للخامس عشر من أيار، نكهة مختلفة هذا العام.. لا لطم على الخدود ولا «مراثي» و»بكائيات».. فـ»الشعب الذي أراد إنهاء الانقسام»، نجح في تحقيق ما أراد.. وهو يرفع اليوم شعار «الشعب يريد تحرير فلسطين».. وهو الشعار الذي رددته وستردده، ساحات وشوارع فلسطينية عديدة.

ذكرى النكبة تطل برأسها البشع هذه الأيام، فيما الشعوب العربية تخوض أروع ملاحم الثورة والانتفاضة من أجل استرداد كرامتها وحريتها، واستعادة سيادتها واستقلالها.. وهي وإن كانت قد سجّلت انتصارات باهرة في مصر وتونس، فإنها ما زالت تتجرع المرارة وتكابد المعاناة في بقية الدول والمجتمعات العربية للوصول إلى بر الأمان وشواطئ الديمقراطية والتعددية.

لقد اصطبغت النشاطات الإحيائية لذكرى النكبة هذا العام، بالطابع الشعبي والجماهيري الذي يحاكي حركة الشعوب والمجتمعات العربية.. عشرات الألوف انتظموا في تظاهرات واعتصامات ومهرجانات، داخل فلسطين وخارجها، للتعبير عن رفض «النكبة والنكسة والهزيمة» ولتجديد الإصرار على العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.

عشرات الألوف خرجوا في يوم الزحف الكبير، الذي يؤذن بأن يكون باكورة التحركات الشعبية الفلسطينية والعربية، مليونية الطراز، الزاحفة باتجاه فلسطين.. وهي وإن كانت حركة متواضعة بعض الشيء حتى الآن، فإن الأمل والرهان ينعقدان على تحولها إلى حركة «ملايينية» وليس «مليونية» فقط، في قادمات السنوات والمناسبات.. حينها، وحينها فقط، سيتاح لنا أن:

(1) نختبر الكيفية التي ستتعامل بها سلطات الاحتلال وأجهزته القمعية مع جموع المتظاهرين السلميين.

(2) وأن نختبر الكيفية التي سيتعامل بها المجتمع الدولي مع «آلة القتل الإسرائيلية».

(3) وأن نختبر الكيفية التي سينظر بها كل مستوطن، قديم وجديد، لنفسه وموقعه ومستقبله، وهو يرى الملايين من اللاجئين وأبنائهم، أصحاب الأرض والبيوت الأصليين، يزحفون لاسترداد منازلهم وحدائق بيوتهم.

تطور إيجابي آخر، تجري تحت ظلاله أنشطة الذكرى الثالثة والستين للنكبة، ويتمثل في نجاح الفلسطينيين باستعادة وحدتهم الوطنية والوصول إلى اتفاق المصالحة في القاهرة، وطي صفحة الانقسام الأبشع التي امتدت لأكثر من خمس سنوات عجاف.. وها هي إسرائيل تستنفر أجهزتها السياسية والأمنية، لتعقب احتمالات قيام فتح وحماس بأنشطة مشتركة لإحياء ذكرى النكبة، علّها بذلك تجد ما يخدم محاولتها «شيطنة» القيادة الفلسطينية، والبرهنة على أنها ليست «شريكاَ مناسباً» في عملية السلام، وتبرير إدامة الاستعصاء والجمود تالياً.

هذه السنة، تتميز الأنشطة الإحيائية لذكرى النكبة بطابع التحدي والإصرار على المقاومة والثقة بالنصر.. ملايين المتظاهرين السلميين، أسقطوا حصن «عرب أمريكا» وقلعتهم القوية في القاهرة.. وفي تزامن ينطوي على كثير من الدلالات، كانت الشوارع تردد «الشعب يريد تحرير فلسطين»، فيما هيئة النزاهة في مصر، تمدد أمر اعتقال الرئيس المخلوع خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق وتأمر بحبس زوجته مدة مماثلة، وبتهم مماثلة.. لقد تغير العالم العربي، واكتشف العرب مؤخراً، القوة الهائلة الكامنة في طاقة المقاومة الشعبية السلمية، فلماذا لا يجري توظيف هذه الطاقة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لماذا لا تخرج تظاهرات مليونية في غزة ضد الحصار وفي الضفة ضد الاستيطان وحواجز الذل والاحتلال. لماذا لا تلتقي التظاهرات المليونية المنطلقة من مختلف المدن والعواصم القريبة، في توقيت متزامن على طول حدود فلسطين المحتلة وعرضها، في رحلة العودة إلى الوطن واستعادة الحقوق.

من الماء العذب الرقراق، ومن نسائم الهواء العليل، وخيوط الشمس الرفيعة الملونة، تنبثق موجات الطاقة الهائلة والجبّارة.. موجات قادرة على «زحزحة الجبال» و»تفجير البراكين» و»إنارة الكون».. فلماذا لا تخرج من التظاهرات الشعبية السلمية، من قبل تظاهرات الورود والرياحين وأغصان الزيتون والنخيل، طاقة التغيير الجبارة.. طاقة التحرير التي لا رادّ لها.. لقد آن الأوان للتفكير بهذا السلاح الفتّاك.. لقد آن الأوان لاستخدام أحد أقوى «أسلحة البناء الشامل».. أحد «أمضى أسلحة المقاومة وأكثرها نبلاً وتأثيرا وإثارة للتضامن والفهم والتفهم والتعاطف والتأييد».

لقد آن الأوان لكي ندرس بتركيز، كيف يمكن الاستفادة من ثورات العرب وانتفاضاتهم، في تطوير أشكال المقاومة الفلسطينية وابتداع أكثر أساليبها انسجاماً مع روح وأدوات «ربيع العرب»: الخروج إلى الشوارع والبقاء فيها إلى أن تتحقق الأهداف، فهل هذا كثير على شعب فلسطين، الذي كان سبّاقاً في إطلاق أول الرصاص وأول الحجارة؟. هل هذا كثير على شعوب سطّرت أروع نماذج التضحية والفداء والعناد والصمود؟.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور