المتتبع للسياسة التركية حيال سوريا، تسكنه القناعة بان أنقرة بدأت منذ مؤتمر أنطاليا، تتعامل مع «سوريا ما بعد الأسد»، على الرغم من أن الخطاب الرسمي التركي لم ينطق بعد بأي «جملة مفيدة» تعكس هذا المعنى، فيما السلوك الدبلوماسي التركي ما زال محافظاً على «أدبيات» التعامل مع «الحكومة الشرعية» في سوريا، ويتواصل معها، عبر القنوات المعتادة وغير المعتادة.

هذا ما انتهت إليه السياسة التركية، بعد أشهر أربعة حافلة بالصدامات والاحتجاجات والتظاهرات وأزيد من ألف وخمسمائة شهيد، وعشرات ألوف الجرحى والمعتقلين والمهجرين أو اللاجئين، داخل وطنهم وإلى دول الجوار القريبة.

تشاء الصدف، أن أكون في أنقرة واسطنبول، مع اندلاع شرارة الأحداث السورية في المنقلب الثاني من شهر آذار / مارس الفائت...وتشاء الصدف أن أكون في عداد وفد عربي أكاديمي/ حزبي / زائر لتركيا لقراءة ما يمكن وصفه بـ»دروس التجربة التركية»، ما أتاح لي فرصة اللقاء بعشرات المثقفين والأكاديميين والنواب والناشطين والمسؤولين الأتراك في أسبوع واحد حافل فقط...وكان من الطبيعي أن تحتل أحداث سوريا درجة متقدمة في أحاديثا مع مضيفينا الأتراك، نظراً لمركزية وضع سوريا عندنا وعندهم على حد سواء.

يومها، بدت أنقرة، وحزب العدالة والتنمية، في ذروة القلق والاستياء...النظام السوري لا يتحرك كما ينبغي على طريق الإصلاح...النظام يدير ظهره للنصائح المخلصة التي تأتيه من أصدقائه وحلفائه والغيورين على مصالح سوريا...النظام السوري يطلق الوعود البرّاقة من جهة ويطلق أيدي قواته الأمنية والعسكرية، لقمع الانتفاضة والمنتفضين من جهة ثانية.

أجزم أن أنقرة، لم تكن راغبة – ولا مصلحة لها – في تطور الأحداث السورية وانتقالها إلى ما آلت إليه...أقطع بأن قيادة حزب العدالة والتنمية، كانت ترغب في أن ترى الرئيس السوري، يتولى بنفسه، وشخصياً، قيادة دفة السفينة السورية إلى بر الأمان، وبر الأمان هنا، له مرسى واحد: الإصلاح السياسي الشامل والعميق، والتحول الديمقراطي ذي الاتجاه الواحد، غير القابل للنقض والتراجع وغير الخاضع لبازار السياسة وتقلّباتها.

ولقد استعجلت القيادة التركية، نظيرتها السورية، لأخذ زمام المبادرة، وإطلاق ورشة التحولات والإصلاحات، ووعدت بوضع كل ثقل تركيا تحت تصرفها، إن هي قررت ولوج هذا الطريق، وهي في كل هذا وذاك، لم تكن تصدر عن موقف «أخلاقي وقيمي مجرد»، بل تعبر عن عميق مصالحها، وتدافع عن أمن تركيا واستقرارها ومستقبلها هي بالذات.

لم تكن القيادة التركية على استعداد للمقامرة برصيد هائل أنجزته العلاقات التركية السورية، في ظل حكم الرئيس بشار الأسد، حيث انتقلت العلاقة بين أنقرة ودمشق، من حال إلى حال...صحيح أن الأسد الأب الراحل هو من طوى صفحة الخلاف مع تركيا، وأنه هو من أبرم «إتفاق أضنة» الذي أنقذ البلدين الجارين والشقيقين من خطر الانزلاق إلى حرب دامية، لكن الصحيح كذلك، أن هذه العلاقات في عهد الأسد الإبن، تطورت على نحو لم يكن يخطر على بال، وفي شتى المجالات والميادين، والأهم، أنها كانت مفتوحة على شتى الفرص والإمكانيات المستقبلية.

لم تكن تركيا راغبة في فقدان شريك بات – استراتيجيا – في السياسة والأمن والتجارة والسياحة والمشاريع المشتركة...لكنها لم تكن أيضا في وارد المقامرة بكل منظومة المصالح هذه، كرمى لعيون نظام أصر على انتهاج «الحل الأمني» حتى النهاية، وعندما لاحت في الأفق، إرهاصات هزيمة هذا الخيار، ذهب إلى «الحل العسكري» مع أن كل أصدقاء سوريا وحلفائها والغيورين عليها، ألحوا عليه أن يجرب ولو لمرة واحدة، «الحل السياسي» المخلص والنزيه.

هنا، وعند هذه النقطة بالذات، بدا أن الوضع الداخلي في سوريا يتجه لا للمقامرة بكل ما أنجزته العلاقات التركية – السورية منذ «أضنة 1997» فحسب، بل ويذهب باتجاه «المسّ» بصميم مصالح تركيا وحسابات الأمن القومي الناظمة لحركتها وحراكها...هنا، وهنا بالذات، بدا أن الملف السوري المتفجر، سوى يفتح ملفات تركية عديدة، تجهد أنقرة لتفادي فتحها...من الملف الكردي الضاغط، إلى ملف «الأقليات عموماً»، إلى تداعيات الاشباك «القاري» بين السنة والشيعة، فضلا عن حسابات الأمن والحرب على الإرهاب و»الوحدة الوطنية» إلى غير ما هنالك.

لقد بدت أنقرة «مصدومة» بإطلالة شبح «الفوضى» و»المجهول» على جارتها الجنوبية...ما قد يحمل في طيّاته مخاطر انتقال شرارات الأزمة وعدواها إلى الداخل التركي ذاته، سيما وأن الروابط الجغرافية والديمغرافية التي تربط سوريا بتركيا، أقوى من أن تجعل «النخب السياسية والأمنية التركية» مطمئنة إلى المستقبل.

وكأي دولة في هذا العالم، ينطلق «تفويضها» الأساسي من مسؤوليتها في حفظ أمنها واستقرارها ووحدة شعبها وترابها، وصون مصالحها القومية العليا، بدأت تركيا تسبر أغوار مرحلة «ما بعد الأسد»، وتتعرف عن كثب على هوية القوى التي قد تشكل ذات صباح قريب، النظام البديل للنظام القائم في دمشق، بدا أن تركيا لا تريد أن تؤخذ على حين غرة، وهي التي حصلت على موطئ في سوريا الأسد، تريد أن تحافظ على هذا «الموطئ» وأن توسع رقعته في «سوريا ما بعد الأسد»...من هنا انطلقت الانتقادات التركية اللاذعة للنظام في دمشق، ومن هنا بدأت فكرة الانفتاح على المعارضة السورية...ومن هنا تطور الموقف إلى دعم المعارضة وتنسيق جهودها وتعزيز كفاءتها كما تبدى في المؤتمر الثالث لها في اسطنبول المنعقد هذه الأيام.

لقد فعلت تركيا ما يتعين على أية دولة في موقعها أن تفعله...فهذا البلد يقدم نفسه على أنه «نموذج» في الانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية، ومن الطبيعي أن يدافع عن الديمقراطية في المنطقة والعالم...وأنقرة دفعت ثمناً باهظاً من رصيدها عندما ترددت لأسابيع قليلة في الانحياز إلى جانب ثورة الشعب الليبي، وقد فعلت ما يمكن فعله لتدارك هذا الخطأ ومحو آثاره...وكان طبيعياً أن تتلافى «مد اليد إلى ذات الجحر الذي لدغت منه مرتين»...وتركيا التي تقدم نفسها كشقيقة كبرى لدول المنطقة، ولديها مسؤولية تاريخية حيال شعوبها، لا يمكن لها أن تجلس على «مقاعد النظّار والمشاهدين» فيما ألوف اللاجئين يعبرون الحدود صوبها، ومئات القتلى والجرحى والمعتقلين يتساقطون بصورة يومية...وفي ظني أن النظام السوري عجز عن فهم كنه «نظرة تركيا لنفسها»، وبدل أن يتجاوب مع بعض نصائحها المخلصة، حرك ماكينته الإعلامية للحديث عن «الغدر التركي»، وبصورة تذكر بحديث نظام صدام حسين عن «الغدر الإيراني» الذي لم يقابل يده الممدودة لطهران عشية حرب 2003، ضارباً – النظام السورية - عرض الحائط، بتلال التصريحات والبيانات المُمَجّدة بتركيا و»العدالة والتنمية» و»الطيب أردوغان».

إن كان هناك من يتعين إلقاء اللائمة عليه فيما آلت إليه العلاقة بين دمشق وأنقرة، فهو النظام السوري، الذي لم تصله بعد أنباء «إنهيار جدران السيادة الوطنية»، وسقوط نظرية «اليد الطليقة في حكم البلاد والعباد» بحجة «السيادة الوطنية»، فنحن في زمن، تكاد تمّحي فيه الفواصل والتخوم، بين الوطني والإقليمي والدولي، وما كان يعد «شأناً داخلياً» من قبل، بات اليوم مسألة أمن إقليمي وموضع بحث واهتمام دوليين، وهذه ربما مسألة ثانية، أخطأ النظام السورية في إدراك كنهها، فخسر صديقاً كبيراً وحليفاً استراتيجياً.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور