2 -1 التعاريف الغربية بين التنظير ومحاولة التأصيل:
لئن كنا قد تعمدنا البدء ببعض الأحكام العربية حول هذا الموضوع، فلأجل إعطاء الأهمية لها على أساس العودة إليها كلما دعت الضرورة، لذا وجب الاستئناس بالمنظرين الغربيين لأنهم أسسوا للعلم من باب إعطاء الفرضيات العلمية والتدليل عليها.
يبدو أن الاستهلال بمثل هذه التعريفات غير ذي جدوى أو على الأقل مبتذلا وذا طابع مدرسي. لأن المناهج الغربية أصبحت متجاوزة معرفيا في نظر الأغلبية، وباتت متجاوزة أيضا في جانبها التطبيقي عند البعض الآخر. لذا يشترط بعد كل تنظير معايشة النص الإبداعي - والشعري المجال الذي نبحث فيه- لتأسيس القول النظري.ولبلوغ كفايتها الإجرائية Perfermonce conceptuelle لا بد من تخطي عتبة التنظير للوصول إلى النص ( وهذا ما سنقوم به لاحقا).
أول ملاحظة يمكن تسجيلها هي تداول مصطلح السيميولوجا Semiologie والسيميوتيقا Semiotique دون اعتبار للفروقات الموجودة بيتهما.
في غالب الأحيان يتم اللجوء إلى أصل المصطلحين ومنشأهما. فيتم إرجاع السيميولوجيا إلى فرنسا على يد فيرناند دوسوسور في (محاضرات في علم اللغة العام (cours de linguistique generale في حين يرد مصطلح السيميوتيقا إلى الأمريكي شارل سندرز برس Sharles S Peirce الذي أطلقها على علم العلامات بعد أن أخضعها لتقسيم منطقي دقيق.
لتحديد كلا المصطلحين عدنا إلى غريماس Greimas بمساعدة تلميذه كورتيس Courtes في معجمهما Semiotique : dictionnaire raisonne de la theorie du langage [1].
مصطلح السيميولوجيا يتم استعماله بالتواتر مع السيميوتيقا ليؤشر على نظرية اللغة وتطبيقاتها على مختلف المجموعات الدالة Ensembles signifiants يعود إلى ف. دو سوسور الذي سماها كذلك قاصدا بها الدراسة العامة لأنظمة العلامات Systemes de signes… من بين كلا المصطلحين اللذين استعملا باختلاف كبير بينهما، بدأ مصطلح السيميوطيقا في لحظة محددة أكثر إيثارا، وهكذا تأسست الجمعية العالمية للسيميوتيقا Association Internationale de semiotique …
وقد نبه إلى مجموعة من المفارقات التي تقع بين المصطلحين، كـأن يقول إن "هلمسليف محافظا على مصطلح سوسور أضفى عليه تحديدا دقيقا فهو يعني بالسيميولوجيا السيميوطيقا الواصفة العلمية Metasemiotique حيث السيميوطيقا – الموضوع semiotique-objet ليست بعلمية: وبهذا الشكل فقد أقصى من مجال السيميولوجيا – من جهة- السيميوطيقا الإيحائية، بمعنى لغات التضمين. ومن جهة أخرى ( أقصى السيميوطيقا الواصفة Metasemiotique والتي هي بالنسبة للسيميوطيقا الموضوع السيميوطيقات العلمية( لغات المنطق مثلا)" [2]
يبدو من هذه التعريفات المقتضبة أن الفرق لا ينجلي بشكل واضح إلا إذا مارسنا سلطة النص وقراءته على ضوئه. لأن الأمر " لا يعني هنا كما يعتقد البعض هيمنة مطلقة للسيميائيات على السيميولوجيا، ولكن شروطا عامة تجري فيها كل ممارسة لها غاية علمية.
تتسع الهوة هكذا بين السيميولوجيا، التي تتخذ بالنسبة لها الألسنة الطبيعية أداة شرح في وصف المواضيع السيميوطيقية من جهة، وبين السيميوطيقا التي تأخذ على عاتقها مهمة أولى هي بناء لغة واصفة خاصة، من جانب آخر." [3]
وقد حملت جملة من المؤلفات تنظيرات لهذا العلم، وتجدر الإشارة إلى انتقال آليات هذا العلم من مجال السرد إلى الشعر. واشتغالنا في هذا المجال لا لإيجابيات في إجراءاته أو سلبيات الأدوات الأخرى، بقدر ما نطمح أن نستغل الجديد فيه، في ما يخص التحولات الدلالية للوصول للصور الشعرية وجمالياتها.
قال بيير غيروPierre Guiraud :" الكلمة علم الدلالة Semantique المشتقة من الكلمة اليونانية Semaino ( دَلَّ على) والمتولدة هي الأخرى من الكلمة Semaأو العلامة هي بالأساس الصفة المنسوبة إلى الكلمة الأصل Semo أو المعنى." [4]
التحولات الدلالية في الشعر
(5)
من هنا نرى أن علم الدلالة منشأه اللغوي من الكلمة اليونانية ، وما دمنا في هذا التحديد فلا بأس أن نمعن النظر في أولية المعنى في التعريف أو بالأحرى المعنى المرادف للفظ في سياقه اللغوي. ونفس الشيء نقوله عن البعد السياقي العام حين نتحدث عن التحولات إذ :" التغير الدلالي هو التغير في المعنى، والقيمة الدلالية لكلمة تكمن في معناها ، ويسعى المرء من ثم إلى تطبيق هذا التغير الدلالي على كل علامة." [1]
فهذا التعريف يعطي الأسبقية في القول بالتحول الدلالي في علم الدلالة وعلى هذا الأساس كان اهتمامنا به وسيلة للبحث والتحليل.
يُعتبَر ميشال بريال اللغوي الفرنسي مؤسس علم الدلالة المتعارف عليه اليوم، وطور بعض العلماء نظريته باستلهام المقومات المنطقية والفلسفية ومحاولة تطبيقها في المجال الإبداعي، نذكر على سبيل المثال أوجدن وريتشاردز الذين أعطيا المسيرة الدلالية أبعادا جديدة من خلال كتابهما المشترك ( معنى المعنى).
والملاحظ أيضا اعتماد ثلة من المنظرين هذه الإواليات لا تمثلا، ولكن أساسا لاستنباط أسس جديدة تخدم النص الأدبي بصفة مباشرة . ومع هذا فمحاولتنا تتغيَّا دائما الإلمام بالموضوع لاستعجال الأجرأة ولنا فيها حديث آخر.
المنطلق الأول الذي تعمده نظرية أو علم الدلالة هو الكلمة المجردة باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه الوظيفة اللغوية. ومن الأمور التي يجب التنبيه إليها - ما دمنا في حقل الدراسة الشعرية- أن المعنى يتشكل من جملة من العبارات التي بدورها تتأسس على المفردات المعجمية.
يعتبر التنظيم داخل الجملة المَعْبَرَ الأول الذي يتيح الفرصة أمام المتلقي لاستبطان المعنى، لذلك المعجم ومنه المعنى اللغوي الأول هو المنبه على الدلالة، في انتظار البحث عن المعنى الموازي. وقد سبق القول
التحولات الدلالية في الشعر
(6)
يقول بيير غيرو في هذا الصدد:" إن علم الدلالة الألسني، كونه علم دلالة بامتياز وغاية هذا الكتاب، يدرس الكلمات داخل اللغة، ما هي الكلمة، وما هي العلاقات التي تربط شكل ومعنى الكلمة وما هي العلاقات بالتالي بين الكلمات كافة، وكيف تضمن هذه الكلمات وظيفتها؟" [1]
لعل هذه الأسئلة وغيرها هي التي تنبهنا إلى ضرورة اكتشاف الفرق اللغوي في المعنى إذ :" إنه ليس من السهل أن نذهب إلى أن الكلمة باستطاعتها أن تكون كوحدة للتحليل الدلالي، حتى وإن استعملها الدلاليون والمعجميون بسهولة، فإن الوصول إلى بحث ملائم لدلالة يقتضي عددا من الاختيارات فيما يخص الصعوبات التي أثيرت آنفا." [2]
إن الموضع الذي تحتله مثل هذه التصنيفات اللغوية ، وإن كان ذا طابع لسني، فإننا نلمس فيه الجانب الذي يوحي بتجنب الترهات التي لا تسلم من مقولات غير سليمة، كاعتماد التحاليل الاعتباطية أو غير المنهجية.
وتغدو في المقابل بعضا من خصوصيات بحثنا في الاتجاه الذي من خلاله يمكننا أن نجد الصياغة السليمة لإيجاد الأسلوب الذي يكتب به الشاعر، أي فنية النص الشعري، ومن ثم المزاوجة بين الجانب الشكلي اللغوي والدلالة التي تختبئ وراءه. وعلم الدلالة بهذا حاول أن يبحث في هذا الجانب لاختصار الهوة الفاصلة بين الكلام العادي والقول الشعري.
يقول رولان بارت:" لم يتسع التركيب لاحتواء مفاهيم أساسية في المنطق ، كالمنطق والتعيين والمعنى الخ… فاتجهت الدراسات نحو علم الدلالة التي صار يدرس علاقة العبارات بالأشياء الخارجية كموضوع مركزي جاعلا من الإشكال اللسني قضيته الأولى." [3]
لكي نجمع بين هذا الشتات المنهجي والتنظير له في هذا الحيز، لابد من التذكير والربط بين أقوالنا هاته وتعريفات المنظرين الكبار من جهة ، وبين الشعر الذي نخصه بالدراسة من جهة أخرى، لنقر مبدئيا بملاءمته للتحولات التي نلامسها في شعر محمد بنعمارة مجالا للتطبيق.
ومن الهام أن ندرك كذلك التقبل الذي تفرضه طبيعة هذا العلم ( علم الدلالة Semantique) بحكم التحولات التي تطرأ على القول الشعري. ومن الأمور اللافتة للانتباه التحولات في المعنى إما داخل النص الشعري الواحد، أو من خلال تتبع النصوص من مرحلة لأخرى. [4]
يبدو أن القول هنا لا زال يتبنى الموقف الأحادي إذ التعريف اللغوي يستند بالأساس إلى اللفظة المفردة، لكن وفي المقابل تتجه التنظيرات اللاحقة إلى إعطاء الأهمية للسياق باعتباره الحامل للمعاني المتحوَّلة.