أحياناً يخترق الشعر أسطح الغيمات وينحرف نحو جهةٍ ما باحثاً عن جرار من النور، يشكِّلُ ما يراه الشاعر من تلألأ نورهِ وحلمه السنوني، كعاشق لابتسامات النجوم ساكباً عليها غضب الوانه المتشابكة مع بقايا من الشمس حين الغروب، تراقفها شهب لامعة لما في نفس الشاعر، واجداً قنواة خالية من رتق الهموم وكأنها مندفعة لجهة فضاء مترع بالبياض، انفلاتاته محملة برموش الغسق وضيوف الصباح تهل مثل الندى على روح قصائده.
الشاعر نمر سعدي وقصيدته (كل هذا البهاء المراوغ حريتي ليس لي) يرسمها على شواطئ أشكاله الفنية بريشة صنعت أليافها من خيوط الشمس الحارقة، قصيدته التي تحمل عنوان طويل تتحرك مع التفاؤل الرمزي، آليتها معاصرة جداً جداً محصنة بخصوبة فكرية ذات قطب واحد في الأسلوب، إنها تعشق النسق الجديد المتماوج بعدد من الأجناس الأدبية، والمستقرَّ على لمحة واحدة، نسقها جديد وجميل يتغذي على العشق للشعر والمفردة، قصيدة لنمر سعدي تتجمل بروح الشاعر وحماسه، نصها الخطابي يعمل على تواصل الزمن المبني على السيطرة ذات مشاع في المفرد، كالفراشة الحزينة دائمة البحث عن مكان جديد لتبدد الآمها، حيث يقول:
( كل هذا البهاء المراوغ حريتي ليس لي) أولاً يحتفي بالبهاء ويوصمه بالمراوغ ومن ثم يقدمه على أنه ليس له، اذا كانت البداية بهذه الصيغة اللافتة والحاملة وعي الخلاص أو البحث عن حضور متفشٍّ للأنا أو الذات الشاعرة، لأنه عندما يوصم البهاء بالمراوغة يعني تأسيس صورة فعلية للحوار الشامل لكل ما في القصيدة المتكونة من ( 95) سطر، أين هي الحرية التي يعتبرها ليس له، هو نفعيٌّ لهذه الدرجة في الاسترسال، وله كمٌّ هائل من القصائد التي على نفس الحجم، الشاعر نمر سعدي كالصقر يصنع له جبال من الشعر ويقول ان الحرية ليست له مع انه في كل قصيدة يضيف له جناحان ويحلق بهما عالياً دون قيد او خوف، قصائده رموزها متنوعة كما في قصيدته، حيث يقول في البداية:
خفقة للكلام البريء على ماء اوجاعنا
شهقة لانتباهات أفراحنا
وشذى مرمري يغلف شهوة اكتوبر
وخريف من الذكريات التي اثقلت
كاهل الطفل في شاعري.
المنجز الشعري عند نمر سعدي الذي يتخطى حدائق الحداثة في طرح تشكيلات متميزة مع ميل قليل لأسطرت العالم ومنهجية الماضي، الشاعر نمر سعدي لا يميل للأحلام، يريد خروجاً مرغوباً فيه، عند نمر سعدي نوع من الاستدلال على المفردة في الشعر وغادياته، له دائماً عودة للنسق الجمالي تبرق جوانبه على باقي الاشرعة المحيطة بحقله الذهني، حقيقة قوله ( الذكريات اثقلت كاهل الطفل في شاعري) غطاء مضمون لمجهوده في البحث عن الانموذج الجدير ببلورة الصورة، انه يتلون بعمق تمهيداً للتغيير المصاحب لحالة الانعتاق، ثم يقول:
الى ما وراء الغد الحلو.......
سحر أزهى الزرافات في سفر تغريبتي
قدر الشعراء.. انفجارات شوقي.. انكسار الحنين
نمر سعدي، لا يعمل على تخريب اللغة في نسج المفردات يحاصرها ويخيط من تجليات معانيها شبكة يصطاد بها عبارات تحمل الايحاءات المسخرة بنظام يطارد النص داخل النص، للأشتقاق عنده لا يوجد تهاون رغم مضايقات الحبكة الشعرية في القصيدة الواحدة، قد يكون مختلف عن الآخر، منسجم مع نفسه، يقول:
غمام أليف وقبرتان تحومان
حول دم لا يرى في مدى اللا مكان
نداء أخير لنظرة قديسة فوق نار الصليب
الشاعر يلعن ضمائر هذا الوطن الغارق في هواجس، أهدافه الهرب والخوف من سعير الحق والاخلاص، نمر يفكر في الفضاء الحالم على وجود أصبح مؤثراً في كل تكوينات الحياة، لذا قد نجد صعوبة في تحليل متغيراته الصامتة وما يبثه من وجع بين ما يوجد من تمزق ملأ جلده بالطعن ومضمونه خالٍ من العصافير والحمام والفراشات، ولا يخلو من وجود الذئاب، وما تحمل أسنانها من دم الابرياء، حيث يقول:
هواء تكسر مثل الزجاج على بحر عينيَّ ملء نهار اللهيب
هوى عشت عشرين عاماً أسائله في الليالي
ولكنه لا يجيب
لغة لا تغير احوالها
وندى يتقطر من لهجة الندليب
تعويض جميل لصورة نقيضة يحمل مشرط نحويتها بقدر خارج عن التحريف بحوافيه الحادة، يسخَر من سيطرة النماذج الرافضة للفعل الواسع ذي المجد العريق، عنبر ركائز الشعر عند نمر سعدي، تعمل على التفتح نحو الامل المصلوب، اما اكتنازات القصيدة تعيش على جمهرة التداول المتقن للصورة المعاصرة مروراً بهواء البحث ونسيج الزمن لتوقيت ثابت للحدث وشد أربطة الوجود الفعلي لمكونات الفكر:
حفيف النوارس ملء الشرايين
والقلب ألف غريب غريب غريب غريب
رؤى تتناسل من سدرة المنتهى كالدموع
جمالية هذه الصورة منسجمة مع عودةِ الأزمنة للموروث والارقام التي عادةً ما تكون آحادية، أما نمر سعدي استعمل الأرقام المزدوجة، أي تكراره أربع مرات مفردة غريب، يعني هذا تمالك في زج الرقم الزوجي في جمرة التمرد، وذكر سدرة المنتهى يتناسل منها الالم، تتخذ شكلها المثمر في غرس الجمالية في الصورة الشعرية ومن ثم كشف المسوغات الذاتية في التحولِّ أيضاً.. يقول:
وتيبس في كف ايزيس مثل المحار الالهي....
مثل ابتسامات سيدة في الثلاثين
تذهل ألف ليوناردوفنشي وتوجعه
مثل سهم يطير الى القلب من فجوة الغيب
انتقل بنا نمر الى الادب العالمي( ايزيس والمحار الالهي وليونارددفنشي وتوجعه) امنيات متجبر يكافئ سنادين ملؤها شهوات فائتة من رحم مقلوب لغربان مضرة ولم يهمل التلوين بالفتح منها ابتسامة امرأة في الثلاثين، مما يعني قمة النضوج المسلوب من حبات حياتنا المتشابكة والمهملة مع انها في قمة أوجها وبحاجة ماسة للمحاولة الجادة في اتخاذ ما يلزم من شأنها، النضوج الذي لنا منه اكثر مما لدى الآخر، نص نمر سعدي يحمل نوعية من السيطرة على تبادل في اللذع من الفكر ولكن من يفهم؟، اشتغالاته متمركزة على كشف القلق والتعتيم لما نملك من امجاد تعبث بها رياح الغدر من الطرفين المسيطرين، أمجادنا تسلق في قدر الزمن وامجاد الآخر تقدم في اطباق من الذهب للتباهي بها، يقول:
والموت في زمن الموت لحنٌ رتيب رتيب
والحان جاز مكسرة كالهواء وموسيقى بوب
وازدحام على شفة الهاوية
وخريف بلا أيِّ عطر وايقونة عالية.
الشاعر نمر سعدي يعتني بوظيفة الابداع الصادرة من وعيه وبكل حرية يكتب ما يشبه الوجدانيات المعذبة والتي تصل اعمق نقطة في أليم جوارحه النفسية، غارقا في الايحاء والاشارة غير المتخمة بالسوداوية العابثة، مستحدثات الشاعر نمر ايحاءات جاءت من تولد الاوجه المتعاقبة للمضمون، ان العملية الشعرية عند نمر سعدي جلَّها تعتمد البحث عن الجديد، ونمر يمدُّ أسلوبه بكل جديد ويعمل على حضور التفجر عنده:
كل ما رف في ماء اجسادنا
كنداء الفراشات في الفجر يصنع في
حضرة الخدر الازلي غواياتنا وانتظاراتنا
لما لا يفسر من شوقنا
سوناتا نمر سعدي تبعث الانتعاش الذي تسود خطواته التحققً، اما ما لا يتفق والسلعة المحترقة من المدح والكذب او ما يحدث مع البعض من مسح العملة لمصلحة التزييف، نمر يقمع الصور الباليه من عمق مجتمع كامل متوغلاً بالدلالات المتعددة، يهتم بما تستوجب اشكاله الجديدة في عملية الذات الواعية، يسعى الى عدم تقلص نقاط الاختلاف وتوصيلها للقارئ، تفاسير قاموسه لها تمايز فيما يدخل نصه حين يدخل الحياة يجاذبه عمل كعمل الحطاب حين يوقد ناره ليتدفأَ، وما يحمل من خبرة بكل انواع الحطب لذا تكون ناره متزنة ولها ادامة حتى بعد ان تصبح جمراً، رمادها لن تهدأ حرارته بسرعة:
كلها.... كل هذا البهاء المراوغ حريتي ليس لي.... ليس لي
كل هذا البهاء المراوغ لك
آه يا شهقة من عبير خضير
تغشي مساءً سراب الفلك
وتسبح في دمنا....
كالمسخ اللزج هذا الوقت المقطوع من ازمنة اعمارنا المفتتة وسيادتها المطعونة طعنة وراء طعنة في غيب الابتذال وتبعية انانيتنا في شبق الأحادية من الحياة، شأنها تكوين طريق الغربة وما يقضُّ مضاجع محارب فقد الطمأنينة، وخلق في افلاكنا السراب، وضعت زمكانية التاريخ في العراء،وأصبح كل ما نملك من سيادة لغيرنا، كأننا بلا فيزيائية او مرجع قديم، نشهد ان نمر يعمل بهذا المجال، حيث يقول:
حرري لغتي من براكينها
حرري رئتي من بكاء الضباب
مرري بسمة فوق ماء الحضور
يسفه التعقيدات ويقدم عقال الشكل في توئيدة مسوغتها تتكفل ببعض التطبيقات المستعملة في الحدث والواقع على الحدث من مجريات، يعطينا تشكيلات لفهم ما يلزم فهمه واسباب ما يراد ان يعرف في منهج خاصٍّ بنمطية تقودهُ في بعض الاحيان للتكرار، يقول:
بؤرة الظلمة الغادرة
تحاصر روحي وتصطادها
ثم تقتلها وحدها... وحدها دونما ذاكرة
ما يمنحه من صناعة لنفسه تجعله محتفظا بمكونات تشبه التاريخ الخارج من تحت تأثير مشاعر عالقة في التجريب، غايته استخدام الوعي المتشكل في ذاتيته، للشعر علاقة بين اللغة والمتعاقب من الافكار عند منتج النص، والتخيل الذي يملكه الشاعر نمر سعدي عبارة عن شحن تفاعله بجهد معني بالواقع، وما يوظِّفه من استدلالات لمرجعياته ال.. غير تقليدية في منح الفكرة صورة جميلة وذات اسلوب مختلف، يقول:
دافعت عن ارض منفاي.... منحة حريتي
قدري المتأرجح ما بين بين
كلما انتحرت بسمة فوق هاوية لشفاهي
تراميت في حضن أخرى وجاملت من دون أي حماس
ورممت اغنيتي مثل ناطحة من عواصف نائمة في الشرايين
ملء عيون الليالي وملء انتباه الفصول
الفرق بين الجميل والقبيح متحركات مشتقة في المظهر المحسوس للصورة الأولية في حسيِّة معرفية مرتبطة بعالم التمظهر والمطروق، يقدم صور مبدعة في الجانبين الروحي والمادي باعتبار ان الاصطدام يشكل قوانين الدوافع المستعان بها والمعايير التي صيغت منها الصورة، الشيء الجمالي في الشاعر نمر سعدي، يقدم عطاء شعري في ازاءات منثورة بينه وبين الآخر، وبينه وبين الواقع، ارتباط منسجم نسيجه الفكري لا يحمل التضارب بل نوعاً من التقارب المشع ليخلق الجمالية في شعره، بمقتضى انساني وجودي يحثُّ على مؤثر رؤياهُ كشاعر، وتنوعه المتغاير هو لازمة لنمر، يقول:
عزلتي في الكلام موزعة
نصفها لابن حيان والنصف الآخر لي
لأبايع زهر السهول
ثم انقض ذاتي مليَّا وأهدي ذئاب الفلا للوعول
طوقنا الشاعر مباشرة بما يسمى باهداف المحاكاة المعقولة من وجهة نظره، انه معذب في مسعاه أمام حاجاتٍ أصلها الصراع ولوحتها الغياب المستمر للمألوف من الجذر، هو مملوءٌ برؤياه ومتقن في التكافئ للملامح يحتويه غليان على المشهد العام للحياة، وصفه ينكب في عروض متفقة واسعة الآفاق، مترامية في الجدية، لبنة تؤسس لاستلهامات معينة، يكتب ليعرف أن أصابعه ما زالت حية وقلبه يموج بالمخاطرة في المجهول، كأنه قارب متجهٌ نحو العمق من البحر يطوف مع حروفه المبجلة متربعا عرش الفضاء، يقول:
هل أقول
انا انزف ياصاحبي السرمدي الهوى بدماء النجوم
بقصائد مخفورة بنداء السديم
باختلاجات زرياب في حضرة العود
طول الدجى والنهار القليل؟
أسئلة عديدة في مجال الذاتية يوجهها لنفسه مع التحايل المعرفي حيث يقدم في ظروف اأحوالها جزء من حضارة البحث وعناصر الاجابة تحيط كل بداية، عندما يذكر انه ينزف موجها لصاحبه الذي يصفه بالسرمدي يكون قد نبش في رصانة احترام الحاضر المتعاقب، نتاج من حكمة مساندة في المعروف من تراكيب التكوين، ظهرت مقتضيات متنوعة من المعارف النافعة وبالعكس قد يحتويها نوع من الإسهاب، كأنه يقول ما هي الحقيقة وأين تكمن بوصفها حقيقة ؟ لنلامس شروطها، وهل الجمال مختنق لهذا الحد بغيب الإبتذال، ثم ينقض على لعبة التمييز كما يقول في آخر مقطع من القصيدة:
آه من سوف يسحبني من حطام المعارك
يمسحني بيد من غد ورياحين ملعونة
ثم يستلني من خطاي كشهقة سيف قتيل؟!
سيادة هذا الزمان تبعية وعملة تحجر سنم اعتابها، اما الواقع قائم رغم اي تفسيرات او اختزال ملتصق باستثمارات هجينة، يعمل نمر على الاستفادة من الموروث والآخر وما بينهما من تواصل في الافكار طارحاً نظرته هو نحو سواحل حدودها الزمن بلا اي تردد يقبل بالمواجهة ولا يحسب حساب لما هو خارج كعب الأقبية التي لا شغل لها غير تفتيت الانسان مهما حاول طائرا نحو الاعلى.
الشاعر نمر سعدي يحتل نوعاً مميزاً من الكتابة في أسلوبه الشعري وجلُّ قصائده تعيش تحت وطأة هاجسه الفكري الحداثوي والمعاصر، تنتابه خاصية لها مؤثرات ونتاجه الأدبي من الشعر نماذجها تتمرَّغ بصوت مرتفع لما يتأمل ويأمل من المشهد العام فنمر سعدي شاعر قد يُلقَّب بالشاعر العام فهو كأنما يستمدُّ قاموسه الخاص من قصائد يحفر لها خنادقَ.. مشارفها لا تعرف حدوداً ومن ثمة يقاتل بنمطية تعطيهِ شهادة الإبداع في إشاعة أحاسيس الشاعر المعاصر العام، وفي نفس الوقت لا بد من العيش مع محيط لا هو رافض للمفردة ولا قابل لوجد مسننٍ على مدرجات الحياة.