قالَ
قُلْتُ
لَوْ لَمْ يَجِبِ الْبَحْثُ عَنْ حَقيقَةِ الْمَجازِ ، وَالْعِنايَةُ بِه ، حَتّى تُحَصَّلَ ضُروبُه ، وَتُضْبَطَ أَقْسامُه ، إِلّا لِلسَّلامَةِ مِنْ مِثْلِ هذِهِ الْمَقالَةِ ( ذم المجاز وتكذيبه ) ، وَالْخَلاصِ مِمّا نَحا نَحْوَ هذِهِ الشُّبْهَةِ - لَكانَ مِنْ حَقِّ الْعاقِلِ أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ ، وَيَصْرِفَ الْعِنايَةَ إِلَيْهِ ؛ فَكَيْفَ وَبِطالِبِ الدّينِ حاجَةٌ ماسَّةٌ إِلَيْهِ مِنْ جِهاتٍ يَطولُ عَدُّها ، وَلِلشَّيْطانِ مِنْ جانِبِ الْجَهْلِ بِه مَداخِلُ خَفيَّةٌ يَأْتيهِمْ مِنْها ، فَيَسْرِقُ دينَهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرونَ ، وَيُلْقيهِمْ فِي الضَّلالَةِ مِنْ حَيْثُ ظَنّوا أَنَّهُمْ يَهْتَدونَ ! وَقَدِ اقْتَسَمَهُمُ الْبَلاءُ فيهِ مِنْ جانِبَيِ الْإِفْراطِ وَالتَّفْريطِ ؛ فَمِنْ مَغْرورٍ مُغْرًى بِنَفْيِه ( المجاز ) دَفْعَةً ، وَالْبَراءَةِ مِنْهُ جُمْلَةً ، يَشْمَئِزُّ مِنْ ذِكْرِه ، وَيَنْبو عَنِ اسْمِه ، يَرى أَنَّ لُزومَ الظَّواهِرِ فَرْضٌ لازِمٌ ، وَضَرْبَ الْخِيامِ حَوْلَها حَتْمٌ واجِبٌ - وَآخَرُ يَغْلو فيهِ وَيُفْرِطُ ، وَيَتَجاوَزُ حَدَّه وَيَخْبِطُ ؛ فَيَعْدِلُ عَنِ الظّاهِرِ وَالْمَعْنى عَلَيْهِ ، وَيَسومُ نَفْسَهُ التَّعَمُّقَ فِي التَّأْويلِ وَلا سَبَبَ يَدْعو إِلَيْهِ . أَمَّا التَّفْريطُ فَما تَجِدُ عَلَيْهِ قَوْمًا في نَحْوِ قَوْلِه - تَعالى ! - : " هَلْ يَنْظُرونَ إِلّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ " ، وَقَوْلِه : " وَجاءَ رَبُّكَ " ، وَ" الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى " ، وَأَشْباهِ ذلِكَ مِنَ النُّبوِّ عَنْ أَقْوالِ أَهْلِ التَّحْقيقِ . فَإِذا قيلَ لَهُمُ : الْإِتْيانُ وَالْمَجيءُ انْتِقالٌ مِنْ مَكانٍ إِلى مَكانٍ ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفاتِ الْأَجْسامِ ، وَأَنَّ - هكذا وصوابها " إِنَّ " - الِاسْتِواءَ إِنْ حُمِلَ عَلى ظاهِرِه لَمْ يَصِحَّ إِلا في جِسْمٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَيَأْخُذُ مَكانًا ، وَاللّهُ - عَزَّ ، وَجَلَّ ! - خالِقُ الْأَماكِنِ وَالْأَزْمِنَةِ ، وَمُنْشِئُ كُلِّ ما تَصِحُّ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالنُّقْلَةُ ، وَالتَّمَكُّنُ وَالسُّكونُ ، وَالِانْفِصالُ وَالِاتِّصالُ ، وَالْمُماسَّةُ وَالْمُحاذاةُ - وَأَنَّ - هكذا وصوابها " إِنَّ " - الْمَعْنى عَلى : إِلّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللّهِ ، وَجاءَ أَمْرُ رَبِّكَ - وَأَنْ حَقَّه أَنْ يُعَبَّرَ ( يفسر ) بِقَوْلِه - تَعالى ! - : " فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبوا " ، وَقَوْلِ الرَّجُلِ : آتيكَ مِنْ حَيْثُ لا تَشْعُرُ ، يُريدُ : أُنْزِلُ بِكَ الْمَكْروهَ ، وَأَفْعَلُ ما يَكونُ جَزاءً لسِوءِ صَنيعِكَ ، في حالِ غَفْلَةٍ مِنْكَ ، وَمِنْ حَيْثُ تَأْمَنُ حُلولَه بِكَ ، وَعَلى ذلِكَ قَوْلُه :
أَتَيْناهُم مِنْ أَيْمَنِ الشِّقِّ عِنْدَهُمْ وَيَأْتِي الشَّقيَّ الْحَيْنُ مِنْ حَيْثُ لا يَدْري
نَعَمْ ، إِذا قُلْتَ ذلِكَ لِلْواحِدِ مِنْهُمْ رَأيْتَه إِنْ أَعْطاكَ الْوِفاقَ بِلِسانِه ، فَبَيْنَ جَنْبَيْهِ قَلْبٌ يَتَرَدَّدُ فِي الْحَيْرَةِ وَيَتَقَلَّبُ ، وَنَفْسٌ تَفِرُّ مِنَ الصَّوابِ وَتَهْرُبُ ، وَفِكْرٌ واقِفٌ لا يَجيءُ وَلا يَذْهَبُ ، يُحْضِرُهُ الطَّبيبُ بِما يُبْرِئُه مِنْ دائِه - هكذا وكأن الصواب " ما " من دون الباء - وَيُريهِ الْمُرْشِدُ وَجْهَ الْإِخْلاصِ مِنْ عَمْيائِه ، وَيَأْبى إِلّا نِفارًا عَنِ الْعَقْلِ ، وَرُجوعًا إِلَى الْجَهْلِ ، لا يَحْضُرُهُ التَّوْفيقُ بِقَدْرِ ما يَعْلَمُ بِه أَنَّه ( المفرِّط ) إِذا كانَ لا يَجْري في قَوْلِه - تَعالى ! - : " وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ " ، عَلَى الظّاهِرِ ، لِأَجْلِ عِلْمِه أَنَّ الْجَمادَ لا يُسْأَلُ - مَعَ أَنَّه لَوْ تَجاهَلَ مُتَجاهِلٌ ، فَادَّعى أَنَّ اللّهَ - تَعالى ! - خَلَقَ الْحَياةَ في تِلْكَ الْقَرْيَةِ حَتّى عَقَلَتِ السُّؤالَ ، وَأَجابَتْ عَنْهُ وَنَطَقَتْ ، لَمْ يَكُنْ قالَ قَوْلًا يَكْفُرُ بِه ، وَلَمْ يَزِدْ عَلى شَيْءٍ يُعْلَمُ كَذِبُه فيهِ - فَمِنْ حَقِّه أَلّا يَجْثُِمَ ها هُنا عَلَى الظّاهِرِ ، وَلا يَضْرِبَ الْحِجابَ دونَ سَمْعِه وَبَصَرِه ، حَتّى لا يَعِيَ وَلا يُراعِيَ ، مَعَ ما فيهِ ، إِذا أُخِذَ عَلى ظاهِرِه ، مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْهَلاكِ وَالْوُقوعِ فِي الشِّرْكِ . فَأَمَّا الْإِفْراطُ فَما يَتَعاطاهُ قَوْمٌ يُحِبّونَ الْإِغْرابَ فِي التَّأْويلِ ، وَيَحْرِصونَ عَلى تَكْثيرِ الْوُجوهِ ، وَيَنْسَوْنَ أَنَّ احْتِمالَ اللَّفْظِ شَرْطٌ في كُلِّ ما يُعْدَلُ بِه عَنِ الظّاهِرِ ، فَهُمْ يَسْتَكْرِهونَ الْأَلْفاظَ عَلى ما لا تُقِلُّه مِنَ الْمَعاني ، يَدَعونَ السَّليمَ مِنَ الْمَعْنى إِلَى السَّقيمِ ، وَيَرَوْنَ الْفائِدَةَ حاضِرَةً قَدْ أَبْدَتْ صَفْحَتَها وَكَشَفَتْ قِناعَها ، فَيُعْرِضونَ عَنْها حُبًّا لِلتَّشَوُّفِ ، أَوْ قَصْدًا إِلَى التَّمْويهِ وَذَهابًا فِي الضَّلالَةِ . وَلَيْسَ الْقَصْدَ ها هُنا بَيانُ ذلِكَ ، فَأَذْكُرَ أَمْثِلَتَه ، عَلى أَنَّ كَثيرًا مِنْ هذَا الْفَنِّ مِمّا يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِه لِسُخْفِه . وَإِنَّما غَرَضي بِما ذَكَرْتُ أَنْ أُرِيَكَ عَظيمَ الْآفَةِ فِي الْجَهْلِ بِحَقيقَةِ الْمَجازِ وَتَحْصيلِه ، وَأَنَّ الْخَطَأَ فيهِ مُوَرِّطٌ صاحِبَه ، وَفاضِحٌ لَه ، وَمُسْقِطٌ قَدْرَه ، وَجاعِلُه ضُحْكَةً يُتَفَكَّهُ بِه ، وَكاسيهِ عارًا يَبْقى عَلى وَجْهِ الدَّهْرِ ، وَفي مِثْلِ هذا قالَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : " يَحْمِلُ هذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدولُه ، يَنْفونَ عَنْهُ تَحْريفَ الْغالينَ ، وَانْتِحالَ الْمُبْطِلينَ ، وَتَأْويلَ الْجاهِلينَ " ، وَلَيْسَ حَمْلُه رِوايَتَه وَسَرْدَ أَلْفاظِه ، بَلِ الْعِلْمُ بِمَعانيهِ وَمَخارِجِه ، وَطُرُقِه وَمَناهِجِه ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْجائِزِ مِنْهُ وَالْمُمْتَنِعِ ، وَالْمُنْقادِ الْمُصْحِبِ ، واَلنّابِي النّافِرِ . وَأَقَلُّ ما كانَ يَنْبَغي أَنْ تَعْرِفَهُ الطّائِفَةُ الْأولى وَهُمُ الْمُنْكِرونَ لِلْمَجازِ ، أَنَّ التَّنْزيلَ كَما لَمْ يَقْلِبِ اللُّغَةَ في أَوْضاعِهَا الْمُفْرَدَةِ عَنْ أُصولِها ، وَلَمْ يُخْرِجِ الْأَلْفاظَ عَنْ دَلالَتِها ، وَأَنَّ شَيْئًا مِنْ ذلِكَ إِنْ زيدَ إِلَيْهِ ما لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، أَوْ ضُمِّنَ ما لَمْ يَتَضَمَّنْهُ ، أُتْبِعَ بِبَيانٍ مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! وَذلِكَ كَبَيانِه لِلصَّلاةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكاةِ وَالصَّوْمِ - كَذلِكَ لَمْ يَقْضِ بِتَبْديلِ عاداتِ أَهْلِها ، وَلَمْ يَنْقُلْهُمْ عَنْ أَساليبِهِمْ وَطُرُقِهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ ما يَتَعارَفونَه مِنَ التَّشْبيهِ وَالتَّمْثيلِ وَالْحَذْفِ وَالِاتِّساعِ . وَكَذلِكَ كانَ مِنْ حَقِّ الطّائِفَةِ الْأُخْرى أَنْ تَعْلَمَ أَنَّه - عَزَّ ، وَجَلَّ ! - لَمْ يَرْضَ لِنَظْمِ كِتابِهِ الَّذي سَمّاهُ هُدًى وَشِفاءً ، وَنورًا وَضِياءً ، وَحَياةً تَحْيا بِهَا الْقُلوبُ ، وَروحًا تَنْشَرِحُ عَنْهُ الصُّدورُ - ما هُوَ عِنْدَ الْقَوْمِ الَّذينَ خوطِبوا بِه خِلافُ الْبَيانِ ، وَفي حَدِّ الْإِغْراقِ وَالْبُعْدِ مِنَ التِّبْيانِ ، وَأَنَّه - تَعالى ! - لَمْ يَكُنْ لِيُعْجِزَ بِكِتابِه مِنْ طَريقِ الْإِلْباسِ وَالتَّعْمِيَةِ ، كَما يَتَعاطاهُ الْمُلْغِزُ مِنَ الشُّعَراءِ وَالْمُحاجي مِنَ النّاسِ . كَيْفَ وَقَدْ وَصَفَه بِأَنَّه عَرَبيٌّ مُبينٌ ! هذا وَلَيْسَ التَّعَسُّفُ الَّذي يَرْتَكِبُه بَعْضُ مَنْ يَجْهَلُ التَّأْويلَ مِنْ جِنْسِ ما يَقْصِدُه أُولُو الْأَلْغازِ وَأَصْحابُ الْأَحاجيِّ ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ كُلِّ طَريقٍ ، وَيُبايِنُ كُلَّ مَذْهَبٍ ، وَإِنَّما هُوَ سوءُ نَظَرٍ مِنْهُمْ ، وَوَضْعٌ لِلشَّيْءِ في غَيْرِ مَوْضِعِه ، وَإِخْلالٌ بِالشَّريطَةِ ، وَخُروجٌ عَنِ الْقانونِ ، وَتَوَهُّمُ أَنَّ الْمَعْنى إِذا دارَ في نُفوسِهِمْ ، وَعُقِلَ مِنْ تَفْسيرِهِمْ ، فَقَدْ فُهِمَ مِنْ لَفْظِ الْمُفَسَّرِ ، وَحَتّى كَأَنَّ الْأَلْفاظَ تَنْقَلِبُ عَنْ سَجيَّتِها ، وَتَزولُ عَنْ مَوْضوعِها ، فَتَحْتَمِلُ ما لَيْسَ مِنْ شَأْنِها أَنْ تَحْتَمِلَه ، وَتُؤَدِّي ما لا يوجِبُ حُكْمُها أَنْ تُؤَدِّيَه !
إن هذه الكلمة دستور بابها ، ومسك كتابها ؛ فإن بطالب كل شيءٍ كل شيءٍ ، لحاجةً إليها ماسَّةً ؛ فلا يخلو علاج الإنسان أمرا حوله أو في نفسه ، من تجاذب طرفي التفريط والإفراط ، فإما سلم بالتوسط ، وإما هلك بغيره ؛ عافيتَك ، اللهم !
ثم كأنك - يا سيدنا - إنما مَثَّلْتَ التفريط دون الإفراط ، بظهور دواعيه على آيات التجسيم ، فأما الإفراط فلا يحده حد ، بل لا تكاد تخلو منه عند أصحابه آية ، بل ربما فَجَأَ قارئه من حيث لا يحتسب ، ثم هو تغلب عليه الكُفْريّات ، غلبتها على أهله !
ثمت ليت الدكتور نجيب البهبيتي - رحمه الله ! - ذكر بكتابه الجليل " المدخل إلى التاريخ والأدب العربيين " ، كلام سيدنا في استمرار معالم العروبة في العرب بعد إسلامهم ، إذن لقام في شواهده شاهدًا شاهقًا سامقًا !
ثمت آه ! ما أفضح آخر كلمة سيدنا هذه الجليلة ، لخبايا كثير من أعمالنا هذا الزمان ؛ نضرب في شرح الكلام كل جهة ، ظانين أننا إذا ما أفهمنا المتلقين كلامنا فإنه هو المراد من المشروح !
ثمت بمثل هذه الكلمة يجتمع كتابا سيدنا الدلائل والاسرار ، على قلب عمل واحد .