2- القصد من التحول في النص الشعريري
سؤال الغموض والحداثة الشعرية
إن القصد من إنشاء التحول في المعنى عند تخطيط القصيدة الشعرية لا يخرج عن المستويات التالية:
·تحقيق المعنى المراد عن طريق الابتعاد عن المباشرة، لأن الخطاب المباشر لا يحقق مبدأ التفاعل بين المرسِل والمرسَل إليه، سواء أكان التفاعل شفويا أم كتابيا، كأن يتعامل المتلقي مع النص الشعري بتحويل معانيه الأصلية وهو يقرأ نصا قديما، فيحاول تحيينها . [1]
·معالجة المضمون المتوخى توصيله للمتلقي من جانب الابتعاد عن المباشر من القول خوفا من سلطة معينة، فيتم في هذا الإطار استحضار الرمز أو الاستعارات بعيدة المنال. ولآن قراءة النص من طرف المتلقي لا يدخل فقط ضمن إطار استهلاكي، بل يثبت قدرته على منحه :" تحققه Concretisation التام والنهائي، بل إن من خصائص العمل الأدبي أنه يخلق ثراء جددا في كل حقبة، فلكل زمن قراؤه كما أن لكل قارئ قراءته، فالأسئلة هي أسئلة تتجدد عبر تاريخية التلقي بواسطة تأويل المتلقي للأجوبة التي يرى أن العمل الأدبي يقدمها." [2]
·إنتاج الدلالة الجديدة وعدم الغوص في المعاني المبتذلة القديمة. ذلك أن الشاعر والمبدع بصفة عامة يستطيع الإتيان بالمعاني البكر فتكون خاصة به، ولا يتجاوز المقروء والثابت فيكون ذا صلة بمن سبقه غير مجدد ولا مبتكر. والمعاني المتحولة عن الأصل تشكل لبنة هذا التجديد والتحول.
وقد كان شعراء الرفض منذ الجاهلية لا يلتزمون بما هو شائع ويرفضون النموذج الذي يسير عليه الكل. وخير مثال على هذا التحديد شعر الصعاليك الذين اختاروا طريق القول الجديد حتى يتسنى لهم اقتلاع الأفكار من أساسها التقليدي.
ولا يمكننا في هذا المجال تتبع كل التجارب الشعرية التي رامت الابتكار من أجل تجاوز الكائن. لكن يمكن أن نسترشد بمقطع شعري لمحمود درويش.
يقول:
تتحرك الأحجار
فالتفوا على أسطورة
لن تفهموني دون معجزة
لأن لغاتكم مفهومة.
إن الوضوح جريمة
وغموض موتاكم هو الحق- الحقيقة.
آه، لا تتحرك الأحجار إلا حين لا يتحرك الأحياء
فالتفوا على أسطورتي! [3]
إن الخطاب الشعري الحالي يلخص جملة من القول النظري، ذلك أن الشاعر كما سلف الذكر يستلهم هذه الظواهر ليعمل القارئ ذهنه للوصول إلى حقيقة التجلي الذي يطمح إليها المبدع.
من المعروف - سلفا- أن الغموض الذي يتبناه الشاعر يكون من موقف قوة، ويطمح من خلاله إلى توزيع المضمون على عدة مستويات لا يتحقق المعنى في أحدها دون الأخرى.
وحدة النص الشعري أيضا تتنامى اعتبارا للقصدية التي يتبناها المرسِل، وقراءة النص الشعري تتيح للقارئ فرصة إعادة البناء والتجميع سعيا وراء تميز النص وتميز صاحبه. يقول شربل داغر في محاولة تطبيق هذا البعد على النص الشعري:" إن قراءة القصيدة مثل جدول من المفردات تتيح تجميع مثل هذه الطبقات الدلالية، غير أن عملية التجميع هذه لا تحسب حسابا ل( سياق المعنى) نفسه الذي يحدد المعنى ويضبطه، أي يختصر من احتمالاته، فإذا كانت كل مفردة تتألف من عدة سمات دلالية، فإن هذه السمات تتموضع في سياق وتنسج علاقات مبرزة سمات دلالية على حساب أخرى" [4]
لذا فقد حاول الشاعر "الحداثي" تقمص أقنعة كل التيارات الأدبية مستلهما الدوال التي بإمكانها أن تعطي له صفة الخصوصية عن غيره، وبذلك يحاول أن يتجاوز سابقيه بإعطاء الدلالات الجديدة متحولا عن الأصل إما بالرمز أو الإيحاء أو اعتماد محسنات بلاغية متنوعة.
إن الشاعر - بهذا- لا يقصد الغموض في حد ذاته، بل الخلق والإبداع. تقول يمنى العيد في صدد الحديث عن القصيدة الجديدة:" حقول الدلالات لم تعد في النص الحديث منضدة ومفروزة على قاعدة الموضوع المشترك، بل هي متداخلة، متشابكة بحيث يبدو النص كلا معقدا وبالتالي غامضا.. تسري الدلالات في النص، تغور وتدعونا لأنْ نجول ببصرنا بحثا عنها.. هكذا حين نقرأ عبارة أو مقطعا تصلنا أنها حاضرة، ولا تصلنا لأن حضورها يسري، ويغيب.. وعلينا أن نراه في غيابه أو في إسرائه، في الظلمة التي تغيبه." [5]
إن القول بالتحول فيما يخص الدلالات يتأكد عند تمحيص النص الشعري والتحري في أبعاده المعرفية والفكرية والغوص في ذات الشاعر الداخلية ، والنظر في الإطار الذي يحكم النص. لذلك لا يبقى مجال للقول بالغموض، وإنما بعد الرؤى عن القارئ العادي، والشعر رؤيا تحكمه ضوابط موضوعية وذاتية وفكرية.
لا معنى أن نقول إن الشعر العربي الحديث بعيد المعنى، فلا غرو أن المحاولات التي سبق أن فصلنا فيها [6] وضعت أمامنا الرؤية السليمة عنه، ونؤكد من خلاله أنه خطا خطوات ثابتة من أجل إقحام الذات الشاعرة والإطارات الخارجية لتشكيل النص الغائب/ الحاضر: الغائب على القارئ العادي، والحاضر عند المحترف للقراءات الشعرية والدراسات النقدية العربية والغربية. وكذا معرفة الضوابط والآليات التي تسهم بشكل جلي في إبراز هذه الكوامن:" لأن الشعر العربي الحديث تصعب قراءته في غياب معرفة بالشعرية العربية القديمة كما أن أسراره اللامتناهية لا تنفتح." [7]