" لست أريد أن أضع تعريفا للشعر، ولست أهدف إلى تحديد مكان الشعر من العالم ولا مكانه من عصرنا، وإنما أي أريده هنا، هو تحديد مكانه من نفسي."1
هكذا استهل الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في مقالته حول تجربته الشعرية، من خلال حديثه الذي كان منظارا له، من خلاله رأى الشعر المرتبط بالقلق، ومنه نبع التعريف الكامل للوظيفة الشعرية الخلاقة الثائرة على الكائن، فسار بمنتوجه نحو التكامل والتحديث وخلص إلى نموذجيته اللازمنية واللامكانية.
إذن، كيف استثمر عبد الوهاب البياتي، تجاربه الثقافية والفكرية ليخلص إلى إنتاج كلماته الشعرية؟ وما هي أهم سمات الشعر عنده؟
للوقوف عند هذه العناصر، لا بد من استخلاص المكونات الرئيسية التي تؤطر التجربة الشعرية عند البياتي، وهي:
1- من هو الشاعر؟
2- مفهوم الشعر؟
3- وظيفة الشعر..
4- مصدر الشعر..
5- حدود الشعر وأزمنته.
1- من هو الشاعر؟
1-1: البياتي/ الإنسان:
هو الشاعر العراقي الجوال الذي عاش حرا طليقا يمتاح من المدينة والقرية العربية والغربية تجليات الشعر والإبداع. فكان سندباد عصره، إذ:" يرتبط تعدد المدن في شعر البياتي، بتعدد صفاتها، ويتحقق هذا التعدد في لوازم شعرية تبرز طبيعة الشاعر السندبادية المرتحلة أبدا" 2
فارتحاله جال بفكره وجعله يعيش الحاضر كما يعيش المستقبل ويحضر ليكون الفارس العربي والشاعر الجوال.
1-2- البياتي/ الشاعر:
حالة كهذه، ولدت الشاعر عبد الوهاب البياتي متميزا عن غيره، وهذا ما جعل الشعر بالنسبة إليه ولادة حقيقية وإخلاصا له، يقول:" فلقد جعلت شعري وسيلتي وغايتي وأخلصت للشعر لا على أنه رسالة إنسانية فقط، بل على أنه رسالة إنسانية فقط، بل على أنه فن صعب أيضا." 3
ويستمد البياتي شعره من التراث بكل مكوناته:" وربما يكون أكثر شاعر عربي صلة بالتاريخ والتراث العربي والإنساني، وأعمقهم إحساسا باتجاهات الثورة والتمرد فيه."4
فالبياتي أبدع شعره انطلاقا من قراءاته المتنوعة والمتعددة، وقد لخصها بنفسه في مجالات منها:
أ- المكتبة الدينية التي كان يمتلكا.
ب- الأغاني الشعبية لقريته.
ت- استلهامه الثقافات المتنوعة.
ث- دراسة التاريخ.
ج- قراءة الشعر القديم، إذ تأثر بطرفة وأبي نواس والمعري والشريف الرضي، 5
لذلك نرى البياتي في شعره كثير التأثر بالشعر العربي والتراث الغربي، ويتجلى ذلك في ديوانه الشعري، كما نجده في استلهامه شخصية عمر الخيام مثلا في مجموعته ( الذي يأتي أو لا يأتي) 6، ويحاول أن يلخص ذاته من خلال ذات عمر الخيام.. فيكون البياتي القناع الذي يرمز لعمر، كما يكون عمر القناع (الخلاص له). يقول البياتي:" ولو عدنا إلى القناع في شعري لوجدنا أن استخدامي له كان دقيقا جدا. فالقناع كان (الآخر) وكان هو الآخر وكنت أنا نفسي والآخر في نفس الوقت" 7
قبل أن نتحول إلى العنصر الثاني، لا بد من الإشارة إلى أن البياتي كان موفقا في اختياراته الشعرية، وهذا الاختيار لبى دعوة النقاد والدارسين على طول البلاد العربية والغربية، فقد ترجمت إلى لغات متعددة، وكان قريب الالتقاء ببعض الشعراء الغربيين.
2- مفهوم الشعر:
لقد سبق أن اعترف البياتي أنه لم يرد وضع تعريف للشعر، بالرغم من ذلك استطاع أن يمنحنا بعضا من الدلائل على هذا المفهوم، منها:
1) الشعر رسم لأصوات غامضة تنبعث من جوف بئر الشفاء الإنساني، والشعر يحيل هذه الكلمات الغامضة المشوشة المتناثرة على نظام لغوي صارم.
2) الكتابة اختراق لكينونة اللغة وكينونة الشعر المعبر عنه.
3) الشعر- إذن- هو الذي يبقى في مواجهة الشر والظلم الكوني والتعاسة والموت.8
4) عملية الخلق الفني- التي هي عبور من خلال الموت- هي ثورة بحد ذاتها، للاستئثار بالحياة، وهي مرتبطة بالإبداع التاريخي. 9
5) الشاعر.. مدينة حقيقية لها وجودها الواقعي، مدينة كبيرة مترامية.10
6) الشاعر – كمشروع ومحاولة وطفل ثوري- نقيض الموت، وبديل له، وانتصار عليه. 11
7) موضوعية شعره تربط الزمني واللازمني في صيغة الزمن الكلي، وبذلك قضى على الذاتية والواقعية والرومانسية. 12
إذن فقد جعل البياتي من قصائده بعدا آخر للإنسان المتذمر، للحقيقة الغائبة في دهاليز الباطل، وكي ينهل من هذا النبع الثري والفني، سافر وتجول وحاول أن يستخلص بعض قواه الباطنية ليحول الذات إلى موضوع والباطل الميت إلى حقيقة ثورية:" فيؤكد شعر البياتي طابعا جديدا، إذ أصبحت القصيدة لديه بناء مركبا إحدى مميزاته تعدد الأصوات، أي أن القصيدة شرعت تتخلص من عنايتها كما في ديوانه (ملائكة وشياطين- 1950)، ولعل هذا راجع إلى التغيير الروحي والفكري في ذات الشاعر الذي اكتشف خواء التمرد الميتافيزيقي عندما أبصر واقعا مزريا وبؤسا مفزعا، وفي هذا المكان الذي تتحرك فيه القصيدة" 13
يقول البياتي:
كطلاسم الكهان ألواني
وعرائس الغابات ألحاني
ألبسها زهوا أو...
ثوبا، ومن أوراق بستاني
وغمستها في النبع عارية.
وغسلتها في دمعي القاني
ورفعتها عقدا لفاتنتي
حباته أبيات ديواني. 14
3- وظيفة الشعر:
يقف عبد الوهاب البياتي موقفا مضادا من الالتزام الشعري:" والالتزام وعدم الالتزام يبدو ثرثرة ولغوا باطلا عند الحديث عن أنصاف الشعراء.. والأقزام غير الموهوبين." 15 إذ إن الشاعر بالنسبة للبياتي، يكتب القصيدة ليخلص الإنسان من ضيق الحياة واستلابها. " إن الشاعر الحق لا ينشد كتابة الشعر وحسب، بل يبحث أيضا عن وسائل الخلاص للإنسان العربي المستلب المحاصر، الذي يقف على أرض محروقة." 16 وهذا ما دفع ببعض الدارسين لشعره إلى اعتباره شاعرا:" يكتب القصيدة مدفوعا بالبحث عن الحرية والنضال من أجلها، جادا في عمله، خاضعا ذاته لذوات الآخرين، فانطلق البياتي من رؤية بروميثوتية أي الإنسان الثائر الكادح الذي لا يكف عن النضال لاسترداد حريته والدفاع عن حبه، وتغيير وضعه الوجودي نحو الأفضل، مهما تعرض للظلم والقمع أو الفشل." 17 وفي هذا الصدد يقول البياتي:" والشاعر في مثل هذه الحالة يجب أن يكون ثائرا ومفكرا وفيلسوفا ومسيحيا حاملا لصليب خلاصه وسبيل خلاص الآخرين." 18
نخلص من هنا إلى اعتبار البياتي شاعرا إنسانيا وظف شعره للثورة الخلاقة المبدعة التي تغني ذاتها في الذوات الإنسانية الأخرى، وحتى يكون ذا قيمة فنية فإنه يحافظ على النسيج العام الذي بدأه منذ أوائل تجربته الشعرية، وحافظ أيضا على المكونات التي ينسجها من خلال استنباط التراث الشعري العربي والغربي داخل كيانه، وحلول البعد التاريخي في حيز ذاته، فيصبح الزمن لا زمنا عنده، ويصبح الأزل سمة الكينونة الأبدية في شعره. يقول عن رسالة شعره:" إني جعلت شعري وسيلتي وغايتي وأخلصت للشعر لا على أنه رسالة فقط، بل على أنه فن صعب أيضا." 19
4- مصدر الشعر:
يقول البياتي:" الفنان الثوري خالق الثورة وصانعها، والسياسي المحترف: لصها وقاتلها. وفي ظل هذا المناخ المشحون بالتوتر والقلق والانتظار، أحمل كل ليلة عصاي وأرحل مع الطيور المهاجرة، في انتظار معجزة إنسانية تقع والكلمات تعمل في صمتها، لتهبني هذه الشرارة الإنسانية، هذا الأمل، هذا الخيط من الدخان الذي أكتب فيه قصائدي." 20 إنه المناخ الذي يهب للشاعر عبد الوهاب البياتي قدرة على قول الشعر وإنتاج القصيدة، وهو الذي يحترق شوقا لإعطاء النفحة الأولى لقصيدته، تلك أهم اللحظات التي ينبثق عنها الإلهام الشعري، والقصيدة أيضا تولد عند البياتي انطلاقا من تعامله مع التراث الإنساني عامة." لأن التراث هو ما يبقى حيا في داخلنا وفي كلماتنا. أما ما يموت من التراث فيتحول رمادا وقوافي وجملا إنشائية على أيدي النظامين سواء منهم القدامى والمحدثون." 21
إذن، التراث هو المصدر الأول لقول الشعر عند البياتي، إلى جانب اهتمامه بالأدب الغربي الحديث. يقول:" لقد كان أكثر اهتمامي بعد الأدب العربي، الأدب الروسي والأدب الإسباني" 22
للانتقال إلى تشكل القصيدة، نجد البياتي يقيم تناسق القصيدة عنده على أساس نمطي إذ إنها لا بد أن تحتوي على الغرض الأساس، ثم الانتقال من هنا وهناك، متدرجا عبر العصور والثقافات ينهل منها الحقيقة الثورية، لتتشكل عنده القصيدة من أطوار زمنية ثلاثة، هي:
أولا: الإحساس ببداية الكتابة، كقطرة ماء سقطت على أرض قاحلة.
ثانيا: تجمع القطرات في داخله.
ثالثا: البدء في الكتابة، كأنها برق يضيء عتمة نفسه.23
إن البدايات التي تشكل القصيدة عنده مبنية على القلق والتوتر الذي يضيئه لمعان برق، تومض في ثناياها لتخرج تلك النفحة (القصيدة) للوجود.
ومن بين المصادر الثقافية التي يتوخى الشاعر الاستفادة منها: المرأة باعتبارها جزءا:" من حبي الإنسانية والوطن والثورة حتى أصبح من المتعذر علي أن أفضل فيما بينهم، بل لقد كان أي فصل بمثابة قتل للآخر." 24 كيف تتحول المرأة إلى مصدر؟
إن الحب الذي يكنه الشاعر للمرأة، سواء أكانت حقيقية أو رمزا للكمال الأنثوي، ينبع عنه الحب للشعر وللقول الشعري الذي يتمنى من خلاله أن يعطي لها الحق في المثول والوجود، ثم استفاد البياتي كذلك من الأسطورة بكل مقوماتها المرتبطة بالعالمين الحقيق والمتخيل (العالم السفلي، والجنة كما دعاهما- 25).
5- حدود الشعر وأزمته:
كما سبقت الإشارة، أكد عبد الوهاب البياتي عدم انتمائه لعصر زمني أو مكاني، وأنه قابع هنا وهناك، جوال بين المدن والقرى الإنسانية.
الموت والإنسان من أعماق فطرته، يقدم في سخاء
شاراته الأخوية، الإنسان في ليل الصراعْ
شاراته في ليل (كينيا)، و(المالايو) و(القنال)
في ليل (كينيا) كالشجاعْ
في ظلمة الغابات والمستنقعاتْ 26
لذلك لا زال الشعر يعيش أزمته الداخلية والخارجية، أزمة الشاعر ذاته، لأن:" الشعر يمر بنفس المرحلة التي مر بها الشعر العربي بعد انتهاء مرحلة الخلفاء الراشدين." 27 إذ توقفت مرحلة السكون والأمن المحلي، ليتحول الصراع بين الإنسان والإنسان ماثلا أمام الملإ، ويتحول المر (الشاعر) مناقضا للواقع يعبر عن الذات فقط دون الخوض في الأمور الموضوعية البحتة، أما الأزمة الخارجية، فتتجلى في المتلقي الذي لم يعد يهمه ذاك القول الشعري، وأمام الماديات لم يعد يدرك سر اللغز القولي والكلام الشعري. يقول البياتي:" أحلم بكتابة قصائد جديدة أعبر فيها عن تجارب لم أكتبها بعد، ولم أعبر عنها وهي كثيرة جدا، وتحتاج إلى دافع ومؤثر ووعي عميق لكي تنفجر، فبعضها قد انطمس، وبعضها انطفأ، وبعضها انمحى.. ولكي تعود للحياة لا بد من قوة روحية ضاغطة لكي تعود على الحياة والظهور." 28
خاتمة
إن هذه التجربة الشعرية، جعلت من البياتي يقف موقفا جادا داخل رقعة الشعر العربي الحديث، وقد تجلى ذلك من خلال اهتماماته المتعددة، سواء منها العربية ( الشعر العربي، المؤلفات العربية كالأغاني وكتب التصوف..) والغربية (كالأسطورة اليونانية والشعر الغربي " إليوث"...) والشعر عنده تجربة روحية إنسانية، تنبعث من القلق والعذاب الذاتي لتتشكل الثورة الحقيقة القابعة في كل الذوات العربية، والذوات الأخرى غير العربية التي قد تصل إليها كلماته عبر الترجمة.
صحيح إن الشعر ديوان العرب (كما قيل)، وصحيح إن الشعر ملكوت الأرض الذي يحيي الألباب ويزكي الأطياب ويحلو معه الجلوس والسمر.. والشاعر الحقيقي هو:" الشاعر الذي لا ينشد كتابة الشعر وحسب، بل يبحث أيضا عن وسائل الخلاص للإنسان العربي المستلب المحاصر الذي يقف على أرض محروقة." 29
يقول البياتي:
في أحواض الزهر وفي غابات طفولة حبي، كان
الحلاج رفيقي في كل الأسفار، وكنا نقتسم الخبز
ونكتب أشعارا عن رؤيا الفقراء المنبوذين جياعا
في ملكوت البناء الأعظم، عن سر تمرد هذا
الإنسان المتحرق شوقا للنور، المحني الرأس
إلى السلطان الجائر، كان الحلاج يعود مريضا. 30