ما الحاجة إلى الرواية ؟ مسائل الرواية عندنا
تهتمّ هذه الدراسة برسم بعض الملامح العامة المميزة للأدب الروائي الحديث بالمغرب، ووصف
تلويناته السردية والحكائية ؛ كما تقدم اختيارا في التصوّر وصياغة المسلمات وفق فرضية أولية :
النظر إلى الخصوصية النصية نفسها من زاوية تشكل منحاها الحكائي ، والوقوف عند ما يميّز تجربة الكتابة في اتصالها الدائم والمباشر بأسئلة الواقع واليومي والتاريخ والأسطورة والتراث والعجائبي وغيرها من السياقات والمنظورات .
لا ينفصل ، إذن ، تشكّل المنحى الحكائي للنص عن أسئلة الكتابة وتماسّها مع إشكالات التجربة والمعرفة . ولذلك ، فإن قراءة الرواية المغربية، من هذه الزاوية ، تسمح باعتبار المنحى الحكائي أحد إمكانات التفكير في إجراءات الكتابة الروائية وقدرتها على التشخيص والانتقاد ، أو التمثل والاستغراق والاستيحاء .
بهذا المعنى ، فإن مختلف القضايا التي تثيرها التحليلات اللاّحقة تستأثر بالاهتمام حين تدرج الوعي بأسئلة القراءة وأسئلة الكتابة ضمن سيرورة وصيرورة الفعل الثقافي والفكري على نحو عام . وهذا ما يجعل خطاب الحكاية شكلا من أشكال خطابات المعرفة التي تنتجها المجتمعات المعاصرة باختلاف الأزمنة والأمكنة وآفاق التخييل …
من هنا، تتجه هذه المباحث إلى قارئها بوصفها قراءة شخصية.
قراءة شخصية بمعنى: قراءة تكتفي بلفت الانتباه في عبارة موجزة، تعلق حينا وتنصت أحيانا أخرى. إنها قراءة عاكسة لمواقف آتية من آفاق أدبية وثقافية وفكرية متنوعة، وتحمل من الأسئلة الظاهرة أكثر من الأجوبة المعلنة .
قراءة شخصية بمعنى: قراءة كاتب رأي أدبي تطمح أن تساهم في إظهار بعض التصورات المصاحبة لقصد الكتابة الأدبية.
قراءة شخصية بمعنى: حوار منفتح على فكرة أو انطباع ذاتي قد لا تكون له أية قيمة على الإطلاق ، وقد يخطئ التقدير كذلك ؛ بيد أنه يقترح النظر إلى بعض السمات العامة لسؤال الكتابة والقراءة وعلاقتها بأشكال النصوص وتنوّع الموضوعات والأساليب .
قراءة شخصية بمعنى: يوميّات للقراءة لا حدود لها نظريا وتتحرّك بين عدة مقولات ونصوص. هل هي تأريخ يوميّ للقراءة ؟ وهل كتابة سيرة للقراءة أمر ممكن ؟
من يراهن ؟
*صدر الكتاب عن دار الثقافة 2008
ـــــــــــــــــــــــ
عبد اللطيف محفوظ:
وظيفة الوصف في الرواية
بعد أن صدرت بداية يناير الطبعة العربية لكتاب الناقد المغربي عبد اللطيف محفوظ " وظيفة الوصف في الرواية" عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت ومنشورات الاختلاف بالجزائر، صدرت بتزامن مع المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء الطبعة المغربية عن منشورات سرود التابعة لمختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الانسانية بنمسيك الدار البيضاء. وتعتبر هذه الطبعة الثالثة وفق ترتيبها الزمني. وقد كتب الناقد شعيب حليفي للطبعتين العربية والمغربية مقدمة ركز فيها على أهمية الكتاب في سياق تطور النقد المغربي وسياق تطور تفكير الناقد بالعمل النقدي. من أهم ما جاء فيها:
"يخوض النقد المغربي مغامرات شتى لفائدة التعبير الإنساني، بمختلف ألوانه، بحثا عن ملء مساحات الصمت والإخفاء المدثرة بالمجازات و التقنيات الفنية المتعددة.. وذلك في سبيل صوغ أدوات نقدية، تكرس وضعا اعتباريا مميزا، وتمتلك سلطة ثقافية، تؤهلها للدخول مع كل العلامات الإبداعية، على تنوعها، في تفاعل خلاق ومنتج،عبر عدد من الاستراتيجيات.. بغية الوصول إلى تحقيق نماذج خلاقة تكتسب الكثير من سمات الأصالة التي تعني القدرة على الصمود في الزمن.
وقد تأتى ذلك لبعض التجارب، بفضل تمثلها الجيد للتصورات والنظريات الأساسية ذات الخلفيات الفلسفية الواضحة، وأيضا بفضل إيلائها الأهمية القصوى للنصوص الإبداعية التي اختارت مقاربتها..
ضمن هذا الاختيار، عرف النقد المغربي اعتمال حركات شتى ودينامية في بناء وتطور خطابه، ساهمت فيها عوامل متحركة ولا محدودة، منها حركات التثاقف والإبداع، إلى جانب دور المؤسسات العلمية والثقافية في انطلاق النقد، والذي ظل مرتبطا بالأفق الحداثي لرسم أثر واضح في الحركة الثقافية بعامة. الشيء الذي مكنه من الانفلات من التبعية والانغلاق، ومن التعالي عن الشرح، و من الاستقلال بخصوصياته،
ويحفل النقد الأدبي بالمغرب بإيماضات تحبل بوعي نقدي، ممتلئ بجينات استمرارية خطابه ورؤيته. وهو الأمر الذي نلمحه في تآليف نقدية تأسيسية مرت عليها عقود زمنية وما زالت فاعلة، ملهمة وقادرة على إثراء القراءة والنصوص والأسئلة.. مع اليبوري وبرادة وكليطو ومفتاح وغيرهم.
ولعل الكتاب الذي أصدره عبد اللطيف محفوظ قبل حوالي عقدين تحت عنوان ( وظيفة الوصف في الرواية)،يدخل في هذا الإطار، ويعبر بإلحاح، أثناء قراءته في طبعته هذه - التي فضل الكاتب الاحتفاظ بها كما صدرت في الأولى - عن ملمحين أساسيين:
الأول : راهنية الرؤية النقدية التي صدر عنها، سواء على مستوى صوغ الجمل النقدية، المنمذجة لنوع مخصوص من الحجاج المتمثل في التدرج المنطقى، خاصة في بناء التصورات النظرية التي احتفل بها الكتاب. أو على مستوى موضوع الكتاب، الذي تمثل في الانشغال بالحفر في جزئية دينامية هي (الوظيفة)، الفاعلة في مكون ( الوصف )، الذي تكمن أهميته في كونه حاضرا بالضرورة في كل أشكال التعبير الممكنة، سواء كانت تخييلية أو تجريدية أو تواصلية عادية... أو على مستوى بناء التحليل، الذي يصدر عن رؤية علمية رصينة ومتحررة من الصرامة الجافة، ورافضة للتعميمات والتقييمات الجزافية التي يغري بها، عادة، مجال السرد.
ثانيا: يستدعي هذا الكتاب الربط بين ما تضمنه من أفكار ومناقشات وأشكال بناء التصورات ،وما سيقدمه عبد اللطيف محفوظ لاحقا في التسعينيات من القرن الماضي من دراسات وبحوث ضمن الحلقات العلمية لمختبر السرديات، أو في مؤتمرات وندوات داخل المغرب وخارجه، وما سنقرأه له في المجلات والمواقع و في مؤلفيه الأخيرين ( آليات إنتاج الخطاب الروائي "نحو تصور سيميائي"). و (المعنى وفرضيات الإنتاج) حيث يؤكد الربط أهمية كتاب ( وظيفة الوصف في الرواية) في تفسير خلفية توجهاته النقدية الحالية، وتسليط الكثير من الضوء على ما يبدو غامضا من أعماله. وخصوصا على ما اشتغل عليه الناقد لاحقا، سيما في مجال التحليل السيميائي. الشيء الذي يؤكد أنه ينطلق دائما من فهم متقدم ويشغل أدوات تنتمي إلى صياغاته الحاملة باستمرار لإرهاصات أخرى قادمة."
* * *
شعيب حليفي في كتاب جديد:
مرايا التأويل
تفكير في كيفيات تجاور الضوء والعتمة
صدر عن دار الثقافة 2009 كتاب نقدي جديد لشعيب حليفي بعنوان :" مرايا التأويل ، تفكير في كيفيات تجاور
الضوء والعتمة " وهو من ثلاثة فصول : الفصل الأول بعنوان صور التاريخ في النسيان ، فيما الفصل الثاني جاء بعنوان : سيرورة التخييل .الفصل الثالث حول سماد الحكاية .
ومما جاء في مقدمة هذا الكتاب :..تصبح الرواية، في هذا السياق العنيف والمُعَبر، مرآة صوفية للمعرفة الإنسانية والإضاءة والتفكيك والمتعة، من خلال إمكاناتها التخييلية واللغوية من جهة، وقدرتها من جهة أخرى،في الانفتاح على سجلات وعلامات وحقول من أجل تشكيل الرومانيسك، من الذات والمجتمع والتاريخ عبر توظيف بنيات وأساليب ولغات من خطابات وأشكال أخرى.
إن الرواية، وهي نص لغوي تخييلي مركب بمرجعيات وتيارات، لا يمكن أن تحيا وتتطور وتستمر دون مد جسورها عموديا وأفقيا، في علاقات مفتوحة وأحيانا سوريالية، مع كل شيء لغوي ورمزي؛ لذلك فإن النص الروائي يرتبط على الأقل بمجموعة عناصر تعمل على تشكيل متخيله والتنويع عليه. فالآخر والذات والتاريخ والمجتمع واللغة...عناصر يتحكم فيها الاصطدام وبناء الصورة والمثاقفة ومساءلة الذات والأنساق التاريخية والمعطيات والتبدلات الحاصلة في القيم والسلوكات والعلاقات والرؤى داخل المجتمع، وما رافق كل ذلك من تطويع للغة ودلالاتها.
وتؤسس الرواية، في هذا الإطار للأفق المغاير، وهي أثرغميس من الهدم والبناءات المتراكبة هندسيا بلعبة لا يعرف أسرارها سوى الروائي الذي يقدم تأويلاته وتفسيراته حول جزء من هذه العملية حينما يوحي بمرجعياته أو يوهم ببعض عناصرها للمتلقي، ما دام كل قول وتعبير أو كل نص عموما هو نتيجة امتصاص وتحويل لنص أو نصوص أخرى.
وتكشف الرواية العربية، مع كل نص جديد، عن الدينامية والتجديد، والتنوعات الجذرية لبنيات السرد، لأن الرواية بدورها، جنس تعبيري، يبحث عن أفق مختلف ينزع نحو خلخلة المكرس والمعطى والرسمي والمألوف، وكل ذلك لا يتأتى إلا بالمزيد من البحث والمغامرة ونزع القدسية عن تاريخ نفقت بداخله وترسبت كل التصدعات والهزائم والأكاذيب.
إن الرواية بمعنى ما، هي بحث عن فهم "كلي" وسعي إلى التعبير عن شتات الواقع وتشظيه، تتخذ كل أشكال الروح في تبدل حالاتها، طموحا منها إلى الملحمية لاكتساب هوية كونية، عابرة للقارات والأفكار والأجناس. من تم فإن ارتباطها - وهي جنس تخيلي بامتياز - بتنويع أشكالها والتجريب المستمر، وبحميمية الذاتي والمجتمعي والتاريخي، منحها "حقا مقدسا" في توسيع حقول استثمارها، وصولا إلى دفع التخييل إلى التخفي في القول، والتعبير عن هوية الدلالات المفقودة بصيغ جديدة، وهي "لا تحقق وجودها إلا عندما تصبح تلك المرآة التي تندس في تضاعيف النفس ملتقطة دبدباتها الكامنة"(1)، وفي تفاصيل المرئي الجزئي والكلي، وفي اللامرئي والمحتمل والغيبي والنسبي والمطلق والواقعي..