الشاعر ولد وعاش في مدينة " المنزلة " التي تقع على بحيرة المنزلة بمصر. له سبعة دواوين شعرية، طبعها على حسابه الخاص ، كما نظم مسرحيتين شعريتين هما:
الشهيد المصلوب: خبيب بن عدى (1988).
وفجر الإسلام (1989).
 بدأ محاولاته الشعرية الأولى وهو فى سن الخامسة عشرة، وجاد شعره بعد العشرين، وازداد إبداعًا وبراعة من أواخر الثمانينيات، قرأت كل دواوينه، وإن لم أتمكن من الحصول على مسرحيتيه الشعريتين، وعشت إسلامياته، وعروبياته الشعرية، وخصوصًا فلسطينياته فى تعاقبها وتطورها، فكان انطباعي العفوي الأول أن عزفه الشعري صدر من قيثار ثلاثى الأوتار؛ إذ يعطى «مزجًا» من عمر بهاء الدين الأميري، ويوسف العظم، وعبد الرحمن العشماوي، ففيه من الأميرييوسف العظمم عمق الشعور، وتوهج الإحساس، ومن عشماوي
 أما الجامع القوي الوثيق بين هؤلاء الثلاثة - وجذب إليه شاعرنا أسامة - فهو أنهم ينظرون إلى فلسطين أرضًا وشعبًا وجرحًا ونضالاً على أنها «بعدٌ أو عمق عقدي» . وتأسيسًا على هذا المفهوم يكون التفريط فيها ليس تفريطًا فى مساحة من الأرض، أو ضحايا من البشر، ولكنه فى حقيقته السديدة تفريط في دين وعرض، وتحت مظلة هذا المعطى النافذ الشامخ يقف شاعرنا أسامة الخريبي، فيقول:
كأني  والهموم  وُلدتُ  طفلاً
وحين  أفر من خطر وشيكٍ
فيا  رباه قد فاضت شجوني
هموم  المسلمين أعيش فيها
 
 
فما  تنفك عن كبدي وحسي
يطاردنى الزمان بظل أمسي
فما ترتد عن رجمي وحبسي
وغيري  همه رقص بعرس
وحين سأله أصحابه: لماذا لا يقول من الشعر ما يتدفق بالفرح والسعد والانبساط؟ فكان جوابه: محال أن ينبض قلبي بمثل هذا الشعر:
فما  عندى سوى ألمي..
وما عندي سوى غضب
وما  عندى سوى صور
ممزقة    ..    وأسفلها
 
 
أؤشجيكم   ..  بآلامي؟
على    أفواه    أقلامي
لحاضر   أمتي  الدامي
ترى العنوان «إسلامي»
 والأمة الإسلامية قضيتها واحدة في كل بقاع الأرض، وليست قضايا متعددة، صحيح قد تتعدد الأسماء، فيقال قضية كشمير، وقضية البوسنة والهرسك، وقضية مسلمي الفلبين، وقضية الشيشان، ولكن وحدة القضية تتمثل بالنظر إلى شخوصها في طرفين: طرف عدواني بطَّاش مدمر، وطرف مستضعف يريد أن ينال حقه، ويدافع عن شرفه، كما تتمثل من الناحية القيمية فى طبيعة هذا الصراع، فهو صراع موضوعي كيفي «بين الحق والباطل».
 وهذه المعالجة الموضوعية تطَّرد في أغلب إسلاميات أسامة الخريبي وفلسطينياته، ففي سياق قصيدته عن مأساة البوسنة والهرسك يقول:
هي قصة القدس القديمة
غيرت فيها المسارح والظلال
هى قصة للعائشين
على التعلل بالخيالْ
مأساتنا فى القدس ترجع واللئام هم اللئامْ
نفس المواقف: قوة دولية، أو هدنة أو هجرة نحو الخيام
وسفير روسيا أو بريطانيا يهدد بانقضاضٍ وانتقام
ويمر دهرٌ .. والخيام تكدست فوق الخيام
ويربط أسامة بين مأساة فلسطين والقدس - من ناحية - ومأساة الشعب الأفغانى على يد الروس من ناحية أخرى:
مَنْ لشعب مستباح شرد الروسُ شبابَهْ
هدموا المسجد جهرًا وطوى القصفُ رحابه
كلما نادوا أجبنا .. بهتاف وخطابه
ليتنا كنا جمادًا .. لا يرى أو يتكلم
لا تسلنى عن ضياع القدس عن يوم الهزيمة
فأنا أجتر أحزان الجراحات الأليمة
**********
واستطاع أسامة الخريبي بحاسته الشعرية النافذة أن يعالج مأساة فلسطين ببعديها الأساسيين:
الأول: هو البعد المادى المحسوس المتمثل فى الأرض المنهوبة، والملايين المشردة.
والثاني: هو البعد المعنوي القيمي، وقد رمز إلى بعض مفرداته بكلمات قوية الإيحاء: فرمز إلى الحكم المتسلط على فلسطين «بالسجان»، ورمز إلى الحصار المحكم المفروض على شعبها من الصهاينة «بالأسوار»، ورمز إلى الاضطهاد الديني «بالمحاريب المحطمة، والقبة المحترقة».
 ومن هذه الحاسة الشعرية الإيمانية الصادقة تنبثق العناصر النفسية والروحية المتفاعلة، والمستجيبة لهذه المأساة ببعديها، فتشد الشاعر إلى التحدث إلى فلسطين بضمير المخاطِب دون وسيط:
أيا فلسطين كم نمنا على حزَنٍ
وكم صبونا وكم عشنا بنا دَنَف
وأنت   أنت   ملايين  مشردة
وأنت  أنت  محاريب محطمة
وأنت  أنت  بريق  لامع  أبدًا
 
 
 
وأنتِ   حلم  وأشواق  وأفكارُ
وأنت جرح قوي النزف هدار
خلف  الخيام  وسجان وأسوار
وقبة    تتلظى   تحتها   النار
يشد  أعيننا  فى  عمقها  الثارُ
 وهذا الحب الدفاق، وهذه العزيمة الخارقة، وهذه الآمال الطامحة كلها معان وقيم لم تنشأ من فراغ، وإنما كانت تركة تلقَّاها الأبناء نفسيًا وعَقَديًا عن الجدود والآباء الذين انتقلوا للرفيق الأعلى قبل تخليص الوطن:
شاب الألوفُ وما شابت عزيمتهم
مات  الجدود  وما ماتت قضيتهم
قد  أرضعوهم  بأن القدس قبلتهم
وأن  غدر  بني  صهيون مندحر
وأن من زعموا في القدس هيكلهم
 
 
 
ومن  قضى شب فى أحفاده الثارُ
قد  ورثوها لمن في دربهم ساروا
وأن  كل  فلسطين  لهم  ... دار
وسوف  يُطفئُ هذا الغدرَ إعصار
لسوف  يهدم  ما شادوا .. وينهار
 ومثل هذا الشاعر الذى يؤمن بأن قضية فلسطين هي قضية عرض ودين، قبل أن تكون قضية أرض وطين، يكون من هذا المنطلق العقدي متعلقًا بعبق التراث، ومعطيات التاريخ بشخصياته، ومواقفه، ومناهجه، رابطًا بين الماضي والحاضر، متطلعًا إلى مستقبل متفتح جليل، ففي قصيدته «وامحمداه» وهي الصيحة التى أطلقتها السيدة زينب بنت الإمام على فى وجه قتلة الحسين رضي الله عنه يستهلها الشاعر بقوله:
يا سيد الخلق ما لي قد نبا قلمي         وحالت الصحْفُ أسْدَافًا من الظلَمِ
يعرض الشاعر بعد هذا النداء الشريف الباكي مآسي المسلمين، وعلى رأسها مأساة فلسطين، وخصوصًا القدس، التى يُـسحق أهلها من نصف قرن بأيدي اليهود القتلة مصاصي الدماء.
ويفزع مرة أخرى إلى «سيد الخلق» بنبرة غلب عليها النشيج:
يا  سيد  الخلق  قد  ماتت  قضيتنا
من نصف قرن وأبواق الكفاح على
فما   أعادوا   إلى  مسراك  هيبته
 
فى  مجلس الأمن أو في هيئة الأمم
هام  المنابر،  قد  بُحّتْ  من  الكلِم
ولا  استردوا  ذمار القدس والحرمِ
 وفي قصيدة أربت على الستين بيتًا يوجه الشاعر الخطاب إلى «ابن عبدون» الشاعر الأندلسى المشهور صاحب مراثي الممالك والمدن الزائلة، صاحب المطولة الرائية المشهورة:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر         فما البكاء على الأشباح والصورِ؟
ويشاركه بكاءه لا على الماضى، ولكن على واقع الأمة الإسلامية ومآسيها فى الوقت الحاضر:
إن قلتُ صبرا وشاتيلا قد انتهتا         هبت رياح الردى تطوي فلسطينا
 ويسقط ابن فلسطين البطل عبد الله عزام شهيدًا هو وولداه محمد وإبراهيم يوم الجمعة 24/11/1990 نتيجة مؤامرة دبرها الموساد وأعداء الإسلام، وتتدرع الزوجة الأم بالصبر الجميل وكأنها «الخنساء» التي حمدت الله؛ لأنه أكرمها باستشهاد أبنائها الأربعة جميعًا، ولزوجة الشهيد عزام ينظم الشاعر قصيدة طويلة بعنوان «إلى خنساء العصر» داعيًا الله أن يخلف الأبناء أباهم فى الجهاد .. فى جحفل يسجل على الأعداء نصرًا مبينًا:
ويعيد يافا والخليل وقدسَنا         ويصون حرمة أربُعٍ وبطاحِ
 ونلاحظ أن اختيار أسامة لمادته التراثية موضوعات وشخصيات ومواقف، وقوالب تعبيرية يتجه إلى إيثار ما يتفق ويتسق مع نبرة الحزن المهيمنة على أغلب شعره، كما يتسم منهجه فى تعامله مع هذه المادة بسمتين أساسيتين هما:
1 - أفقية العرض: فهو يتعامل مع الشخصية أو الموقف تعاملاً مباشرًا صريحًا، قد لا يخلو من الرمز، ولكنه رمز واضح صريح، كما أنه لا يتعامل مع معطيات الشعر الحديث كالقناع والمرايا وأسلوب السيناريو، واللقطات المقتطعة، كما فعل بلند الحيدرى وأمل دنقل وغيرهما.
2 - الربط بين الماضي والحاضر: ويأتي ذلك على سبيل «الإشهاد»، أي بمناجاة الشخصية التي استدعاها من الماضي عارضًا عليها مشاهد الحاضر وواقعه، فهو يستهل قصيدته التي يخاطب فيها «ابن عبدون» بقوله:
يا   ساكب  الدمع  توديعًا  وتأبينًا        هلاّ  سكبت  لنا  دمعًا  يواسينا
بكيتَ مُلكًا ذوى خلف الورى ألمًا         وكان عضبًا على كل المغيرينا
ثم يُشهده على واقع الأمة الإسلامية والعربية بما فيها من مآس ودماء ونكبات.
وقد يأتى الربط معتمدًا على مجرد «التشبيه الإشاري» بين معطيات الماضي، وموجودات الحاضر من شخصيات وأعلام ومواقف: كتشبيهه زوجة البطل الشهيد عبد الله عزام بالخنساء، وإن لم يستغرق هذا التشبيه أكثر من العنوان «خنساء القرن العشرين» وإن هيمنت على القصيدة التى بلغت خمسة وثلاثين بيتًا روح التضحية والفداء والصبر.
 وقد ألمحنا آنفًا إلى أن شعر الشاعر فى إسلامياته وفلسطينياته بخاصة يهيمن عليه سحائب من الحزن الشديد، ولكنه في أغلب الأحيان ليس حزنًا انهزاميًا استسلاميًا، ولكنه حزن الثائر المسلم المتفجر بالغضب والرفض والإباء، مما يحرك النفوس، ويشحنها بطاقة النهوض للثأر والانتصار بأمل حي دفاق أقوى من كل نكبة وقنوط.
 وفي نطاق الفلسطينيات حاول الشاعر أسامة الخريبي أن ينظم أقصوصة شعرية بعنوان «أحزان شجرة الزيتون» أحزان الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين، ومن وحي مظاهر تهويد القدس، وإزالة المباني العربية بالقوة، فجانبه التوفيق؛ إذ رأيناه عقلانيًا مفكرًا، أكثر منه فنانًا شاعرًا، وكأني به قد وضع نصب عينيه ابتداء: أفكارًا ومعاني معينة حرص على عرضها واستيفائها، ولو جاء ذلك على حساب جماليات الفن، ورهافة الشاعرية، ومطلع القصيدة:
كانت لنا فوق الربى زيتونةٌ         تسقى مع الإصباح بالأضواءِ
وفات الشاعر وقوعه فى «الإقواء» فى البيت الثالث وهو:
وعن الذين تنسموا أنداءها         واستروحوا فى فيئها الآلاءَ
 وأرى أن من المعاني التي تأثر بها الشاعر ما تضمنه قول عمر بن الخطاب في رسالته إلى سعد بن أبى وقاص وهو فى قتال الفرس «فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، فلا تعملوا بمعاصي الله، وأنتم فى سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلَّط علينا، وإن أسأنا، فرب قوم سُلط عليهم شر منهم كما سُلِّط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفرةُ المجوس {...فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً}»الإسراء 5.
ويقول أسامة:
الله ينصر أمة الكفر التي         عدلت  وصانت  شعبها بشراعِها
لكنه   للمؤمنين   معاقِب         إن هم أشاعوا الظلم في أصقاعها
 ولكن أداءه التعبيري لم يرق إلى مستوى الفكرة، فاضطر إلى التكلف فى القافية، فأتى بكلمة «شراعها» بديلاً لكلمة «شرعها» حرصًا على استقامة الوزن، كما أن الأداء جاء فى مجموعه تقريريًا دارجًا محرومًا من الإيحاء، وإن لم يتخل التوفيق عن الشاعر فى اقتباسه قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «... ولينزعن الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم» وذلك فى قوله:
نزع الإله مهابة كانت لها         وغدتْ مطية زيغها وضلالها
 والقصيدة فى مطلعها، ومسارها الفكري، وجوها العام تذكرنا بقصيدة الشاعر المصرى محمد الهمشري (1908 - 1938) «النارنجة الذابلة» ومطلعها:
كانت لنا عند السياج شجيرة         ألِف  الغناء بظلها الزَّرزورْ
طفق الربيع يزورها متخفيًا         ويفيض منها في الحديقة نور
ومطلع قصيدة أسامة:
كانت لنا فوق الربى زيتونة         تُسقى مع الإصباح بالأضواءِ
وتحدث الأنسام عن أوراقها         وغصونها الملتفةِ الخضراءِ
والقصيدتان من بحر واحد هو «الكامل» والعناصر الموضوعية واحدة: شجرة ناضرة ناضجة كانت موضع اعتزاز الأهل والطبيعة: وهي «نارنجة» عند محمد الهمشري، و«زيتونة» عند أسامة الخريبي، وعدو يقضي على الشجرة هو الزمن الخريفي عند الهمشري، وهو اليهود الصهاينة عند الخريبي.
وكلتا الشجرتين ترتبط بقيم إنسانية واجتماعية وجمالية جعلها موضع اعتزاز كل منهما على ما أصابها، يقول الهمشري فى أبيات المطلع، وكذلك فى أبيات الختام:
كانت لنا .. ياليتها دامت لنا         أو دام يهتف فوقها الزرزور
 وكالشعراء الإسلاميين الذين عالجوا القضية الفلسطينية وحملوا همومها، واهتزت قلوبهم بفجائعها، وخصوصًا الأميري ويوسف العظم وعبد الرحمن عشماوي يلقي أسامة المسئولية الكبرى على الأمة بصفة عامة، وحكامها بصفة خاصة، وهو معنى يتردد فى أغلب فلسطينياته وإسلامياته، فهى أمة يحكمها التفريق:
تحكّم  فى  مصائرنا  عدوٌ         ونحن على الخطى العرجاء نقفُو
تفرقنا  الذميمُ  جنى علينا         وكيف   يلملم   الأشلاءَ   ضعف
نداس كما الجراد بكل فج         وأعقب   أمنَـنا   ذلّ    وخوف
وهي أمة تمزقها للأسف المعاصى والآفات اللاأخلاقية:
لكَمْ  أسافرُ  فى  الأيام  يا وطني
وكم  أفتش  عن أرض بلا كذب
فما  أعود  من التجوال يا وطني
 
وأنت  قلبي  وشرياني وتغريدي
ولا    نفاق    وتضليل   وتقليد
بغير طرف حسير الطرف منكودِ
وهي أمة مسلوبة الإرادة مستسلمة للهوان، يحركها ويوجهها غيرها، وتهان ولا تتحرك بعد أن تبلد إحساسها.
هذي   الملايين  آلات  تحركها
لا ينطقون بحرف غير ما أمروا
فهل  تظنين  أن  اللوم  يوقظهم
 
خلف  الضباب إشارات وأزرارُ
كما   تحرك  للببغاء  ..  منقار
وهل  تألم تحت الطرق مسمار؟
 ومن مظاهر استلاب الغرب إرادة الأمة ما وضعه من حدود صماء قسم بها الأمة إلى أوطان متعددة مع أنها أمة واحدة، وقد أبرز الشاعر هذا المظهر المأساوي الاستسلامي في قصيدته «الحدود الملغومة» فى ديوانه «مراثي أمة الإسلام».
 وأرى أنها غضبة من الشاعر جاءت فى محلها؛ لأنها تصور واقعًا قائمًا، وإن كان التعميم يبقى محل نظر، فالأمة لم تخْلُ من عناصر طيبة شامخة مرابطة على الجهاد، ثابتة على درب الحق والنضال.
 كما نرفض بشدة غلو الشاعر فى «جلد الأمة» ببيت يرفضه أدب الإسلام؛ إذ يقول موجهًا الخطاب إلى فلسطين:
كفّى الملامَ فما للوم آثار         فأمة العرْبِ أذناب وأبقارُ
 ولعله متأثر فى هذا التعبير بنزار قبانى الذى وصف الأمة العربية فى قصيدة من أواخر قصائده بأنها أمة تبول على نفسها كالبقر.
 ولكن الأمة لم يمزقها هذا الوهن، وهذا الهوان والضياع، إلا لأنها رزئت بحكام حكموها بالحديد والنار، والسجن والسجان، والقتل والتعذيب والتشريد، وعن هؤلاء يقول الشاعر فى قصيدة رائعة بعنوان «ربيع بلا أزهار»:
يا  ويحهم  نسفوا الحياء بأمة
واستوردوا سبل الهوان لعزّل
وعلى يديهم للتعصب خرَّجوا
وتنكبوا  سبل  الهداة  وقننوا
فتقهقرت  أمم  يراد نهوضها
 
 
 
كان  الحياء لأهلها .. عنوانا
ذاقوا   الهوان  بعدهم  ألوانا
أسرًا  ترضّع نسلها الأضغانا
ما  خالف  المعقول  والأديانا
وبرغمهم  صنعوا لها التيجانا
 والحاكم الذى يظلم شعبه، لا يعده بالقهر والإذلال والتعذيب والتشريد لطاعته والاستسلام له فحسب، ولكن يعده كذلك - قصد أو لم يقصد - لكي يكون بما أصابه من ضعف ومهانة لقمة سهلة سائغة لأعداء الأمة والدين والإنسانية.
 لقد كانت الانتفاضة الفلسطينية بعثًا حقيقيًا لنضال الشعب الفلسطيني. صحيح أن النضال الفلسطيني فى مواجهة الصهيونية لم ينقطع من أول قيام دولة العدوان (إسرائيل) بل قبل ذلك بعشرات السنين، لكن النضال الانتفاضي، والظروف المحيطة به تختلف من عدة وجوه أهمها:
(1) أنه يشكل حركة شعبية عامة شاملة امتدت لكل الأراضي الفلسطينية، فلم تنحصر فى مكان معين، أو فئة أو جماعة معينة، وإن كان لتنظيمي حماس والجهاد فضل التقدم والتفوق فى هذا المجال.
(2) دخول عنصر بشري جديد هو الأطفال بسلاح الحجارة، وقد يستهين من ينظرون إلى الأمور نظرة سطحية بهذه المقاومة الطفولية، فآليتها - وهى الحجارة - عاجزة أمام الأسلحة الإسرائيلية الفتاكة: من دبابات، ومدافع، وصواريخ . ولكن الواقع يجزم أن اشتراك هؤلاء الأطفال بهذه الآلية البدائية يحقق انتصارًا نفسيًا رائعًا؛ إذ يمثل باعثًا نفسيًا وروحيًا للشباب والرجال يدفعهم إلى السير في درب الجهاد، فعزيز على هؤلاء أن يتقاعسوا فى وقت يتصدى فيه الأطفال الصغار للصهاينة دون خوف أو وَجَل.
كما أن هؤلاء الأطفال يزرعون الفزع بحجارتهم فى قلوب الجنود الإسرائيليين المدججين بأفتك الأسلحة، وقد رأينا فى قنوات التلفاز بعض الجنود اليهود وهم يفرون أمام طفل يهددهم بحجر فى يده.
(3) استخدام المجاهدين أسلحة جديدة فى المقاومة كالمدافع الرشاشة، والقنابل اليدوية، والهاون، وصواريخ قسام(1)، وقسام(2)، وهى صناعة محلية.
وأهم من كل أولئك «القنابل أو الألغام البشرية» وذلك بأن يفجر المجاهد نفسه، مما يترتب عليه خسائر بشرية كبيرة فى الجانب الإسرائيلى، وهذا السلاح البشرى الإيمانى هو أخطر الأسلحة، وأشدها إفزاعًا لإسرائيل.
(4) ثبات الشعب الفلسطينى وصموده على الرغم من كثرة الضحايا، ومعاناة الجوع والجراح، واستخدام اليهود الطائرات والمدافع والصواريخ، ونسف البيوت، وتجريف الأرض، كما أن أمريكا والدول الإمبريالية تقف فى صف إسرائيل، أما موقف السلطة الفلسطينية والحكومات العربية فيمثل نقطة عار فى تاريخنا، وهو حكم لا يحتاج إلى شرح وتفصيل.
(5) بروز عنصر مساندة جديد للانتفاضة، يتمثل عسكريًا فى حزب الله اللبنانى، وماديًا ومعنويًا فى الشعوب العربية، وخصوصًا النقابات المهنية، وجماعات التيار الإسلامى، وخصوصًا فى مصر والأردن.
**********
 وكان لأسامة الخريبي اهتمام خاص، وتوجه إيمانى متوهج إلى الانتفاضة الفلسطينية، فهو يُهدى ديوانه «من عبير الزهرة البرية» «إلى شهداء الانتفاضة الفلسطينية، وإلى مائة وعشرين طفلاً دون الثانية عشرة، من بين أربعمائة شهيد خلال ستة أشهر»، ويخاطبهم فى هذا الإهداء بقوله:
تصمتُ الأشعار خـجلَى .. عندما تُهدَى إليكم
تسقط الأقـوال صرعى إنْ دنت مـن شفتيكم
ويموت الدمعُ فى الأحداق محسورًا ... عليكم
يا ندى الفـجر الذى يُغـزل من نبض يديـكم
يا رؤى الـنصر الذى هزَّ الطـواغيتَ لديـكم
تعجز الأقلام أن تهـدِي ، ولوْ سـطرا إليـكم
ويوجه خطابه إلى كل شهيد من شهداء الانتفاضة الفلسطينية، وهو يرى قوافل الجنائز يوميًا فى فلسطين الحبيبة:
أرنو   إليك   فتذرُو   دمعَها  المقل
قوافلُ   الموتِ   طوفانٌ   يزلزلني
كآبة   الموت  في  أعماقنا  سكنت
يجرى الصراخ بنار الحزن ممتزجًا
هذا  الهدير  وراء  النعش  أيقظني
هذا   الهدير  وراء  النعش  مندفع
 
 
 
 
يا  من حُملتَ على الأعناقِ يا بطلُ
أنا  الكسيح،  فيا  رباه .. ما العملُ
وخيَّم  الحزنُ  فى  الأفواه والخجلُ
فالأم  ثكلَى  ..  وشيخ  جنبها  ثَكِلُ
لكى  أراك،  وعرّى  ظلم من قَتَلوا
يبكي  شبابًا،  وجرحًا  ليس  يندمل
إنه حزن عارم يزلزل الكيان، ويستبد بالمشاعر والأحاسيس على هؤلاء الشباب الذين يسقطون صرعى في ميدان الشرف والجهاد، وهم يواجهون قوة ظالمة غاشمة، ولكنه حزن له قيمته الإيجابية الفاعلة، فيشحن النفوس بالغضب والنقمة:
والثأر يغلي بكل مشيِّع هدمتْ         عصابةُ البغي.. ما يرجو ويأتملُ
 ويبقى الجهاد هو السبيل الوحيدة لتحقيق النصر، مهما كان الفرق بعيدًا شاسعًا بين آلية المواجهة : بين المجاهدين والعدو الظالم الغاشم الدموي المغتصب، فالحسم ليس للسلاح، ولكن للإيمان القوي بعدالة القضية، ونبل الهدف . وما زال الشاعر - إيمانًا بهذا العطاء الجهادي النبيل - يؤثر توجيه الخطاب المباشر للشهيد الفادي:
يا  من رسمت سبيل النصر في وطن
يا  من  أجبتَ  نداء  الحق  إذ هتفتْ
أقبلتَ   للقدس   تبغي   فك  محبسها
وكفك    البِكْر    مقلاع   به   حجر
هوى    عليك   جبان   في   مدرعة
رصاصة سكنتْ في الصدر أو عبرت
 
 
 
 
تاهت  إلى  النصر  من أقدامِه السبُلُ
بك    المحاريبُ   والأقداس   تشتعلُ
وعودك   الغض   معقود   به  الأملُ
من  العزيمة  في  قلب  العدا .. جبلُ
من  الصواريخ  تخشى  بأسَها  الدولُ
وحولها     النحرُ    بالآلام    يكتحلُ
 وإذا كان الحاضر داميًا، والمعاناة شديدة، والدماء المبذولة غزيرة دفاقة، والأحزان يستعر أوارها في النفوس، فكل أولئك ثمن ومقدمة لمستقبل وضيء يرسم الشاعر ملامحه فى الأبيات التالية، وبها يختم قصيدته:
يأتي  زمان بلا خوف يحاصرنا
يأتي زمان وأحزاني التى سلفتْ
يأتي    زمان   وقرآنٌ   يظللنا
وأمتي  فى  رحاب الكون قائدة
 
 
ولا  الحروف من الأفواه تُعتقل
بعزة  النصر  أمحوها وأغتسل
وقائد   تحت   ظل  اللهِ  يبتهل
وخلفها  تركض  الأقوامُ والدولُ
**********
وفى ديوانه «يمانيات» يتحدث أسامة الخريبي إلى «الطفل المعجزة» ذلك الطفل الذى «تشكل فى الليالي المظلمة» و«حوتْه أرحام التباريح العجاف المؤلمة»:
غذّتـه آلامُ القيود بدمـعها الدموي نـارا
وسقته جدران الحدود بكفها المخضوبِ ثارا
حـتى تأهـب للـولادَهْ
كان الصراخ المرُّ زاده
وأتى يزمـجر في دياجير السنين بلا وَجَلْ
ويصيح في صمتِ الهـوان .. أنا البـطلْ
ولم يكن ذلك ادعاء، بل كان حقيقة على مسرح النضال المر، فقد كان هذا الطفل أكبر من «أحلام الصغار»، وفوق ما يأخذهم من مخاوف في هذه المواقف، كما أنه نبذ «فلسفة كل صعلوك أجير» و«كل مهزوم غبي» و«كل من يدعو لعقد المؤتمر».
 ولأن الشاعر يرى أن قضية فلسطين قضية وجود، لا قضية حدود، وأنها فى المقام الأول قضية عقيدة ودين، لا قضية أرض وطين .. فمع هذه الرؤية تتسق الصورة التى رسمها الشاعر لهذا الطفل المعجزة، إنه «طفل رساليّ» يحمل بافتخار مصحفًا، ويقيم بالقرآن مدرسة لتقرير المصير.
 ويختم الشاعر قصيدته بهذا الخطاب القوى المتوهج الصاخّ:
يا أيها البطل الصغير حذارِ أن تدعَ الحجرْ
وحذار أن تصغى لمن يدعو لعقد المؤتمرْ
نحن انتهينا يا بطل
لكن أرضك لم تزل
فاصنع بكـفك أنت مـجدَك .. للسنين القادمةْ
وابصق على كل الجحافلِ والجيوش .. النائمة
 ونأخذ على الشاعر قوله «نحن انتهينا» فالمفروض أنه يتحدث باسم الشعب الفلسطيني أو الشعب العربي، فأين الانتهاء؟ ربما أراد الشاعر أن يقول «فنحن إلى انتهاء، والأرض باقية» فلم يسعفه الوزن.
 كما أن المسلم لا يستسيغ تشبيه الطفل بآدم أو المسيح - عليهما السلام - وذلك فى قوله:
 وإليك يا من جئتَ تخطر دون أم أو أب
 أتراك آدم صوَّرته يد الألوهة أم نبي؟
 يا آدم الأيـام لا تصْغ لمـهزوم غـبي
فهو تعسف تصويرى لا يليق بشاعر مجيد، زيادة على ما فى قوله «لا تصغ لمهزوم...» من كسر عروضي لا يستقيم إلا بقوله «لا تصغي...» ولو فعل لوقع فى خطأ نحوي. والصحيح أن يقول «لا تسمعْ...»
 وفى الثانى من رجب 1421هـ (30 / 9 / 2000م) يسقط الطفل محمد الدرة شهيدًا، فينظم الشاعر قصيدة بعنوان «يا درة سُرِقت» فى ديوانه «من عبير الزهرة البرية» والقصيدة تتدفق بالتوهج العاطفي، والإيحاء الآسر ابتداء من العنوان؛ إذ ساوى فيه الشاعر بين الدرة «الطفل الشهيد» والدرة «الجوهرة العصماء».
 وترك الشاعر هذا العنوان يلقي إيحاءه طوال القصيدة، ولم يبِنْ عن حقيقة المقصود إلا بعد تسعة وعشرين بيتًا من القصيدة، أى قبل نهايتها بعدة أبيات حين وجه الخطاب للطفل الشهيد بقوله:
يا درةً سُرقتْ وكان بوسعها         أن تخطف الأبصارَ وهى تدارُ
يا  درةً تاجُ العروبة عاطلٌ         والشرق  بعدك  قد  علاه غبارُ
ولكن أغلب أبيات القصيدة موجه إلى «جمال الدرة» والد الطفل الشهيد، ويجسد الشاعر عاطفة الأبوة الحانية الملتاعة، والأب يرى كل محاولاته في حماية ابنه وتفديته تضيع سدى:
حاولـتَ   لكنْ   حالت  الأقـدارُ
حاولتَ  أن ينأى ضناك عن الأذى
ورفعتَ   كفَّك  تستغيثُ  قلـوبَهم
وبسطتَ صدرك كي تقيه رصاصةً
لكنّ  من  حملوا  الرصاص حثالةٌ
فرمتْه  في  أعماقِ صدرك فانحنى
 
 
 
 
وعدا  عـليك  الغـاشم  الجـبارُ
ووددتَ  لو صدّ الرصاصَ جـدارُ
وقلوبهم   قد   صمَّـها   الإصرارُ
مجنونة   ذهلتْ   لها   الأبـصار
ترمى  الرصاصَ  كأنه  الإعصار
وبكتْ   بقـرب   دمائه  الأحجار
وكان مصرع الطفل الشهيد رسالة موجهة مصوغة بالدم الطاهر الشذيّ البريء:
لتقولَ للعرْب الذين تجـمدوا
بدم الشهادة يرجع الحق الذي
بدم  الشهيد الحر لا بقـصائد
بدم  الشهيد  الفذ  تكتب قصة
 
 
«بدم البطولة تقـرع الأسوار
قد ضاع لا التـنديدُ والإنكار
شاخت بها فى مهدها الأشعار
للخـلد  خط حروفها الثوار»
ويختم هذه الرسالة الموجهة إلى «العرب الذين تجمدوا» بهذا القرار الحاسم القهار:
لو كان فينا من يرد كرامةً         لمشى إليك الجحفل الجرار
كما جعل الشاعر دم الطفل الشهيد رسالة موجهة إلى العالم بأسره بكلمات صارخة ملتاعة في استفهام استنكاري قوي:
فى أيّ قانون وأيةِ شرعةٍ         يُرمى دم الأطفال وهْمُ صغار؟
 ومن جديد يتوجه الشاعر بخطابه إلى جمال الدرة - والد الطفل الشهيد - يذكره بأن جرائم اليهود وعدوانهم مكرر شائع في كل أرض فلسطينية، فمذابحهم وفظائعهم قصص دامية لا تنتهي:
قصص  يشيب لهولها ولبؤسها
كم  من ذبيح فوق صدر حبيبه
كم  زوجة  حبلى ويَبْقُر بطنَها
كم  فى  العراءِ وحيدة وطريدة
 
 
شَعر الوليد وتشخص الأبصار
هطلتْ  عليه  فأحرقته النـار
متراهنون  ..  حثالةٌ  .. أقذار
شهدت بخطف رجالها الأسحار
 وقد عرض الشاعر هذه المشاهد الدامية لغرضين: إدانة اليهود ووصْمهم بالإجرام والعدوانية من ناحية، وإدانة العرب المتقاعسين عن نجدة إخوانهم من ناحية أخرى؛ لذلك أنهى هذه المشاهد بتكرار القرار الحاسم:
لو كان فينا من يصون كرامةً         لمشى إليهم جحْفل جـرارُ
أما الغرض الثانى من عرض هذه المشاهد فهو التخفيف عن الأب المفجوع جمال الدرة، وصدقَت الخنساء إذ قالت:
ولولا كثرةُ الباكين حـولي         على إخوانهم لقتلتُ نفسى
يؤكد ذلك أن الشاعر ختم قصيدته بالتعبير عن المشاركة الوجدانية له في أحزانه، وبمنطق إيماني رفيع يوصيه بالصبر والثبات والشموخ والأمل، «فلربما سطعت بموت محمد أقمارُ»:
ولربما كان النفير لثـورة         بَعثتْ شرارةَ بدئها الأقدارُ
ولربما تهب السماء بموته         بطلاً يسير بـِدربِهِ الثوارُ
 لقد كان الشاعر موفقًا في هذه القصيدة؛ إذ جعل من استشهاد الطفل محمد الدرة قضية عربية وقضية إنسانية، زيادة على طرافة التوجه الموضوعي، فقد خالف المعهود عند من نظم في مأساة محمد الدرة، فأعطى جُلَّ اهتمامه لا إلى المأساة في ذاتها عرضًا وتوصيفًا ، ولكنه اتخذ منها نافذة لإبراز مأساة الشعب والأمة والقيم الإنسانية المنتهكة.
 ونسجل على الشاعر بعض الهنات الأسلوبية، فبعض الأبيات لا يرقى التعبير فيها إلى مستوى المضمون والتوهج الوجداني: كوصفه دم العروبة بأنه «أضحى تُحطَّم دونه الأسعارُ»؛ فتحطيم الأسعار تعبير شائع فى الأسواق و«الأوكازيونات».
 ولا نستسيغ الصورة الآتية فى مقام تجريم اليهود:
كم من رضيع قطَّـعوه لأمه         وقتَ الغداء بقدرها الأشرارُ
فتقطيع الرضيع - وقت الغداء بالذات - ووضعه فى إناء الطبخ أمام أمه صورة لا تليق إلا فى حواديت أمنا الغولة، كما أن التعبير دارج هابط، وإن كان اليهود قد ارتكبوا ما هو أنكى من ذلك.
 ولكن القصيدة - بصفة عامة - تعد من أرقى ما نظم الشاعر أسامة الخريبي، ومن أعظم القصائد التي عالجت هذا الموضوع فى شعرنا العربي.
 وأذكر القارئ بما سبق أن ألمحت إليه، بأننى - لم أقدم تقييمًا شاملاً لإبداعه الشعرى، ولا حتى تقييمًا شاملاً «لفلسطينياته» ولكن ما قدمته لا يزيد على كونه وقفة نقدية أمام فلسطينيات الشاعر. وفقه الله .

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب