قالَ
 
قُلْتُ
 
كَأَنَّ انْتِضاءَ الْبَدْرِ مِنْ تَحْتِ غَيْمَةٍ نَجاءٌ مِنَ الْبَأْساءِ بَعْدَ وُقوع
علق عليه أستاذنا قوله : " في كُتُبِ الْبَلاغَةِ أَنَّه لِابْنِ طَباطَبا نَقيبِ أَشْرافِ مِصْرَ " ، وهو العلوي صاحب " عيار الشعر " .
ثم نقل لي جمال هاشم أخو حَجَّتي الأخيرة ، عن عمه الدكتور أحمد عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر السابق الذي حج حجتنا ضيفًا على شركة السلام السياحية المصرية - أن بمصر مليوني شريف ، نصفهم أو هم كلهم - الشك مني - غير مسجل بنقابة الأشراف !
ثمت على رغم شرف أستاذنا من جِهَتَيْه ، لم يذكر في مجلسه قط ، ولا رأيته يعبأ إلا بشرف الأخلاق الأصيلة ، وإن عجبت لما روت عنه بأحد أعداد مجلة العربي لعام 2007 الميلادي ، سعدية مفرح ، في أثناء كلامه عن الأستاذ يحيى حقي تلميذه وصديقه - أن الأستاذ يحيى تركي وأنه هو عربي شريف ! ثم انتبهت لمعنى تأصيل الفوارق وإهمالها !
 
أَمّا قَوْلُهُمْ : هَواءٌ أَرَقُّ مِنْ تَشاكِي الْأَحْبابِ ، فَمِنَ الْبابِ ( عكس التشبيه ) ، لِأَنَّ الرِّقَّةَ فِي الْهَواءِ حَقيقَةٌ وَفِي التَّشاكي مَجازٌ . وَهكَذا قَوْلُ أَبي نُواسٍ في خَلاعَتِه :
حَتّى هِيَ في رِقَّةِ ديني
لِأَنَّ الرِّقَّةَ مِنْ صِفاتِ الْأَجْسامِ ؛ فَهِيَ فِي الدّينِ مَجازٌ . وَمِمّا كَأَنَّه يَدْخُلُ في هذَا الْجِنْسِ قَوْلُ الْمُتَنَبّي :
يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمي رَشَفاتٍ هُنَّ فيه أَحْلى مِنَ التَّوْحيد
وَالنَّفْسُ تَنْبو عَنْ زِيادَةِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ . وَقَدِ اقْتَدى بِه بَعْضُ الْمُتَأَخِّرينَ في هذِهِ الْإِساءَةِ ؛ فَقالَ :
سَوادُ صُدْغَيْنِ مِنْ كُفْرٍ يُقابِلُه بَياضُ خَدَّيْنِ مِنْ عَدْلٍ وَتَوْحيد
وَأَبْعَدُ ما يَكونُ الشّاعِرُ مِنَ التَّوْفيقِ إِذا دَعَتْهُ شَهْوَةُ الْإِغْرابِ إِلى أَنْ يَسْتَعيرَ لِلْهَزْلِ وَالْعَبَثِ مِنَ الْجِدِّ ، وَيَتَغَزَّلَ بِهذَا الْجِنْسِ !
وإن للإغراب لشهوة ! لكن كيف تفعل بمن لم يجد للأدب جدوى ، أو لم يتيسر له أن يرى للأدب من جدوى - فآثر قلة الأدب ، حتى جاوز إلى السَّخَر من القرآن الكريم والحديث الشريف وسائر أصول الثقافة التي يدعي فيها ! رحم الله البياتي بقوله في أدونيس وهذا عندي أشعر منه : " هو باحث جيد ، وشاعر وسط ! والعجب له يريد إمارة الشعر العربي وهو يلعن الأمة العربية " !
لَئِنْ كانَ الَّذي نَتَكَلَّفُ شَرْحَه لا يَزيدُ عَلى مُؤَدّى ثَلاثَةِ أَسْماءٍ - وَهِيَ التَّمْثيلُ ، وَالتَّشْبيهُ ، وَالِاسْتِعارَةُ - فَإِنَّ ذلِكَ يَسْتَدْعي جُمَلًا مِنَ الْقَوْلِ يَصْعُبُ اسْتِقْصاؤُها ، وَشُعَبًا مِنَ الْكَلامِ لا يَسْتَبينُ لِأَوَّلِ النَّظَرِ أَنْحاؤُها ؛ إِذْ قَوْلُنا : شَيْءٌ ، يَحْتَوي عَلى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ ، وَلكِنَّكَ إِذا مَدَدْتَ يَدًا إِلَى الْقِسْمَةِ ، وَأَخَذْتَ في بَيانِ ما تَحْويهِ هذِهِ اللَّفْظَةِ - احْتَجْتَ إِلى أَنْ تَقْرَأَ أَوْراقًا لا تُحْصى ، وَتَتَجَشَّمَ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالنَّظَرِ وَالتَّفْكيرِ ما لَيْسَ بِالْقَليلِ النَّزْرِ . وَ" الْجُزْءُ الَّذي لا يَتَجَزَّأُ " ، يَفوتُ الْعَيْنَ ، وَيَدِقُّ عَنِ الْبَصَرِ ، وَالْكَلامُ عَلَيْهِ يَمْلَأُ أَجْلادًا عَظيمَةَ الْحَجْمِ ! فَهذا مَثَلُكَ ، إِنْ أَنْكَرْتَ ما عُنيتُ بِه مِنْ هذَا التَّتَبُّعِ ، وَرَأَيْتُه مِنَ الْبَحْثِ ، وَآثَرْتُه مِنْ تَجَشُّمِ الْفِكْرَةِ وَسَوْمِها أَنْ تَدْخُلَ في جَوانِبِ هذِهِ الْمَسائِلِ وَزواياها ، وَتَسْتَثيرَ كَوامِنَها وَخَفاياها ! فَإِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَرْضى لِنَفْسِه أَنْ يَكونَ هذا مَثَلُه ، وَها هُنا مَحَلُّه - فَعِبْ كَيْفَ شِئْتَ ، وَقُلْ ما هَويتَ ، وَثِقْ بِأَنَّ الزَّمانَ عَوْنُكَ عَلى مَا ابْتَغَيْتَ ، وَشاهِدُكَ فيمَا ادَّعَيْتَ ، وَأَنَّكَ واجِدٌ مَنْ يُصَوِّبُ رَأْيَكَ ، وَيُحَسِّنُ مَذْهَبَكَ ، وَيُخاصِمُ عَنْكَ ، وَيُعادِي الْمُخالِفَ لَكَ !
ما أَمَرَّ اغترابك بين قومك - يا سيدنا - وانفرادك بين أترابك ! ولكن اعمل ما ترى ؛ فلكل كلامٍ رجالٌ ما ، في زمانٍ ما ، في مكانٍ ما ؛ عسى الحق - سبحانه ، وتعالى ! - أن يأتي بهم إليك !
إِنّي وَإِنْ كُنْتُ ابْنَ سَيِّدِ عامِرٍ وَفِي السِّرِّ مِنْها وَالصَّريحِ الْمُهَذَّب
لَما سَوَّدَتْني عامِرٌ عَنْ وِراثَةٍ أَبَى اللّهُ أَنْ أَسْمو بِأُمٍّ وَلا أَب
لما كنت أقرأ لسيدنا نفسه مثل قوله : " أَنْتَ وَإِنْ كُنْتَ (...) فَإِنَّكَ تَعْلَمُ (...) " ، وقوله : " هِيَ وَإِنْ كانَتْ شَريفَةً فَإِنَّها كَالْجَواهِرِ " ، وقوله : " كانَ كَلامًا نازِلًا (...) إِلّا أَنَّه وَإِنْ كانَ لا يَحْسُنُ فيهِ الْكافُ فَإِنَّه يَحْسُنُ فيهِ كَأَنَّ " - ذاكرت أستاذنا في تخطيئه ؛ إذ تطلب " إِنْ " جوابا ، ويطلب ما قبلها خبرا ، فلما اقترنت " إنْ " هذه بالواو ، بَعُدَت الجملة الشرطية من أن تكون خبر ما قبلها ، فكان الصواب ما قال هذا الشاعر ( عامر بن الطفيل ) ؛ إذ زحلق اللام إلى " ما سَوَّدَتْني (...) " ، ليدل على أنه أخبر بها ، ثم يُفْهَمُ من ذلك كله جواب الشرط - فقال أستاذنا : " هما أسلوبان فصيحان " ؛ فأظن أنه أراد أن الجملة الشرطية هي الخبر مقترنًا بالواو .
قَوْلُه :
وَكُلُّ امْرِئٍ يولِي الْجَميلَ مُحَبَّبٌ
صَريحُ مَعْنًى لَيْسَ لِلشِّعْرِ في جَوْهَرِه وَذاتِه نَصيبٌ ، وَإِنَّما لَه ما يُلْبَسُه مِنَ اللَّفْظِ ، وَيَكْسوهُ مِنَ الْعِبارَةِ .
ذاكرت أستاذنا في تخطيء " يُلْبَسُه " وتصويب " يَلْبَسُه " ، بدلالة " يَكْسوه " ؛ فأبى ! ولقد كان ينبغي على قولي أن يكون الآخر " يَكْتَسيه " ، لا " يَكْسوه " ، وهكذا كنت أنظر من جهة ، وينظر من جهتين ، وأرى بعين ويرى بعينين ، وإنما قالت العرب :
" قَدْ بَيَّنَ الصُّبْحُ لِذي عَيْنَيْن " !
قَوْلُه :
لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ مِنَ الْأَذى حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَّم
مَعْنًى مَعْقولٌ لَمْ يَزَلِ الْعُقَلاءُ يَقْضونَ بِصِحَّتِه ، وَيَرَى الْعارِفونَ بِالسِّياسَةِ الْأَخْذَ بِسُنَّتِه ، وَبِه جاءَتْ أَوامِرُ اللّهِ - سُبْحانَه ! - وَعَلَيْهِ جَرَتِ الْأَحْكامُ الشَّرْعيَّةُ وَالسُّنَنُ النَّبَويَّةُ ، وَبِهِ اسْتَقامَ لِأَهْلِ الدّينِ دينُهُمْ ، وَانْتَفى عَنْهُمْ أَذى مَنْ يَفْتِنُهُمْ وَيَضيرُهُمْ ؛ إِذْ كانَ مَوْضوعُ الْجِبِلَّةِ عَلى أَلّا تَخْلُوَ الدُّنْيا مِنَ الطُّغاةِ الْمارِدينَ ، وَالْغُواةِ الْمُعانِدينَ ، الَّذينَ لا يَعونَ الْحِكْمَةَ فَتَرْدَعَهُمْ ، وَلا يَتَصَوَّرونَ الرُّشْدَ فَيَكُفَّهُمُ النُّصْحُ وَيَمْنَعُهُمْ ، وَلا يُحِسّونَ بِنَقائِصِ الْغَيِّ وَالضَّلالِ وَما فِي الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ مِنَ الضَّعَةِ وَالْخَبالِ ، فَيَجِدوا لِذلِكَ مَسَّ أَلَمٍ يَحْبِسُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ ، وَيَقِفُ بِهِمْ عِنْدَ الزَّجْرِ - بَلْ كانوا كَالْبَهائِمِ وَالسِّباعِ ، لا يوجِعُهُمْ إِلّا ما يَخْرِقُ الْأَبْشارَ مِنْ حَدِّ الْحَديدِ ، وَسَطْوِ الْبَأْسِ الشَّديدِ ! فَلَوْ لَمْ تُطْبَعْ لِأَمْثالِهِمُ السُّيوفُ ، وَلَمْ تُطْلَقْ فيهِمُ الْحُتوفُ - لَمَا اسْتَقامَ دينٌ وَلا دُنْيا ، وَلا نالَ أَهْلُ الشَّرَفِ ما نالوهُ مِنَ الرُّتْبَةِ الْعُلْيا ؛ فَلا يَطيبُ الشُّرْبُ مِنْ مَنْهَلٍ لَمْ تُنْفَ عَنْهُ الْأَقْذاءُ ، وَلا تَقَرُّ الرّوحُ في بَدَنٍ لَمْ تُدْفَعْ عَنْهُ الْأَدْواءُ !
أعمت الغفلة عيونهم ، وطبع الطمع على أفئدتهم ؛ فلا يقبلون إلا أن يذل لهم الناس ؛ فلو بقيتَ أبدا تشرح لهم أصول العقيدة الصحيحة وفروع المعاملة الربانية ، ما سمعوا لك ، حتى تُقر لهم بما تحركهم إليه شهواتهم ، فإذا أقررت ضِعْتَ ، وغلبوا عليك ، ولم تنبس بكلمة ! " إِنَّ اللّهَ لَيَزَعُ ( يدفع ) ، بِالسُّلْطانِ ( الغلبة ) ، ما لا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ ( الوعظ ) " ، أو كما قال سلفنا الصالح ، رضوان الله عليهم !

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب