نسعد بسماعنا أنباء الوساطة الأردنية بين فتح وحماس، ونريد أن نصدق من هنا في أنقرة، وعن بعد، بأن أمراً كهذا يحصل فعلاً، وأنه يأتي تعبيراً عن مراجعة حقيقية للسياسة الخارجية الأردنية، التي "ذهبت بعيداً في الاعتدال العربي"، وأظهرت انحيازاً لكل مكوناته العربية والفلسطينية واللبنانية، من دون أن يكون لنا مصلحة في ذلك، على الأقل من وجهة نظر كاتب هذه السطور، الذي طالما دعا لمقاربة أكثر توازناً واتزاناً للملفين الفلسطيني واللبناني.
نريد أن نصدق بأن الدبلوماسية الأردنية قررت مغادرة "شرنقتها"، والخروج قليلاً عن السكة "المرصوفة مسبقاً" التي ظلت تدور حولها، طوال سنوات عدة، وبالأخص بعد صعود العامل الإيراني واندلاع حرب إسرائيل على حزب الله في لبنان وانسكاب رصاصها المصهور على رؤوس الفلسطينيين في قطاع غزة...نريد أن نقرأ هذه الخطوة، في سياق المراجعة التي تمليها مرحلة ما بعد انهيار عملية السلام واندلاع الثورات العربية الكبرى، ودخول المنطقة برمتها في عملية "فك وتركيب" للانظمة والسياسات والاستراتيجيات والتحالفات.
لكننا مع ذلك، نمسك عن الذهاب بعيداً في التفاؤل، لا قياساً على التجربة السابقة فحسب، بل وبالنظر لجملة من الحسابات والقراءات والاعتبارات التي قد تجعلنا نضع هذه الخطوة في "سياق تكتيكي" محدود، وأقول "قد" لأنني لا أريد أن أطلق أحكاماً مسبقة...من هذه الاعتبارات على سبيل المثال الحصر، أن يكون الانفتاح على حماس واستئناف الاتصال والتواصل معها، قد جاء تعبيرا عن الرغبة في شق طريق التفافي حول الموقف الإخواني المقاطع للانتخابات والحوار واللجان وكل ما يمت للمبادرات الحكومية بصلة...وقد يكون هذا الموقف محاولة لتهدئة روع قطاع من الشارع الأردني، ترى في حماس طليعة مقاومة، يجب دعمها واحتضانها...وقد يكون للأمر صلة بما يجري في سوريا وما يشاع عن جهود عربية لتفكيك ما كان يسمى "معسكر المقاومة والممانعة"، من خلال عزل سوريا عن إيران، وعزل حماس عن سوريا وإيران على حد سواء.
لا نعرف طبيعة الأهداف الكامنة وراء هذه الخطوة المفاجئة، ولا المصالح التي يتعين خدمتها بعودة المياه إلى مجاري العلاقات الأردنية - الحمساوية، بيد أننا نعرف أن الأردن لم يعد قلقاً من "الفيتو المصري" المُشهر في وجه أي وسيط في الخلاف الفلسطيني الداخلي...ونعرف أن "الوكالة الحصرية" التي حرصت مصر انتزاعها للتفرد بدور الوسيط قد انتهت بنهاية نظام مبارك، حتى أن وزير الخارجية المصري الجديد نبيل العربي، حرص على اصطحاب نظيره التركي أحمد داود أوغلو إلى لقائه بوفد الشخصيات الفلسطينية المستقلة، في دلالة لا تخفى مضامينها على أحد، وفي سابقة، ما كانت لتحدث في ظل العقلية المغلقة للنظام البائد.
الخطوة الأردنية، تلقى بلا شك، ترحيبا من الرئيس عباس، الذي يبدو معنياً لأكثر من سبب بأن يعاود السير على طريق الحوار والمصالحة والانتخابات، فاستحقاق إعلان الدولة على الأبواب، والدولة يجب أن تشمل الضفة والقطاع والقدس، ومن دون حماس، لن يكون بمقدور هذا "الطائر الوليد" أن يحلق بجناح واحد.
أما من وجهة نظر حماس، فأحسب أن الحركة تميز بين قبولها بالوساطة الأردنية، غير الحصرية في ملف المصالحة من جهة، ورغبتها في استعادة علاقاتها مع عمان من جهة ثانية...الرغبة الأخيرة مؤكدة ولا تشوبها شائبة، وقد حاولت الحركة مراراً وتكراراً فتح كوة في جدار التجاهل والصد الأردنيين، ولكن من دون جدوى...لم يبق موظف واحد من الموظفين الذين تعاقبوا على المستشفى الميداني في غزة، إلا واستقبلته حكومة حماس، وبعثت عبره ومن خلال وسائل الإعلام، كل ما يمكن إرساله من رسائل...أما بخصوص الرغبة في المصالحة والانتخابات، فهذه مشكوك فيها، والمؤشرات جميعها تؤكد ميل الحركة للتريث والتأني، على أمل أن تجلس على مائدة الحوار أو تذهب لصناديق الاقتراع، بظروف أفضل وأوراق أقوى.
نحن الذين ظلننا ندعو الدبلوماسية الأردنية طوال خمس سنوات للقيام بدورها على هذا الصعيد، لا نملك إلا أن نؤيد هذه الخطوة ونباركها، حتى وإن جاءت متأخرة، وليت لنا أن نذكّر "الوزراء/ الموظفين" بأن دورنا الوسيط، مطلوب اليوم، مثلما كان مطلوبا بصورة أكبر بالأمس...ونأمل أن تتخطى العلاقات والحوارات بين الأردن وحركة حماس، القناة الأمنية إلى القناة السياسية، فالحوار مع حماس، لا يجب ان يُدار في الغرف المظلمة، والأنباء بشأنه لا يجب أن تأخذ شكل تسريبات، ومن حق الشعب الأردني أن يعرف في أمر كهذا، الآن وليس غداً.
وطالما أنه ثبت بأن "نصائحنا" يمكن أن يؤخذ بها وإن بعد عمر طويل، فإننا نريد أن نتقدم بنصيحة أضافية، ومجانية لصناع القرار: إذا أراد الوسيط أن ينجح في وساطته، فعليه الابتعاد على التفرد والاستئثار...عليه التشاور مع مصر، فهو مطلوب، حتى وإن هي أبدت تمنعاً...عليه التشاور مع سوريا، فهو مطلوب أيضاً، حتى وإن بدا نظامها منصرفاً إلى أولويات أخرى....والتشارو مع إيران مطلوب، حتى وإن كان على مضض... التشاور هؤلاء، وكل من له صلة بالحركتين، ليس من شأنه سوى أن يجعل فرص نجاح الوساطة اليوم، أفضل من أي وقت مضى.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور