لكأن الشهر اختصر في واحدٍ من أيامه فقط، بل لكأن الدهر كله قد أختزل في ذلك اليوم...فلا يؤتى على ذكر أيلول، إلا وتقفز للأذهان، تلك الصور المروّعة لانهيار برجي مركز التجارة العالمية في منهاتن...مع أن في هذا الشهر حكاية لن تمحى من الذاكرة، سنتوقف عندها.

في الأول من أيلول، وقد كنّا لمّا نزل بعد، في معسكر "عدرا" الصحراوي السوري، حيث استقر بنا المقام، بعد رحلة البحر من "بيروت الحصار" إلى المنافي الجديدة...كان الرئيس اللبناني الذي لم يمض على انتخابه سوى أسبوع واحد فقط، في اجتماع للبرلمان اللبناني عقد استثناءً وعلى عجل، في ثكنة الفيّاضية المسيّجة بدبابات الاحتلال والاجتياح...كان بشير الجميّل يلتقي سراً برئيس حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف، تلميذ جابوتنسكي النجيب مناحيم بيغن – يقال في نهاريا – ويقطع له وعوداً طويلة وعريضة، لن يستطع الوفاء بها.

لم تصلنا أنباء "لقاء نهاريا" إلا بعد حين...لكننا ذات مساء، وبعد أن انتهينا من "لعب الورق" الذي كان تسليتنا الوحيدة، بل وعملنا الوحيد في "الفاصل الصحراوي" بين مدينتي بيروت ودمشق...جاءنا على راديو "الترانزستور" أن انفجاراً مدوياً وقع في إحدى ضواحي بيروت، أودى بحياة الرئيس اللبناني المنتخب...وقبل أن يتأكد لنا الخبر، كانت "علب اللحمة والسردين" الفارغة التي تَملأ المعسكر، تُملأ بالحصى، وتعزف لحناً جماعياً احتفالياً...هكذا تلقى المعسكر ومن فيه، نبأ الحادث/ الحدث في الرابع عشر من أيلول عام 1982.

يومها (مساء ذاك اليوم تحديداً) أصيب الجنود السوريون بالذعر...لم يفهموا ما الذي جرى ويجري...فجأة يخرج الرجال من الخيام...بل ويركلونها بأقدامهم، ويشرعون في ترديد الهتافات والأناشيد الوطنية...سأل أحدهم مترددا: "شو في ما في"...أجابه أحدنا أن بشير الجميّل قد قُتل...فرد عليه: ومن هو بشير الجميل، ولماذا انتم فرحون بمقتله، كل هذا الفرح؟

جرت اتصالات لم يكن من الصعب تتبعها، بين قادة المعسكر السوري مشدودي الأعصاب ومسؤوليهم...كان القلق بادياً على قيادة المعسكر من حالة الاهتياج التي أصابت "الشباب"...وظل الحال على هذا المنوال حتى ساعات الصباح الأولى...ونحمد الله أن احتكاكاً بين أشقاء السلاح لم يحدث مساء ذلك اليوم، وفجر اليوم الذي تلاه، وإلا لكانت الطامة الكبرى.

في الصباح الباكر، كانت "الضابطة الفدائية" ترسل وحدات فنية منها، لإعداد "بطاقة هوية" باسم كل نزيل من نزلاء المعسكر المؤقت..."ترويسة البطاقة" حملت اسم القوات المسلحة والمخابرات السورية...أما الوظيفة في أسفلها أو الرتبة فكانت "مناضل"....وما أن فرغت "الضابطة" من أعباء هذه المهمة "المكتبية"، حتى كانت "الأوامر العليا" قد صدرت بالإفراج عنّا...نحن الذين خرجنا تقريبا أيام 26، 27 و 28 آب / أغسطس من ميناء بيروت بحماية المارينز الأمريكي والبحرية الفرنسية، إلى ميناء طرطوس السوري.

ركبنا الحافلات بعد عصر السادس عشر من أيلول...وأذكر أننا كنا على مقربة من مستشفى المجتهد في قلب العاصمة السورية، عندما أذاع راديو الباص، خبراً عاجلاً عن "أحداث غامضة" تجري في حواري وشوارع مخيمي صبرا وشاتيلا...لم يكن الأمر واضحاً بعد...لم نكن نعرف ما الذي كان يجري هناك...انتهى وقت الاحتفال، وجاء زمن الحداد العام الطويل، زمن واحدة من أبشع الجرائم، أن لم تكن الجريمة الأبشع في تاريخ الحروب جميعها.

لم نكن ندري أن ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة مقاتل من القوات اللبنانية برئاسة إيلي حبيقة آنذاك، قد دخلوا المخيم تحت حماية الجيش الإسرائيلي، وبترتيب مباشر مع وزير الحرب الإسرائيلي أريئيل شارون، لتعيث في أبناء وبنات المخيمين الشهيدين، قتلاً وتمثيلاً في الجثث وتبقيرا للبطون...إذ على مدار أيام سوداء ثلاث، تم ذبح أعداد يصعب حصرها من الرجال والشيوخ والنساء والأطفال، تقول بعض الروايات أن عددهم بلغ خمسة آلاف الشهيد...وبحسبة بسيطة، يبدو أن كل واحد من أولئك القتلة قد جزّ أعناق ما لايقل عن عشرة من المدنيين الفلسطينيين على الأقل...أيام قلائل فقط، تفصلنا عن الذكرى التاسعة والعشرين لتلك الأيام "الأيلولية" المشؤومة، فيما نحن – ومن ضمنهم كاتب هذه السطور - منصرفون للحديث عن "الحادي عشر منه".

لقد أضفت مجزرة المخيمين البيروتيين، طعم المرارة والعلقم على صمود بيروت وبسالة التصدي لحرب الحصار والاجتياح...وظلت ذكراها تُطل ثقيلةً على النفس والعقل والضمير والروح...لكن يد العدالة الطويلة، "تبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين"...فبعد عشر سنوات على تلك الجريمة (في الرابع والعشرين من يناير 2002)، أودى انفجار عنيف بحياة حبيقة الذي كان انتقل إلى صفوف التحالف مع السوريين، وقد قيل: إنها عملية اغتيال مدبرة من صنع الموساد الإسرائيلي، وبهدف قتل الشاهد في التحقيقات التي كانت جارية بشأن المجزرة...فيما شارون يتقلب منذ سنوات بين غيبوبة الموت وسكراته...أما دماء الشهداء الأطهار، فقد كانت الخميرة التي أنضجت انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى، انتفاضة الحرية والاستقلال...وللقصة بقية.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور