الشيخ رائد صلاح؛ شيخ الأقصى، شيخ القلب الفلسطيني الصامد على تراب وطنه، وابن أحرار فلسطين الذين ثبتوا على أرضهم بعد نكسة (48) ورسّخوا جذورهم في الأرض كالتين والزيتون واللوز والصبّار والليمون... وبقوا عصيين على الاقتلاع، شامخين لا تنحني لهم هامة، ولا تلين لهم قناة ...
يطل علينا شيخنا بإصداره الثالث بعنوان: "ماذا تقول القدس"، وقد جعله في ستتة أبواب ووفق الترتيب التالي –وكما أشار في مقدمته- : (جرح النّكبة). (من حصاد الحكم الجبري) . (زفرات في رحاب بيت المقدس) . (الهدهد اللبيب) . (زاد على الطريق) . (أنت الأمل) .
في هذا الديوان نجد الشيخ رائد الداعية والقائد والمثقف والمرشد الذي لا يغيّر ولا يبدّل، بل يصمد على مواقفه ثابتا في خطاه، راسخا على نهجه وموقفه كداعية وكقائد ومرب... نور الله وكلماته سبحانه، وهدي رسول الله نبراسه وقبسه الذي في ظله وعلى هداه يسير أبدا... وكأني به يعلنها بكل وضوح وبلا تردد وبدون ادنى لبس ... إذا لم تكن مربيا ومرشدا صالحا... فلن تستطيع أن تكون أي شيء آخر نافعا أو صالحا... فكن مربيا صالحا ومخلصا... لتصير قائدا مطاعا وناجحا.. لأنك إن لم تكن كذلك فلن تستطيع أن تحس نبض الناس ، وأن تعيش وتحس معاناتهم، ولن تستطيع أن تفهم دوائر الأيام وما تحمل في ثناياها...
ذلكم هو الأفق الفكري والعملي للشيخ رائد.. وهو يبرز هذا المعنى ويؤكد عليه ومنذ الحرف الأول في كل كتاباته . وهنا في أول قصيدة في ديوانه هذا (قصة شهيد) والتي كان موفقا جدا في جعلها فاتحة الديوان . والشهيد هنا يرمز لكل حر يأبى القيد، ويتسامى على الجرح، ويشمخ عزيزا ثابتا مؤمنا في الحياة والممات... وهي ليست قصيدة عادية، إنها مسرحية شعرية راقية، جعل أبطالها طرفي النقيض، وطرفي الصراع الأبدي: " طغاة ضد دعاة" وكأني به يهمس؛ بل يصرخ: لكي نرد كيد الطّغاة ونقضي عليهم ؛ يجب أن نكون دعاة صالحين ثابتين. هذه هي المعادلة الوحيدة الصالحة لحل مشاكلنا وقضايانا. وهو يجسّدها واضحة في صرخات الدعاة- ص7-11، ومن خلال تعانق جسدي وروحي وفكري... يتجلى في عظمة الموقف؛ كقوله في هذا المشهد :
منتصر: سلام الله على الأحرار
عـلـى  الأبطال على الأخيار
وتـأبـى الـذّلّ وتـأبى العار
صـامد: أقبِل أقبِل نحن الأخوة
نـسـعـى  دومـا صفا واحد
نـبـنـي جيلا يحمي الدّعوة
 
 
 
 
عـلـى  الـثّوار على الأبرار
تـخـوض  الموت بقلب النّار
تـقـول الـحـق ولـن تُلجَم
جـيـل  التّقوى جيل الصّحوة
نـحـو  الأقصى نحيي النّخوة
لا لـن نـذوي لا لـن نـسأم
فمن يحمل مثل هذه الروح؛ لن يزيده سوط الجلاد سوى قوة وعزيمة وثباتا وإصرارا على الحق . ومشهد الطاغية وهو يجلد منتصر، يصوّر، بل يجسِّد هذه الروح في أجمل تعبير. الطاغية يجلد منتصر بسوطه وكلماته، ومنتصر يقهره بإيمانه وثباته:
الطاغية:
مـا  زلت أبيًا بل تجهر
فـلتعلم  يا نحس الطّالع
بـنياني دوما لن يَصغُر
 
في سبّي في سبّ القيصر
أنـي لن أهوي أو أكسر
عنواني  الأعلى والأعظم
فيأتي رد منتصر مقتضبا؛ ولكن مجلجلا مزلزلا بوضوحه ، منتصرا للحق وبالحق:
إن كنت ككسرى أو قيصر            ربّي الأعلى أنت الأصغر
هكذا هو الشيخ رائد صلاح، مربيا واعظا في كل أحواله كما اسلفنا، يقولها بكل وضوح في شعره هنا، كما يقولها ويعيشها بكل ثقة واعتزاز في كل مواقفه: لن تنال منّا قسوة الجبابرة والقياصرة ما دمنا على ديننا وعقيدتنا وحقنا .. فنحن الأعلى بديننا وحقنا، وهو الأسفل بباطله وطغيانه... كقوله ص343:
الـدّعـوة  أقوى للأبد
وسنصرخ دوما في جلدِ
الـدّعوة  طُهرٌ وضياءٌ
وجـداول  تَوبٍ تغسلنا
ودعـامـة حقٍ تجعلنا
 
 
 
من نار المفسد في بلدي
كـزئير جلجَلَ من أسَدِ
ومعينُ  ثباتِ المُضطَهَدِ
بـالماء الطاهر والبَرَدِ
كـالجبل الشامخ والوَتَدِ
ومما يميِّز الشيخ رائد شاعرا وإنسانا: أنه دائما يبحث عن البساطة، ويختار الطريق المباشرة، ويبتعد عن التزيين والتنميق والزخرف... يقول ما يريد بكل تلقائية وبساطة ووضوح، ولا يشغل باله جمال التعبير أو جزالة الألفاظ، ولا جمال التراكيب الشعرية... ولا يبحث عن العناوين الرنانة، والألفاظ الفضفاضة، ولا يهتم بالقوالب الشعرية والمحسنات البلاغية... ولا يشغل فكره بمدارس النقد واصول الحداثة الأدبية ونظريات الأدب الحديث، وما بعد الحداثة... وإنما يظل شاغله الأوحد فكره ورسالته، ألمه وألم أمته وشعبه... وصيته وزفرته التي يريد أن يوصلها لأحبته ورعيته ناضجة واضحة سهلة مستساغة... ويبقى هدفه الأول: غرس افكاره التربوية والحضارية والعقدية المستمدة من روح ونور رسالة الإسلام. أما تعابيره وصوره وأمثلته... فمستقاة من الواقع؛ ومن الحياة، بصدق وبدون اي تعقيد أو تزيين.كقوله ص14:
غضبي نار حجري مدفع                للباغي  أبدا لن اركـع
وطنـي حُرٌّ ديني نـورٌ                ودَمي القاني نصرٌ يلمع
فانظر إلى بساطة اللّفظ، وصدق التعبير والتصوير، مع شرف الرسالة ونبل التربية، ووضوح وسمو الهدف .
وتقريبا للصورة، وتوضيحا للحال، وربطا للحاضر بالماضي ، يستعين الشيخ الشاعر برموز من التاريخ؛ ليكسب قوله عمقا ويعطيه بعدا إنسانيا وتاريخيا مؤثرا، ودائما تبقى المعادلة عنده : (الطاغية يقابله الداعية)... كقوله ص21:
عـدوّي فـرخ نيرون
عـن  الأبناء عن بيتي
عن  الليمون عن نخلي
ويدمي الجرح في قلبي
 
 
بـغـدر جـاء يجليني
عن الأقصى وعن ديني
ويـحـيا  في بساتيني
ويـؤذيـنـي ويشقيني
ولا ينسى رموزنا التاريخية العظيمة، يجليها قدوة ورموز ثبات ونصر وتمكين وعزّة: سعد، خالد، صلاح، أبو عبيدة، المعتصم، الرشيد جعفر وطارق... وغيرهم وامثالهم... إنه يجعلهم مثالا يربي الجيل على سماتهم ، وهم من خرجوا وأخرجوا الشعوب معهم من الظلمات الى النور ، ومن عبادة الناس إلى عبادة رب الناس الواحد الأحد سبحانه، ومن جور الحكام والطغاة إلى عدل الله وسماحة دينه الذي ارتضى للناس كافة.
كما أنه لا ينسى تراثنا وتاريخنا وواقعنا، فيجعل ديوانه سجلا حافلا بأسماء المواقع والبلاد المنكوبة من جليلنا ومركزنا ومثلثنا وساحلنا ونقبنا... حتى ليكاد لا ينسى مدينة أو قرية إلا ويذكرها : عكا، حيفا، يافا، غزة، جنبن، جباليا، إجزم، إقرث، برعم، أم الزينات، اللد، الرمله، طبريا، الجعارة، حطين، طمرة، بيسان، المجدل، القسطل، والقدس واسطة العقد، ودرة التاج، وعروس المدائن... وغيرها وغيرها مما تزخر به ذاكرته الحية، ويحفظه وجدانه الحر، وجدان الداعية الذي لا ييأس ولا يتراجع ولا يهون في مواجهة الطاغية والتصدي له .
ثم لا ينسى أنه ابن الأمة الإسلامية العظيمة، فلا يجعل همه الأول (فلسطين) وجرحها ينسيه جراح الأمة وهمومها، فهي أمته، وهو منها، وجرحها جرحه، وهمها همه... فتراه يتماثل مع أمته وإخوانه، ويتبنى قضاياهم أينما كانوا: في أفغانستان، وفي الشيشان، وفي بغداد وفي لبنان وفي سراييفو... وهو في كل الأحوال يرى أن المعركة واحدة، والمعادلة واحدة: (الداعية في مواجهة الطاغية) ... والمجاهد المدافع عن حقه وعقيدته، بوجه الجلاد الغاصب الآثم.. فاسمعه يصرخ ص68:
فـي سـراييفو نار قنابل
جاء  الحق وزهق الباطل
*          *          *
فـي  سراييفو طفل يبكي
ذبـحت أهلي جند الشِّرك
 
 
 
وعلي عزّت صاح صدوقا
إن الـبـاطل كان زهوقا
*          *          *
عـن مـأساة الأمة يحكي
هدموا بيتي قصفوا السّوقا
وحين يضنيه ويشقيه جرح بغداد يصيح ص75-78:
عاد المغول بكل أصناف الدمار
ليدمِّروا بغداد ثمّ يدمِّروا كلّ الدّيار
ليدمِّروا السّودان والصّومال في أعتى حصار
ويجوِّعوا لبنان والأردن في وضح النّهار
ويُجرِّعوا كأسا لقاهرة المعِزِّ بكل عار
ولا ينسى القدس فهي الهدف الأول...والأعظم.. لحملات الطغاة وأطماعهم:
عاد المغول ليهدموا الأقصى المبارك يا نيام
ثم لا ينسى مكة والمدينة:
عادوا لقهر القدس ثمّ مكة والمقام
ولنبش قبر محمّد طيب المدينة يا كرام
وليت الأمر يقف عند هذا الحد وكفى ، بل إنه يتعداه ليبلغ:
ولسلب كل الأرض ما بين الجزيرة والخليل
ولسلب نفط العرب والأنهار والذهب الأصيل
ونجده يختم كل زفرة ألم يطلقها، بزفرة فيها أمل علها تهز الأمة الغافلة:
والمسلمون ممزّقون               والمسلمـون مفرّقـون
يا ليتـهم يتوحّـدون              في وجه زحف الغاصبين
ثم يبدع الشّيخ باستخدام الرموز الأسطورية والرموز (الأمثولية) مما تأثر به من أجواء كليلة ودمنة –كما أشار في مقدمته- ليشحن النفوس بروح الحكمة، ثم ليذكي جذوة الصبر على الضيم والظلم في قلوب الرعية -جند الدعوة- في صراعهم ضد الطاغية، وزبانيته، فيأخذ مثلا أسطورة السمندل؛ ذلك الطائر الأسطوري الذي يبيض وسط اللهب (وفقا للأسطورة) ويتكاثر وسط الجمار... ليجعله مثالا لشعبه ورعيته، وكأني به يصيح بهم؛ بأهله وامته .. كونوا كالسمندل، أسكنوا اللهيب بنفوسكم الصامدة، وتكاثروا وسط الجمار ورغم الحريق، فهكذا يُقهَرُ عدوكم الطاغية فزعا من صبركم وثباتكم .
وسـط المحارق واللهب
مـتـوسِّـدا  نارًا لظى
مـتـجـلـبـبًا  بثباته
حُـرًا صـبـورًا موقنًا
مـا  عـاش يوما خائنا
بـل عاش طودًا شامخًا
مـا خـافَ يوما أعورا
 
 
 
 
 
باض السمندل في طرب
مـتـألـقا  فوق التعب
مـتـعاليًا فوق النّصب
أنَّ الـبشائر في الكُرَب
أو  مـتـقِنًا فنّ الهرب
من دون خوفٍ أو رَهَب
يـرمي  عناقيد الغضب
 . (ص184)
ثمّ نراه يغترف من مخزون كنوز السُّنة النبوية الشريفة، مستخدما خاصيّة التّناصّ، ليوجه ويربي ويصحح، في نقد موجه للأمة وكل ما يدور في واقعها، ويحكم مصائرها... بأسلوب تهكميّ ساخر ولاذع، ولكنه لا يخلو من الموعظة والحكمة والتوجيه والتبصرة... ولا يبتعد عن حدود المعادلة؛ معادلة الصراع التي يظل يؤكد عليها : "الداعية في وجه الطاغية". فيأخذ مثلا معاني الحديث الشريف (حديث الرويبضة) وما جاء فيه من قوله صلى الله عليه وسلم(... يؤمّن الخائن ويخوّن الأمين) ويصوغها بشعر رقيق واضح المعاني والمرامي قائلا:
هل تفهمون المرحلة            هل تدركون المهزلة
الى قوله:
أضحى العميل هو البطل            والحُرّ  أضحى  معتقل
واللص صار  هو  المثل            يمشي الهوينا بلا وجل
والذّئب صار هو  الحمل            رمز السلام  بلا  خجل
(ص234)
وهكذا تمضي رحلة الشيخ رائد مع الشعر، لا يريده لذاته، بل يجعله سلاحا في المعركة، ذات السلاح الذي حث عليه رسول الله صاحبه حسان وإخوانه ليكون رديفا للسيف، في وجه الطاغية . فبارك الله الجهد ، وجعل فيه القلاح والصلاح والعزة، وجعله الله في ميزان صاحبه يوم يلقى ربه. اللهم آمين

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب