رحبت حماس، من دمشق وغزة على نحو متزامن، بدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الحركة للشروع في حوار معمق وصولاً للمصالحة وترجمة لاتفاق القاهرة، هذا الترحيب أسعدنا بلا شك، وأسعد كثيرين غيرنا، ممن انتابتهم الخشية من أن تأخذ الإخوة في حماس، العزة بالإثم، فيُتبِعون هجومهم على "خيار نيويورك"، بهجوم على دعوة الحوار والمصالحة، وفي ظني أن استجابة حماس لدعوة عباس، جبّت ما قبلها، وأفرغت الانتقادات والاتهامات التي وجهتها الحركة للرئيس الفلسطيني من مضمونها، وأظهرت كم هي خطيرة، لعبة النكايات والمناكفات على الساحة الفلسطينية، إذ كيف يتفق ترحيب اليوم بالدعوة للحوار والمصالحة، مع اتهامات الأمس، بالتفريط والتنازل والتخلي والانفراد إلى غير ما في الجراب من عبارات وعيارات جاهزة للإطلاق الفوري؟.

أياً يكن من أمر، ومن باب "العنب لا الناطور"، فإن المطلوب الآن، بعد استحقاق أيلول واشتداد الضغوط على الجميع، فتح وحماس، الضفة والقطاع، الداخل والشتات، المطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى، الالتفات للحوار والمصالحة من جديد، وإعطاء ترتيب البيت الفلسطيني مكانة الأولوية الأولى على رأس جدول الأعمال الفلسطيني، وصولاً لبلورة استراتيجية وطنية مشتركة، تضع في صدارة أهدافها، كنس الاحتلال ورفع كلفته، توطئة لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في العودة إلى وطنه، وتقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته المستقلة، فوق ترابه الوطني وعاصمتها القدس.

ثمة ما يمكن البناء عليه، لتوليد، أو بالأحرى تجديد طاقة الحوار وإحياء زخم المعارضة، فاستحقاق أيلول أعاد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدولية، وجدد حضورها على مسرح السياسة العالمية، وأطلق شرارات اليقظة والاستنفار في الأوساط الشعبية الفلسطينية، في الداخل والخارج، ما يمكن أن يؤسس للحظة اليقظة والصحوة والصعود، في العمل الوطني الفلسطيني، بعد سنوات عجاف من الخيبة والركود والانقسام.

وثمة في المواقف الفلسطينية، ما يساعد على ذلك، فالصمود الفلسطيني في وجه الضغوط الأمريكية- الإسرائيلية، والتمسك ببرنامج منظمة التحرير، والاستمساك بالشروط الثلاثة للعودة إلى المفاوضات: وقف الاستيطان، مرجعية خط 67 وجدول زمني محدد، فضلاً عن حديث الحوار والمصالحة والمقاومة الشعبية السلمية، جميعها مدخلات يمكن أن تفضي إلى إزالة ما تبقى من عوائق على طريق الحوار، وإزاحة ما تراكم من حواجز على طريق استعادة المصالحة واسترداد الوحدة الوطنية.

هي لحظة انتعاش للوطنية الفلسطينية، حركة وحراكاً ومشاعر وحوافز، هي لحظة انتشاء واعتزاز وكبرياء يعيشها الشعب الفلسطيني، ويتعين اغتنامها حتى النهاية، لإحداث الاختراق المطلوب على طريق استرداد الوحدة وترتيب البيت واشتقاق الاستراتيجية الجديدة وإطلاق الموجة الجديدة من المقاومة الشعبية السلمية، المستلهمة روح ربيع العرب، في طبعته السلمية الحضارية، هذه اللحظة لن تدوم طويلاً، لذا وجب استنفاذها بسرعة وعدم تضييعها.

والمطلوب من مختلف الأطراف أن تجعل حدوث مثل هذا التطور، أمراً ممكناً، مطلوب من الرئيس الفلسطيني أن لا يجعل من رئيس حكومة تصريف الأعمال، نسيج وحده، لكأن نساء فلسطين يعجزن عن المجيء بمثله، فالشعب الفلسطيني مليء بالطاقات المبدعة والعظيمة، بمن فيها "المرضي عنهم غربياً، أو من قبل مجتمع المانحين"، فلماذا الإصرار على رجل واحد، ولماذا الإصرار على رجل بعينه، والمطلوب من حماس، أن تفتح صدرها وعقلها وقلبها، لرياح التعددية الفلسطينية، وأن تتصرف وطنياً لا فصائلياً، أقله في المنعطفات الكبرى، وهو ما لم يحدث في "استحقاق أيلول"، المطلوب من حماس التوجه بقوة وزخم للمصالحة والاحتكام للحوار وصناديق الاقتراع من دون إبطاء أو تحفظ أو شروط مسبقة، مطلوب من أصدقاء وحلفاء الجانبين، أن يقولوا كلمة طيبة أو أن يصمتوا للأبد، المطلوب من الأنظمة العربية أن تكون "محضر خير"، لا أن تواصل تأليب هذا الفريق على ذاك، خدمة لأجندات عدة متصارعة ومتضاربة، ليست الأجندة الفلسطينية واحدة منها على الإطلاق، المطلوب من جماعة الإخوان المسلمين، وبالأخص في الأردن، أن تواصل ما بدأته قبل عدة سنوات، كأن تعمل على إطلاق مبادرة لاستئناف الحوار والمصالحة، ولعب دور الوسيط والمُجَسّر بين الأفرقاء،بدل أن تصب مزيد من الزيت الحار، فوق جمر الخلافات الفلسطينية ونارها.

دعوة عباس واستجابة حماس، أسهمتا في تشكيل هذه اللحظة المواتية تماماً لاستئناف الحوار واستعادة الوحدة، والمطلوب الآن وفوراً استنفاذها حتى النهاية، ولن يرحم التاريخ كل من أضاع أو ساهم في إضاعة هذه السانحة، فلنَبنِ على الشيء مقتضاه، ولِنُبادر جميعاً، وكل من موقعه، في دفع قاطرة الوحدة الوطنية الفلسطينية إلى الأمام، وإلى الأعلى.


المراجع

جريدة الدستور

التصانيف

صحافة   عريب الرنتاوي   جريدة الدستور