيْنِكَ الْحِمَام وَمَوْقِعَهُ وَرَوْعَة مَلْقَـاه ومُطْعَم صَابـِهِ
فقد جانس في هذا البيت بين لفظة مكتملة مفردة هي ( مصابه ) في قافية البيت الأول ، ولفظة أخرى مركبة من حرف الميم من كلمة ( مطعم ) والكلمة التالية وهي الفعل ( صابه ) ، لتصبح هذه الكلمة المركبة هي ( م + صابه ) مساوية صوتياً للكلمة المفردة ( مصابه ) .
2- المتشابه : وهو ما كان طرفه المركب مركباً من كلمتين كاملتين أولاً ، وأشبه اللفظة المفردة نطقاً وخطاً ثانياً . وعليه قول أبي الفتح البستي ([72]) :
إِذا مَلِك لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَهْ فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَهْ
فقد جانس في هذا البيت بين لفظتين الأولى مركبة من كلمتين كاملتين هما ( ذا ) و ( هبة ) أي عطية ، وكلمة مفردة كاملة هي ( ذاهبة ) من الذهاب .
3 – المفروق : وهو كالمتشابه تماماً في تكون اللفظة المركبة من لفظتين كاملتين ، غير أنه يختلف عن المتشابه في كون اللفظ المركب لا يشبه اللفظ المفرد خطاً بل يشبه نطقاً فقط . وعليه قول الميكالي ([73]) :
لاَ تَعْرِضَنَّ عَلَى الرُّوَاةِ قَصِيدَةً مَا لَمْ تُبَالِغْ فِي تَهْذِيبِهَا
فَمَتَى عَرَضْتَ الشِّعْرَ غَيْرَ مُهَذَّبٍ عَدُّوهُ مِنْكَ وَسَاوِساً تَهْذِي بِهَا
فالجناس بين (تهذيبها) في البيت الأول وهي كلمة كاملة ، و(تهذي بها) المركبة من الفعل المضارع (تهذي) والجار والمجرور (بها) . والجناس هنا جناس صوتي فقط دون أن يكون هناك تشابه خطي .
وأهل الأسلوب يرون في التعامل مع بنية الجناس نوعاً من الاتكاء على المعطى الصوتي المتوافر فيها تحقيقاً للإيقاع النغمي من ناحية ، وإثارة لأفق التوقعات الجمالية لدى القارئ من ناحية أخرى . ويتم التعامل مع هذه البنية الجناسية على مستويين هما :
الأول : تتسلط فيه عملية (الاختيار Choice) ، إذ يتم اعتماد مفردتين تتطابق صوتياً . ويكون هذا الاختيار بمثابة المنبه التعبيري ، ويكون أقوى تأثيراً نتيجة للهزة الدلالية التي يتلقاها المتلقي بمخالفة التوقع " لأن اللفظ المشترك إذ ا حُمِلَ على معنى ثم جاء المراد به معنى آخر كان للنفس تشوف إليه " ([74]) .
والمستوى الثاني : تتسلط فيه عملية الاختيار على مفردتين بينهما من التماثل ( الشكلي والدلالي ) أكثر مما بينهما من التخالف على المستوى العميق ([75]) .
2 – جناس الزيادة :
وهو ما تغايرت فيه إحدى اللفظتين بزيادة عن اللفظة الأخرى . وهو نوعان هما :
الأول : الجناس المطرف : وهو من ألوان الجناس غير التام . ويقصد به : ما زاد أحد ركنيه على الآخر حرفاً في نهايته ([76]) . وهذا التحديد الدقيق لأصل هذا النوع من الجناس يُراعى فيه الحفاظ على الأصل الشكلي المراد من بنية التكرار ، إذ ليسمن المجدي هنا في هذا المقام الاتكاء على المعطى الدلالي فقط ، بل يجب أن يُراعى هنا فنية التماثل في الهيئة التي تتحقق عن طريق تماثل اللفظين ، ونقصان أحدهما عن الآخر حرفاً . ويخرج على هذا النوع قول أبي تمام ([77]) :
يَمُدًونَ مِنْ أَيْدٍ عَواصٍ عَوَاصِمِ نُصُول بِأَسْيَافٍ قَوَاضٍ قَوَاضِبِ
فجانس هنا بين ( عواص ، و عواصم ) ، وكذلك بين ( قواض ، وقواضب ) بزيادة حرف في نهاية الثانية عن الكلمة الأولى .
ويعلق عبد القاهر على هذا اللون من الجناس بقوله : " وذلك أنك تتوهم قبل أن يرد عليك آخر الكلمة كالميم من ( عواصم ) ، والباء من ( قواضب ) أنها هي التي مضت ، وقد أرادت أن تجيئك ثانية ، وتعود إليك مؤكدة ، حتى إذا تمكن في نفسك تمامها ، ووعى سمعك آخرها ، انصرفت عن ظنك الأول ، وزلت عن الذي سبق من التخيل ، وفي ذلك ما ذكرت لك من طلوع الفائدة بعد أن يخالطك اليأس منها ، وحصول الربح بعد أن تغالط فيه حتى ترى أنه رأس المال " ([78]) .
ويرى د . جميل عبد المجيد أن لحظة التوهم الدلالي في هذا النوع من الجناس أقل بكثير مما يحدث في حالة الجناس التام ، وذلك " لأن في اللفظ المكرر نفسه ، وباستكمال سماع / قراءة الحرف الأخير منه يتبين للسامع / القارئ أنه قد وهم " ([79]) .
إضــاءة :
يتغير نوع الجناس المرتبط بزيادة حرف حسب موقع هذا الحرف كما يلي :
1 – إذا كان هذا الحرف المُزَاد في أول الكلمة كقوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ) ([80]) . فقد تم الجناس هنا بين كلمتي ( الساق ) و ( المساق ) بزيادة حرف هو ( الميم ) في بداية الكلمة الثانية ( م + ساق ) ، وعندئذ يُسَمَّى هذا الجناس بالناقص .
2- فإذا كان الحرف المُزَاد واقعاً في وسط أحد الكلمتين كقولهم : ( جدّي جهدي ) بزيادة الهاء في وسط الكلمة الثانية . وهو أيضاً في هذه الحالة جناس ناقص .
3 – فإذا كان الحرف المُزَاد واقعاً في نهاية أحد الكلمتين ، فهو الجناس المطرف السابق الذكر .
والنوع الثاني : الجناس المذيل ([81]) . وهو ما اختلفت فيه أحد الكلمتين بزيادة أكثر من حرف عن الأخرى .
* فقد تكون الكلمة مزيدة بأكثر من حرف في أولها عن الكلمة الأخرى كقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ) ([82]) . فقد جانس بين كلمتي ( ربهم ) و ( بهم ) ، والأولى مزيدة بحرفين في أولها هما ( الراء ، والباء المشددة ) . وكذلك قوله تعالى : ( وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) ([83]) . فقد جانس بين كلمتي (لكنا) و ( كنا ) ، والأولى مزيدة بحرفين في أولها هما ( اللام ، والألف ) .
* وقد تكون الكلمة مزيدة بأكثر من حرف في آخرها عن الكلمة الأخرى كقوله تعالى : (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ) ([84]) . فقد جانس بين كلمتي ( إلى ) و ( إلهك ) ، والثانية مزيدة بحرفين في آخرها هما ( الهاء ، والكاف ) . وهذا النوع عند أهل البلاغة هو ما يستحق أن يطلق عليه ( المُذَيَّل ) ، لأن التذييل عبارة عن زيادة تلحق أواخر الكلمات .
3- جناس التغاير :
ويقصد به مغايرة أحد اللفظين للآخر في الحركة، أو في النقط و الخط ، أو في ترتيب حروفه ، أو في تغاير الحرف بلا مشابهة .
أ- فإذا تماثلت الكلمتان في الحروف مماثلة تامة ، وتغايرتا في الحركات سواء كانا اسمين ، أو فعلين ، أو اسم وفعل ، ، فعندئذ يُسَمى هذا اللون من الجناس باسم ( الجناس المحرَّف ) ([85]) . وعليه يخرج قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ) ([86]) فقد جانس هنا بين كلمتي ( منذِرين )بكسر الذال وهم الرسل – عيهم السلام - و ( المنذَرين ) بفتح الذال وهم الأقوام المُرسَل إليهم .
ب – وإذا اختلف اللفظان المتجانسان في النقط ، وذلك يكون بين الحروف الأخوات مثل ( الباء ، والتاء ، والثاء ) و ( الجيم ، والحاء ، والخاء ، ) و ( الدال ، والذال ) و ( الراء ، والزاي ) و ( والسين ، والشين ) و ( الصاد ، والضاد ) و (الطاء ، والظاء ) و ( العين ، والغين ) و ( الفاء ، والقاف ) ، فعندئذ يُسَمَّى هذا اللون من الجناس باسم ( جناس التصحيف ) ([87]) ، ويخرج عليه قوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) ([88]) . فقد جانس بين كلمتي ( يسقيني ) و ( يشفيني ) فناظر السين بالشين ، والقاف بالفاء . فالجناس هنا في النقط فقط .
ج – وإذا اتفق اللفظان في الحروف، واختلفا في ترتيبها داخل بنية الكلمة سواء كان هذا الترتيب كلياً أو جزئياً ، عندئذ يُسَمَّى هذا الجناس باسم ( المقلوب ) ([89]) . ومن أمثلة الاختلاف الكلي في ترتيب الحروف في الكلمة قوله – صلى الله عليه وسلم – في الدعاء المبارك : ( اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ) ([90]) ، فقد جانس بالقلب الكلي بين كلمتي ( عوراتنا ) و ( روعاتنا ) ، وهما متماثلتان في الحروف ذاتها ، وإن اختلفتا في ترتيب هذه الحروف .
ومن أمثلة الاختلاف الجزئي في ترتيب الحروف قوله تعالى : (إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ([91]) ، فقد جانس بالقلب الجزئي بين كلمتي ( بين ) و ( بني ) ، وهما متماثلتان في الحروف ذاتها ، وإن اختلفتا في ترتيب حرفي النون والياء فقط مع ثبات حرف ( الباء ) في صدر الكلمتين بلا اختلاف .
د – وإذا اختلف اللفظان المتجانسان في نوع الحرف ( الذي يشترط كونه واحداً لا أكثر ) ، فالجناس في هذا النوع على قسمين :
أولهما : أن يكون الحرفان المتغايران متقاربين في المخرج الصوتي كقوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ) ([92]) . فقد جانس بين كلمتي ( ينهون ) و (ينأون) ، والاختلاف بينهما فقط في حرفي ( الهاء ) و ( الهمزة ) كل في موقعه ، والحرفان من مخرج صوتي واحد وهو أقصى الحلق . وهذا النوع من الجناس يُسَمَّى ( الجناس المضارع ) ([93]) .
وثانيهما : إذا كان الحرفان المتغايران متباعدين في المخرج الصوتي كقوله تعالى : ( وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ) ([94]) ، فقد جانس بين كلمتي (همزة) و(لمزة) ، والاختلاف بينهما فقط في حرفي (الهاء) و (اللام) كل في موقعه ، والحرفان متباعدان في المخرج الصوتي ؛ فالهاء من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان .
كذلك يخرج عليه قوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) ([95]) ، فقد جانس بين كلمتي ( شهيد ) و ( شديد ) ، والاختلاف بينهما فقط في حرفي ( الهاء ) و ( الدال ) كل في موقعه ، والحرفان متباعدان في المخرج الصوتي ؛ فالهاء من أقصى الحلق ، والدال من طرف اللسان . وهذا النوع من الجناس يُسَمَّى ( الجناس اللاحق ) ([96]) .
وهذا التفصيل المسهب في تبيان ألوان الجناس الصوتي إنما مقصده الإلمام بمعطيات هذا اللون صوتياً وما يتبع ذلك من دلالات سياقية . ولا شك أن الجناس من أهم أنواع التكرارات وأشيعها في التوظيف والاستخدام الجمالي للغة .
4 – المشاكلة :
ويقصد بها أن يقوم المتكلم بذكر المعنى بلفظ غيره ، أو بلفظ مضاد للفظ الغير ، أو مناسب له ، لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً ([97]) . فمن أمثلة ذكر الشيء بلفظ غيره لصحبته إياه تحقيقاً قوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) ([98]) ، فالسيئة الأولى على حقيقتها لأنها صادرة عن أفعال العباد ، أما الثانية فهي الجزاء على الأولى ، والجزاء لا يسمى سيئة ، وإنما أطلق ذلك من باب المشاكلة اللفظية لوقع اللفظ الثاني في صحبة الأول على الحقيقة . ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ([99]) ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ) ([100]) .
أما ذكر الشيء بلفظ غيره لصحبته إياه تقديراً فعليه قوله تعالى : ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ) ([101]) ، فقوله ( صبغة الله ) مصدر مؤكد لمضمون قوله ( آمنا بالله ) ، والمعنى طهرنا الله بالإيمان تطهيراً مخالفة لفعل النصارى فيما يذهبون إليه من فعل التعميد وغيره ([102]) .
5- طباق السلب :
وهو الجمع بين فعلي مصدر واحد أحدهما مثبت والآخر منفي ، أو أمر ونهي ([103]) . وعليه يخرج قوله تعالى : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) ([104]) ، فقد كرر لفظ ( الخشية ) بالإثبات والنفي ، فطابق بينهما سلباً . وكذلك قوله تعالى : ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ([105]) ، فقد كرر لفظ ( العلم ) بالإثبات والنفي ، فطابق بينهما سلباً . وكذلك قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ) ([106]) ، فقد كرر لفظ ( الاستخفاء ) بالإثبات والنفي ، فطابق بينهما سلباً .
ويلاحظ أن التضاد في هذا اللون من الطباق إنما هم تضاد صوتي بنفي الدال وإثباته في آن ، كما أن طرفي الطباق ليسا هما محور هذا التضاد الأسلوبي ، إنما المحور الحقيقي هو ( أداة النفي ) ، إذ يتم في ضوئها هذا الانزياح الصوتي والدلالي .
ومن المؤشرات الأسلوبية لتوظيف هذا اللون البديعي في سياق النص القرآني ، أننا نجد الآيات القرآنية الموظف فيها هذا اللون لا يسير على نمط تركيبي واحد ، إذ نجد آيات يتقدم فيها الفعل المنفي أولاً ويلحقه بعد ذلك الفعل المثبت كما في الآيات التالية :
- قوله تعالى : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ) سورة المائدة : آية رقم ( 44 ) .
- قوله تعالى : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ) سورة الأنفال : آية رقم ( 17 ) .
- قوله تعالى : (فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم ) سورة إبراهيم : آية رقم ( 22 ) .
- قوله تعالى : (لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) سورة النحل : آية رقم ( 20 ) .
- قوله تعالى : (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) سورة الإسراء : آية رقم (23) .
ثم يوظف النص القرآني هذه البنية البديعية بتقديم الطرف المثبت أولاً على الطرف المنفي في :
- قوله تعالى : (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم ) سورة البقرة : آية رقم ( 9 ) .
- قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ) سورة النساء : آية رقم (108) .
- قوله تعالى : (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ) سورة المائدة : آية رقم ( 115 ) .
- قوله تعالى : (مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ) سورة الأنعام : آية رقم ( 6 ) .
- قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) سورة التوبة : آية رقم ( 80 ) .
- قوله تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) سورة الزمر : آية رقم ( 9 ) .
وهذا التنوع الأسلوبي في توظيف سياق التكرار الطباقي السلبي ما هو إلا مؤشر على تنوع الصياغة القرآنية وفرادتها في توظيف الدوال نفسها على مستويات مختلفة من السياقات التركيبية . كما أن الوظيفة الأهم في توظيف طباق السلب صوتياً هو الكشف عن الدلالة بأبعادها المختلفة خلال هذه البنية اللغوية ([107]) .
تلك هي أهم أضرب المحسنات البلاغية الصوتية بنسقها الأسلوبي ، وبما تحمله من تشكيلات جمالية ، وإبداعات أدائية موظفة في ثنايا النص القرآني كقيم صوتية نصية دلالية.