منذ ما يزيد عن سنتين ، اثناء تواجدي في مدينة القدس لأنهاء بعض قضايا الأملاك ..  أهداني محامي من الناصرة يعمل في القدس روايتين لكاتب كثيرا ما قرأت مقالاته النقدية والسياسية وقصصه على مواقع الانترنت هو الروائي والناقد والكاتب السياسي الفلسطيني  نبيل عودة الذي يعيش في مدينة الناصرة داخل مناطق فلسطين 48. و قد وضعت الروايتين على مكتبي ، وكنت دائما اؤجل قراءتهما وكدت انساهما  ، الأولى هي " حازم يعود هذا المساء " والثانية " المستحيل" . اذ انشغلت بقراءة  روايات كتاب عرب وغير عرب من المعروفين.
وغير مرة حاولت فتح صفحات احدى الروايتين ، ولكني عدت وتراجعت متخوفا أن أدخل في قراءة مملة ، حيث ان الرواية العربية داخل مناطق ال 48 ، وبشهادات نقاد محليين  ، وشهادة الكاتب نبيل عودة نفسه في مقال نشره قبل وقت قريب ( عن مشاكل الجانر الروائي في ثقافتنا المحلية )، ما تزال تعاني من الضعف وراء الرواية العربية.. ولم يتطور بعد هذا الجنس الروائي في الأدب العربي في ثقافة عرب الداخل ..ووصف معظم ما انتج من أعمال روائية بأنها مجرد تجارب
الدافع الذي أقنعني أن أبدأ بقراءة احدى الروايتين ، مقال نبيل عودة نفسه ،الذي قرأت له الكثير من القصص القصيرة الجميلة والمصاغة باسلوب فني لا يقل عن مستوى القصة القصيرة العربية أو الأجنبية، بل ولقصصه الأخيره نكهة مميزة تماما ،كذلك قرأت له كتابات نقدية وفكرية حول الأدب في فلسطين 48، والسؤال الذي ظل عالقا في ذهني ، هل باستطاعته صياغة نص روائي بنفس مستوى القصة القصيرة؟
في مقالة المذكور عن مشاكل الجانر الأدبي - أو الجنس الأدبي لغة عربية صحيحة ، يصيغ تجربته وفكرته عن تركيبة الرواية وأهمية اللغة الروائية ، وهو ناقد معروف ، وحاد في نصوصه النقدية ، وأحيانا أشعر انه استفزازي لا يتردد في في التعير عن مواقف تغض الآخرين...  وتثير مقالاته ردود فعل متنوعة... بل ومعارك على صفحات المنتديات التي اتابعها ، وبعضها تحول الى هجوم  شخصي  على نبيل عودة  نفسه ..
رواية :" حازم يعود هذا المساء "
أعترف ان قراءة الرواية الأولى التي اخترتها( حازم يعود هذا المساء) نقلتني من صفحاتها الأولى الى مفاجأة لم أكن أتوقعها، شعرت كم نحن متعسفين بنظراتنا المسبقة .. اذ وجدت نفسي أمام عمل روائي مبني بمتانة وقوة ، ولغة روائية مدهشة ، تثير الارتباط والتوقعات بحيث يظل القارئ بحالة ترقب واشتياق شديد لمعرفة الألغاز التي ينثرها الكاتب في تفاصيل ما يرويه ، مبقيا كل المفاجأة السردية ، وليس فقط النهاية الروائية ،الى السطر الأخير.
فاجأني بلعبته السردية وتكنيك صياغةالرواية،والقدرة على الدمج بين اللغة والحدث بتطابق كامل ، ناجحا باخفاء النهاية حتى الجملة الأخيرة تماما. بحيث يظل القارئ متوترا متوقعا المزيد .. اذ لا يمكن ان تنتهي هذه العاصفة الروائية بجملة تفيدنا أن الظهور غير العادي لحازم ، بطل الرواية ، للكاتب - الراوي ، صديق البطل من أيام مضت .. كانت مجردأحداث تدور في اطار حلم ... أيقذ في الكاتب واجبة لكتابة قصة صديقه التي داعبت فكره لعقد كامل ، كما جاء في مقدمة الرواية .
حازم يعود هذا المساء هي قصة حب فلسطينية فريدة من نوعها وفكرتها ، لم يكتب لها ان تكتمل ، ولدت عشية الماساة ،وتواصلت في رحم المأساة دون ان تثمر عن ولادة جديدة ،أو اكتمال للتمني . انما مأساة تجر مأساة حتى النهاية الميلودرامية ، كانعكاس للواقع الفلسطيني النكبوي .. الأمر الذي أعادني لقرائة افتتاحية المؤلف وتسجيلها :
"هل يكتمل الحب بلا وطن ؟
وتكتمل الآمال بلا بيت ؟
وتكتمل الأحلام بلا ملاعب الطفولة ؟
ويجد الانسان غايته , بعيداً
عن عرائش صباه ؟!
ويتمتع بالراحة , في مجتمع ..
القيمون عليه لصوص ؟!
*****
هل تسمى حياة , هذه الملعونة ....
أمام خرائب شعبنا ،
بظلال تاريخنا المهدم ...
وحاضرنا المنفي ...
وثقافتنا المصلوبة بين اللصوص ،
وحضارتنا المسروقة ...
ودمنا النازف باستمرار ؟؟!!
*****
اذن ...
ما هو الحب ؟!
وما هي الحياة ؟!
*****
هل يوجد حب
بلا وطن.. ؟!
هل توجد حياة
بلا وطن .. ؟!"
اذن قصة حازم وأمينة رواية أعمق وأطول من فكرة الحب العذري للشابين ابني يافا وبحرها .. يافا الفلسطينيةالمغتصبة ..الكاتب لم يقصر روايته على بطله حازم ومعشوقته أمينة. بل خاض لجةأحداث التاريخ على خط مواز لقصة الحب ..وكأنه يكتب قصتين بنفس الوقت . حازم وأمينة العاشقان ،ويافا كرمز لفلسطين والعاصفة الهوجاء التي اقتلعت الانسان الفلسطيني من حياته وتاريخة وبحره وقهوته وسمكه وحبه وبيته وسهراته وذكرياته ووطنه ..
ربما علينا ان نشير الى ان الصداقة التي ربطت الكاتب بشخصية حازم الحقيقية في الحياة ، كانت وراء هذا الانجاز الروائي المميز عن نكبة الشعب الفلسطيني.
نجد ان الكاتب نجح بالدمج بين الخاص والعام ، بين الفكرة القصصية والنص اللغوي . بحيث يكمل أحدهما الأخر دون ان يتجاوز الحدود المرسومة بدقة واحساس مفرط من الكاتب لأهمية اللغة في بناء الحدث الروائي ، ولأهمية اختيار التكنيك في تركيب الأحداث وصولا الى تصعيد حذر ومتواصل ، يعمق ارتباط القارئ ببطلي القصة ، ليصعقنا ، أجل يصعقنا بنهاية لم تكن متوقعة ، نهاية مأساوية للبطلين . وكما يقول في افتتاحية المؤلف:
" هل يكتمل الحب بلا وطن ؟
وتكتمل الآمال بلا بيت ؟
وتكتمل الأحلام بلا ملاعب الطفولة ؟
ويجد الانسان غايته , بعيداً
عن عرائش صباه ؟!"
للكاتب اسلوب أخاذ ، ومقدرة سردية جميلة ، ولغة تشد القارئ بدراميكيتها.. عبر خلط أدبي يضلل القارئ ويثير دهشته ورغبته لمعرفة ما وراء السرد المبهم ،والمثير في تفاصيل بنفس الوقت، لظهور حازم الغريب .
وهل يعود من غادروا ؟ كما يكتب ، ولكنه لا يوضح فكرة المغادرة .. والى أين غادر حازم ؟ يتركها لتأويلات القارئ، مثيرا عدم اليقين في ما يجري من مشاهد ، مستعملا العودة الى الذاكرة ، لسرد التفاصيل ، التي لا يكشف جانب من جوانبها الا بعد أن يدخل القارئ لجوانب مثيرة أكثر ومجهولة أكثر..وهو يستغل هذا التكنيك ليواصل رسم شخصية حازم الروائية .. وهذه الشخصية تكاد تكون جزء من عناصر الدهشة الروائية التي يقودنا الكاتب عبر مساراتها مثيرا توقعاتنا المخلفة.. ومثيرا أكثر التنبؤ المحتمل .. ترى هل نجحنا في التنبؤ المحتمل لما يقودنا اليه الروائي في نصه ؟
لا يتركنا معلقين .. ويعود الى الذكريات ليستكمل الصورة ورسم الشخصية ، ويملأ الفراغات التي يبقيها قصدا ليبقى القارئ على شوق لكشف ما خفا مثيرا دهشته أكثر ومعمقا ارتاطه بأحداث الرواية ، لاعبا بدوافع القارئ الطبيعية للتنبؤ بالآتي .. وكأني به يدفعه ليتنبأ .. وليتوقع الحدث القادم .. وعبثا نحاول ان نتنبأ ، الا ان الوقائع تجيء عكس توقعنا ، بل وتفاجئنا بصعوبة فهم هذه المأساة التي لا تنتهي ، وبذلك يربط الذاتي ( الخاص ) بالعام ، الذاتي ( الخاص) لحازم وأمينة بالعام لشعب حازم وأمينة الذي تتواصل مأساته.. يقودنا من مجهول الى مجهول..الى صورة تكاد تتضح ، لنكتشف انه أدخلنا كقراء في دوامة جديدة ، حتى الجملة الأخيرة في الرواية..
هذه اللعبة الروائية تذكرني بنظرية لعالم النفس الشهير فرويد ، حيث يقول ان الشخصية تتكون من ثلاثة عناصر : " هي – انا – وما فوق أنا " ويعرف "ما فوق أنا " بأنه الدافع غير الواعي ، وهي قوة مستترة داخل الانسان، لا يدركها ، ولكنها توجهه . وفي حازم يعود هذا المساء أظن ان الروائي نبيل عودة نجح بتوظيف " ما فوق الأنا"بحيث يحرك القارئ دون أن يجعله يدرك الى اين يوجهه ..أهو النص أم الحدث أم المأساة المتجلية ؟ الى جانب العنصرين "هي "، وتمثل الشحنة التي تدفع الانسان وتنشطه وتحركه بطاقة كبيره ، الى جانب ما تمثلة ال "أنا" من عنصر اجتماعي ... لبطل ليس سماوي ، بل ابن الأرض .. ابن الحياة ..ابن المجتمع البشري ، قد يكون أي واحد منا ، والأسم هو رمز ليس الا .. ان دمج التشكيلات الثلاث يشكل محورا في الاسلوب المتميز لهذا النص الروائي... القصير ولكنه الملي بالشحنات المتفجرة والمؤلمة ، التي توصل القارئ قريبا من البكاء العلني او البكاء الصامت.
الكاتب لم يقحم نفسه في مضمون الرواية ، رغم انه كان العامل الحاسم في ايصالها لما وصلت اليه. وبدون ذلك تبقى قصة عادية ..
في الواقع من الممكن ان نضيف ان ما حدث للكاتب الراوي ، ودوره في اكتمال الرواية لما وصلت اليه ، يمكن أن يكون رواية أخرى لها مسارها المختلف الى جانب حازم وأمينة بطلي رواية" حازم ... "
بالطبع هناك فجوات قليلة في النص .. ويبدو ان الكاتب اندفع ليكتب نصه بحماسة غير عادية كما يعترف بمقدمته للرواية.اذ انها رواية عايشها بتفاصيلها .. وساهم بايصالها لما وصلت اليه .. وهذه يلمسه القاريء من تعاطف الكاتب مع بطله .. تعاطف نادرا ما نجده في الأعمال الروائية ، ولكنه تعاطف حذر لم يشكل ثغرة فنية تضر بمبنى الرواية (النوفيلا ) ولغتها وتكنيكها تجعلها رواية لا تنسى بسهولة ، تبقى عالقة في الذاكرة .. لدرجة ان صوت حازم  وهو ينادي أمينة يجلجل في أذني كلما استعدت تفاصيل الرواية ..  والتفتُ أحيانا لأرى مصدر الصوت ، فلا أجد الا الصمت المدوي.. وكأنه صمت الاحتجاج على استمرار الماساة .
(نيو كاسل - استراليا )

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب