تجري اسرائيل استعداداتها لمواجهة «استحقاق أيلول» على شتى الصعد ومختلف المسارات...لم تبق سلاحاً سياسياً وحقوقياً واعلامياً الا واستخدمته...لم تدخر وسيلة ابتزاز وضغط الا ولجأت اليها أو لوّحت بها...لم تترك حليفاً أو صديقاً، أو حتى مشروع حليف أو مشروع صديق، الا وتوجهت اليه طالبة تصويته بلا لمشروع القرار الذي يعترف بدولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران 67.

لكن ذلك على ما يبدو، ليس كافياً من وجهة نظر «نظرية الأمن الاسرائيلية»...فالاستعدادات الميدانية تجري على قدم وساق، لمواجهة ما تعتقد اسرائيل بأنه «انتفاضة ثالثة محتملة» ستندلع في توقيت متزامن، داخل الضفة والقدس، وعبر الحدود السورية واللبنانية، تستلهم «ربيع العرب» وتنسج على منوال مسيرات حق العودة، ولكن بمشاركة جماهيرية أوسع نطاقاً...والتقارير الواردة من اسرائيل تتحدث عن قوات تحشد وتدرب، وأسلاك شائكة تزرع...وأسوار وحواجز طبيعية واصطناعية تُنشر وفقاً للخريطة الأمنية الاسرائيلية...فيما المستوطنات تتحصّن والمستوطنون يتسلحون...وأطواق العزلة المضروبة حول القدس وما بين أحيائها، تشتد باحكام كما لم يحصل من قبل.

وبرغم أن ليس ثمة في الأفق القريب ما يشي بقرب اندلاع «انتفاضة ثالثة» أو حدوث زحف بشري هائل، عابر للحدود، من مخيمات الشتات وحلفائها وأصدقائها صوب فلسطين...الا أن اسرائيل تتصرف مع هذا «السيناريو» وكأنه واقعٌ غداً...وهي تكاد تعيش أجواء حرب استباقية غير معلنة، لكأن القوم لا يريدون ترك شيء للصدف أو المفاجأة.

مثل هذا السلوك الاسرائيلي المعبر أفضل تعبير، عن قلق تل أبيب العميق، من اقتران المعركة الدبلوماسية والحقوقية في أروقة الأمم المتحدة، بحركة جماهيرية فلسطينية/شعبية/ سلمية واسعة النطاق...بل أنها تنظر لاحتمال كهذا بوصفه تهديداً لأمنها القومي، ومحاولة لنزع «الشرعية» عنها...انه باختصار، قلق الذاهب الى حرب أو المترقب لاندلاعها في أية لحظة.

والراهن أن موجة القلق والتحسب الاسرائيلية هذه، ذكّرتني ما سبق وأن تناولناه في هذه الزاوية بالذات، منذ أن طرحت فكرة التوجه الأمم للمتحدة لأول مرة...يومها قلنا أنها خطوة في الاتجاه الصحيح...وأنها لكي تُعطي أوكلها، لا ينبغي أن تظل «خطوة منعزلة»، بل يجب أن تندرج في سياق «استراتيجية وطنية فلسطينية جديدة»، تضع في القلب من أولوياتها، استلهام «ربيع العرب» بتصعيد المقاومة الشعبية السلمية، واتمام المصالحة الوطنية واحياء منظمة التحرير ورفع منسوب الاهتمام بالشتات واعادة تعريف دور ووظيفة السلطة الوطنية الفلسطينية.

يومها قلنا أن هذا التوجه سليم وفي الاتجاه الصحيح، ان كان من ضمن استراتيجية بديلة لاستراتيجية «المفاوضات حياة»...أما ان اندرج في سياق السعي لتحسين شروط العودة الى «بيت المفاوضات»، لا أكثر ولا أقل، فتلك هي المصيبة بعينها...وها هي المخاوف والهواجس الاسرائيلية تأتي مصداقاً لما سبق وأشرنا اليه....بدلالة كل هذه الاستعدادات «الحربية» التي تجريها حكومة نتنياهو الآن، لقطع الطريق على «خيار الانتفاضة».

لقد تأخر الشعب الفلسطيني عن الالتحاق بـ «ربيع العرب»....والأنظار شاخصة لرؤية «ربيع فلسطين» وقد انبلج على امتداد الأرض المحتلة والشتات...ربيع يستلهم قوة الجماهير المليونية الهادرة كما اتضحت في ميدان التحرير وساحة التغيير وشارع الحبيب بورقيبة وحلب حمص وحماة...والفرصة اليوم سانحة لذلك...وليس ثمة من توقيت أفضل من هذا التوقيت للخروج الى الشوارع والساحات والميادين...وفي ظني أن المنظمة والسلطة الفلسطينيتين مطالبتان اليوم (بالأخص الفصائل المنضوية في اطارها وسياق مشروعها)، بتدعيم الحراك الدبلوماسي في الأمم المتحدة، بحراك شعبي ضد الحواجز والمستوطنات ومن أجل فك عزلة القدس وأسرها...على أن الفصائل المعارضة لهذه الخطوة، وبالأخص حركة حماس، مطالبة على الأقل بضم جهودها الى جهود شقيقاتها في الميدان، من أجل تصعيد المواجهة الجماهيرية ضد الاحتلال والاستيطان.

لقد نبذت السلطة «العنف» في مواجهة الاحتلال...وتمسكت حماس بـ «الهدنة» معه، حتى أنها تمارس ضغوطاً حقيقية على فصائل غزة للتوقف عن اطلاق الصواريخ...وبمقدور الجانبين الآن، الوصول الى نقطة توافق (غير محرجة لأحد)...بمقدورهما أن يتّحدا في الميدان، ضد الاحتلال والاستيطان، ورغم أنف الخلاف والانقسام...فهذا الحراك سيعطي السلطة والمنظمة فرصاً لتقديم المسألة الفلسطينية على أجندة المجتمع الدولي المزدحمة.....وهذا الحراك سيخرج حماس من مأزق تعطيل خيار المقاومة المسلحة...وفي جميع الأحوال، سنكون أمام بداية مشوار رفع كلفة الاحتلال بعد سنوات من الهدوء والتهدئة و«الهدنة».

واذا كانت السلطة جادة في مسعاها اتباع خطوة الذهاب للأمم المتحدة بعقد مؤتمر دولي لتجسيد قرار الجمعية العامة، فان أفضل وسيلة لجعل هذا الخيار ممكناً، هو تصعيد الموقف على الأرض، وبالوسائل التي يتفهمها المجتمع الدولي، وبأشكال الكفاح التي حظيت بثقة العالم واحترامه، وبرهنت على قدرتها على تذليل «المستحيلات»...انها المقاومة الشعبية السلمية، التي لن يستطيع أحد انكار حق الشعب الفلسطيني في ممارستها، بعد أن حظيت مقاومات مماثلة، بدعم العالم واحترامه وتقديره.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور