أقام فرع اتحاد الكتاب العرب بطرطوس ندوة لمناقشة رواية "قدس الأقداس" للأديب شاهر أحمد نصر  في يوم الأحد الواقع في 29 / 3 / 2009 في صالة اتحاد الكتاب العرب بطرطوس، ألقى خلالها الأديب المحامي علم الدين عبد اللطيف محاضرة تحت عنوان "قراءة في رواية: قدس الأقداس"... افتتح الندوة رئيس فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب منوهاً إلى أنّ الرواية، والمحاضرة تحية إلى القدس عاصمة للثقافة العربية، وإلى الشعب العربي الفلسطيني المناضل في سبيل استعادة حقوق العرب، وعاصمة ثقافتهم، وذاكرتهم، ومستقبلهم: القدس.
وفيما يلي نص المحاضرة، وبعض المداخلات التي ألقيت في الندوة:
قراءة نقدية في رواية قدس الأقداس
للروائي شاهر أحمد نصر
( قدس الأقداس) ..الرواية الأولى للكاتب شاهر أحمد نصر، وبين يدي الطبعة الثانية منها الصادرة عن دار المركز الثقافي للطباعة والنشر والتوزيع عام/2007/ ، وموجودة في جميع المراكز الثقافية في المحافظات، هي رواية جديرة بالاهتمام ، خصوصاً في هذه الآونة، والقدس عاصمة للثقافة العربية بعد دمشق، ويصبح الكلام ذو أهمية خاصة عندما يتم استحضار الأمكنة ذات الخصوصيات المتقاربة  بحيث تصبح متحايثة ومتماهية مع بعضها، فالقدس  ودمشق .. وربما الاسكندرية  أو القاهرة  أو بغداد ، تتصل بروابط التاريخ صانع الثقافة الواحدة والمترابطة، إذ هي مجال جيو ثقافي وحضاري واحد، وقد لا يكون من قبيل المصادفة أن سارد النص استحضر القدس لتكون المكان المجازي  لتشيؤه الأول، قبل التشيؤ اللاحق في مكان مختلف ومتفق، منفصل ومتصل، وبقي هو  هو ..  وسيبقى المكان الافتراضي في الوحدات الجغرافية المتداخلة على مستوى الثقافة وإنتاج الثقافة ، كالقدس ودمشق مثلاً، عاملاً شديد الخصوصية والأهمية في مراحل زمنية امتدت حتى يومنا، من حيث تشاركها في هم المواجهة وصنع المصير.
  سنحاول بداية البحث في العناصر البنائية للنص ، وتتبع أنساقه الصغرى  والكبرى، وصولاً إلى فهم البنية الروائية - إن أمكن – من وجهة نظرنا- بما يتسق مع مدلولات النص .
هذه الرواية تندرج في إطار الأعمال الواقعية النقدية، وتبدو ذات نزعة إنسانية، حيث الانسان هو محور الفكرة وأداتها، الثقة بالإنسان، التركيز على وجوده كقيمة، وتبدو النزعة الأخلاقية ، أو منطق الأخلاق ، هو أداة الحراك الفكري في الرواية، بحيث تشمل العلاقات الداخلية والخارجية لدى الشخصيات ، الأنا والآخر، وإن كان حكم القيمة ينطلق من الأنا الموصفة، مصدرة الحكم، بما هو كائن  وما يجب أن يكون، على مستوى أنسنة الحياة ، الاجتماعية والفكرية والسياسية ، العلاقة مع الآخر، المرأة ودور الوعي وتشكله لديها، والوعي المضاد، وأثر ذلك في العلاقات والمواجهة مع الأنا والآخر، من سفر الاسكندر بطل الرواية إلى موسكو للدراسة والتحصيل، وتعرفه على عوالم جديدة، جغرافية  وسياسية ومعرفية ، وأثر ذلك على بلورة الوعي لديه، ثم العودة إلى سوريا، حيث الوظيفة وهمومها، والعلاقات المجتمعية، المرأة والحب والزواج، وشجون العمل السياسي في تنظيمه، في كل ذلك كان الاسكندر مثال البطل الايجابي ، الذي يشاهد ويرصد ويصحح، وينتقد، ولم سلم من بعض النزوات ، أو ربما ينتابنا جميعاً نوع من الحماقات ، هي سمة الإنسان العادي غير الخارق، حتى هذا لم يمنعه من اجتراح التبشير في كل ما يتصل بالحياة ، ثقافياً واجتماعياً، والتبشير ظاهرة من ظواهر الوعي، وكأن العالم الذي كون لديه منظومة الفكر والتفكير، ساهم في عذاباته من خلال فهم الظواهر، ومتطلبات وعيه ذاته،  لكن.. تبقى الحياة جديرة بأن تعاش  كما يقرر الكاتب، وهو عبر شخصياته الروائية، يشي بفكرة صعوبة الحياة نفسها، الأمر الذي يستولد الكثير من الأسئلة التي تقارب الوجود كيقين، تهزه.. فالإنسان انقطاع كما هو استمرار، وقد لا يستطيع الإفلات من نفسه، طالما هو محكوم بالحياة كما هي، ومن العبث السير عكس ذلك، وربما بهذا نصل مع الكاتب إلى مقولة ( ضد الرواية ).. التي قال بها سارتر، حيث يتم التنكر للمروي بواسطة الرواية نفسها، تهدمه على مرأى منا، في الوقت الذي يبدو لنا أنها تبنيه، تفارق نفسها من أجل أن تجدها، فهل نكون أمام ما يسمى بمجاز الرواية؟.. بالمجاز نجدد مقاربة العالم، ونجدد رؤية العالم، المجاز هنا  وإن كان يردنا إلى الذاتية، لكنه يخرجنا إلى فضاءات منفتحة، وإذا كانت كل كتابة تنتج معنى، فإنها  تنتج بالضرورة فكراً، كل انتاج للمعنى هو انتاج فكري، إنما يتعذر انتاج المعنى إلا بالحرية، حرية التأمل  والتعبير، المعنى غير المجرد، غير المنفصل عن الزمان والمكان، وإلا كانت المسألة برمتها تبشيرية، لا بأس في أن يكون معلقاً أو ملتبساً، كأنه سحابة في سماء تكاد تمطر، النص يتحدث عن رواية ممكنة الحدوث، لكنها تستحيل أن تكون، وفقاً للمعطى الأخير إلا مجازاً، إنها تستحق الحدوث بالمجاز، فهل يكفي ذلك؟.. الأسئلة المثارة ربما لا تستلزم أجوبة، أو أن الأجوبة ليست على هذا القدر من السهولة والبساطة، الذاكرة تولد أسئلة تبدو أجوبتها مناطة  بزمن سابق، وأي زمن؟.. زمن مجازي.. افتراضي ..على مستوى السرد ، لا وفق المعطى الواقعي كمنهجية للنص، ولا على مستوى البعد الدلالي للمحمول الفكري العام للرواية التي تعنى بالالتزام بالإنسان من حيث هو كائن متحقق، على الأقل بالحياة، ويستحق الحياة حيث وجد،  وإذا تحول إلى افتراضي كما هو زمنه، ( الجيل السابق).. فإن الذاكرة نفسها تصبح افتراضية، ليس للهرب من أسئلة الواقع، بل ربما للتماهي مع غموض المعطى نفسه، السؤال الكبير نادراً ما يجد جوابه، وعلى مدار اللحظات يتم إعادة توليف مفهوم الحياة.. لفهم الحياة بشكل أكثر عمقاً، يطمح للدفاع عنها في حالات تمزقها، ولو كان ذلك بالتركيز على مقولات الروح المتكئة على الأسطورة..( لكن النرفانا تخلص من العذاب، فهي السكينة لا يشوبها سخط ولا تذمر..) .. هذه النرفانا هي بمواجهة  ( ريح تكنس الذرى.. والأفق أبعد من المدى، غيوم سوداء تلهث راكضة  تبحث عن الأفق.. ودموع حائرة تنهمر باستمرار..)
هذا الفضاء الروائي، وإن بدا متشظياً ، فإنه لا ينفلت من رقابة الكاتب، إذ ينهض به سارد يتوزع في تقنيات مختلفة، ليبدو النص ليس شكلاً مجتزءاً للحياة، أو مرتجلاً، من حيث تعدد أصوات الساردين، وبفضل الحوارات المدروسة بعناية لتؤدي مقولاً مقصوداً بذاته، النص هنا  شكل من أشكال الحقيقة المتحولة غير العابئة بسيطرة عقل واحد آسر، فنرى الكاتب يكتب أحياناً بانزياح عما يتحدث، ويتحدث أحياناً مفارقاً لما يفكر، ويفكر على عكس ما ينبغي له،  ويترك غيره يتحدث على سجيته، إنه نوع من النصوص المفتوحة، ذات التوليف المدروس، تبرز فيه الشخصية ليس باعتبارها مجرد أداة حاملة للحالة  أو الموقف فقط، بل تتماهى مع ال( نحن) – الآخرين- ونلحظها في ذواتنا كمتلقين، كتأكيد على التداخل والاندماج العقلي مع الحالة المنتجة الطارئة، مرسل  ومتلقٍ.. كاتب وقارئ.
الشخصية الساردة في الرواية، تقوم بعملية مناجاة مستمرة، وسأركز هنا على مسألة المناجاة  والنجوى في كامل مساحة النص، ويتوزع السرد في جملة من الأنساق التي تحرص على البقاء في خط التحكم بالنص وتحولاته، ولا يفقدها مسارها ملامسة الشك لليقين أحياناً، وتدور ثوابت المقول المفترض حول محور ضبط دائم، ليس بالضرورة كمتلازمات تكمل بعضها من حيث القيمة وحكمها، بل كمتغايرات تعطي القيمة لبعضها بحكم التغاير
النص ينهض في أربعة أشكال للضمائر التي تقدم الشخصيات:
- شخصيات تقدم ذاتها.. ( أنا من قال عنه محمود درويش  إنني مندوب جرح لا يساوم).. و( إنني روح شهيد حصدني رصاص وجنازير دبابات الوحوش بعد خروجي من مدينتي المقدسة..)
- شخصيات تقدمها شخصيات أخرى..( إنه حسان  وابنة خالته سوسنة، أخت صديقتي رؤى..)
- شخصيات يقدمها سارد.. وهي الأكثر حضوراً في النص..( ( هيام أحبته، كانت تصغره سناً..)
- شخصية تقدم السارد.. وهي أداة مستحدثة في النصوص الروائية..( كل يرى الأمر من زاوية ووجهة نظر تختلف عن الآخرين، وفي زمن آخر يرى نفس الشخص خلافاً لما يراه الآن..)
الأداة الأخيرة استخدمها الكاتب ربما عندما تقصّد عدم تحمل مسؤولية الحوار على مستوى ما، وقد يكون ارتأى عدم تحميلها للسارد نفسه، وتكون الشخصية موضوعاً لبحث النص، ولا تستطيع وحدها أن تهتم بذاتها دون محايثة السارد أو الشخصيات الأخرى  لحركتها أو تحولها أو حتى حضورها وغيابها.
تنهض هذه الضمائر باللغة ، ومن خلال اللغة المكونة للخطاب السردي، إن في حوار يفترض إقامة علاقة خطابية مع طرف آخر، أو عبر المناجاة المهتمة أبداً بالحوار الداخلي، وعندما يستلزم البناء النصي فصل الأنا السارد عن الأنا الكاتب، يقوم ضمير الغياب( الهو) بمهمة السرد على مسؤوليته، ويكتسب مصداقيته من شخصيته،لكن الهو قد يعني أحياناً ( الأنا)  أو (الأنت).. فأنا ربما كان هو  وهو أنت.. وذلك للتحكم ببداية ونهاية للجملة التصييغية بحضور الأنا الكلية للكاتب، فيجعل من السرد رواية ، ومن الرواية سرداً، في محاولة لتعميق الخطاب السردي، وجعله موازياً للواقع أو الموقف، وإذا كان ضمير الغياب هو الأكثر حضوراً في النص، فإن ضمير المتكلم يبرز أحياناً كثيرة لإذابة الفروق الزمنية والسردية بين السارد والشخصية الأخرى، ومن أجل مواءمة زمنية تفترض تحقق المشاهدة أو المعاينة بالذات في الزمن المضارع، في كل هذا تصبح الحكاية السردية أكثر التصاقاً بالمؤلف، ( أسرت عينه الصورة المنحوتة على البدر.. يارب أعد لي أخي..) .. هنا يقارب المؤلف ذاته شخصيات الرواية، ويحيل على ذاته بفعل الخطاب الجواني ( المناجاة).. التي تقدم الذات الكاتبة في عملية أشبه ما تكون بالرؤية المتصاحبة مع الأنا السارد، الشاهد المشاهد، لكنه يبقى أقل روائية وحرية من ضمير الغياب، أما ضمير المتكلم فيبقى وسيطاً بين الهو والأنا، ولا يحيل إلى خارج قطعاً، ولا إلى داخل حتماً، متوزعاً  في الغياب المتجسد بالـ هو،  والحضور المشهدي في المتكلم، لكنه يتيح حل بعض المشاكل بالنسبة للشخصيات أو للسارد فيما يتعلق بالتوصيف الداخلي لذات الشخصية، كالعدائية المفترضة من الآخر، أو النرجسية المتمثلة بالأنا، ففي  أنت  خلاص للأنا، وإن كان بلعبة تقنية وظيفتها الأساسية هي السرد الذي لا يحمل إضافة دلالية في لحظة معينة، لأن السارد يقدم في الأصل وعيه، المستوحى من وعي الكاتب، فتتداخل الضمائر في الجملة الحوارية الواحدة..( كيف ستتصرف؟.. أين ستجد عملاً؟..  سأسعى في اتجاهين..) .
 المناجاة ليست دائماً هامسة، بل قوية أحياناً كثيرة، وربما نزقة، وقليلاً ما تلجأ إلى التوصيف العاطفي، تضعنا أمام مجرى التفكير، أو جريان الوعي، الذي يقيم صراعه في داخل جواني، فنتمكن من رصد جدل التداخل في وعي الشخصية، أو في نصف وعيها أحياناً  عندما تتابع المناجاة مسارها لتقدم صورة مختزلة ربما للعالم الواقعي  في جملة، أو جمل متتابعة، خصوصاً عندما نقترب في النص من مسألة التأريخ.. أو السيرة الذاتية، عبر وقائع محددة وموصفة،  بغرض إثارة أسئلة الثقافة  والسياسة  والتاريخ،  وإذا كانت المناجاة هي خطاب داخل الخطاب الآخر، المتمثل بالسرد، فإن الأول يحيل إلى الداخل، والثاني إلى الخارج، لكنهما يتضايفان من أجل بعد جديد للحدث وللسرد ذاته، بعد يفترض تشخيص الخطاب العام الروائي في جملة مستويات من حيث الضمائر الناطقة، من مخاطبة الذات ( كيف السبيل إليها وهي من أسرة محافظة .. منضبطة.. يعمل والدها في نقل الركاب).. وأيضاً ( مؤتمرات  اجتماعات   لقاءات.. كلمات تجتر.. آلهة تنصب,, فراغ.. خواء  رياء..).. ثم يتلو ذلك حوار مع الآخر المخاطب،( أهنئكم أيها الرفيق  ).. وقد يكون حضور الشخصية الروائية غائماً، وموارباً أحياناً، ويحل محلها استحضارات تكون ظلالاً لها، لكن الشخصية الساردة ، صاحبة الخطاب، العام أو الجواني، تبقى حاضرة في ذاكرة المتلقي، وفي وعيه، لأن وجودها قائم في أصل البنيان الروائي من خلال نظام الوعي ، فتقوم المناجاة  وتحت رقابة الوعي بمفارقة السرد  في كتابة متزامنة مع لحظة الكتابة، وتتخذ موقفاً يشي بصدق الخطاب المحكي كنشوء لحظي مستقل  أو طارئ،  ( من أنا؟.. أين أنا؟.. هل أنا على الكرة الأرضية؟.. أم معلق بين السماء والطارق؟.. وهل حقاً أنا هنا الآن؟.. أم الحياة مجرد حلم؟.. متى ينتهي هذا الحلم الطويل؟.. أجل إنه حلم.. يارب فليكن حلماً..)..إنه هجس النفس لذاتها، خطاب  يندس داخل اللغة المشتركة بين السارد والشخصية، ويمثل توافق المؤلف والسارد في عملية التساؤل والإجابة،  في السكوت والبوح، في التقطيع  والانطاق، والأنسنة، يقدم مشهداً من الجغرافيا، لكنها ليست هي، إنها تفيض عن الجغرافيا،  تمتد  وترتفع.. وتتطامن..( ينقطع شريط الذاكرة مع توارد صور لأزقة مرصوفة بالحجارة، تدخلها من أبواب مختلفة، بعضها تزينه أقواس حجرية، وتؤدي جميعها إلى مسجد كبير  كبير ، تعلوه قبة بديعة الجمال، أين رأى تلك الأزقة؟.. التساؤل- وهو بالتأكيد من إضافة الكاتب على المشهد- مفيد في متابعة اللعبة التخييلية، دون تبني الحالة من حيث منطقيتها أو عدمها، لكنه يعود إلى التوثيق..( لسبب ما خرجت من البيت ، اجتزت الأزقة والحارات، وخرجت من أحد الأبواب، من باب الساهرة، أو من باب ستنا مريم،  وتهت في الأودية..).. وأيضاً عبارة تهت في الأودية تحيل إلى ذات التصور السابق من حيث التنصل من تأكيد الوجود في المكان غير المتحقق واقعياً، وهي صادرة بالقطع عن مؤلف واعٍ لما يكتب، لا يترك الأمر يفلت من يده، أو من يد سارده، ويبقى البناء متماسكاً  من الناحية المنطقية والتسبيبية للقص، إنه المظهر المتحول أو المفترض للمكان كما يقول( باشلار).. وهو من مظاهر الفراغ والامتلاء المقصود، التقلص والامتداد، نشاط المكان المتولد من نشاط النجوى أساساً.
وإذا كان هدف الكاتب – أي كاتب- أن يكون نصه متضمناً لكل المعاني الممكنة وغير الممكنة، وهو ما يجب أن نتصوره أو نفترضه، فالنص يجب وبالضرورة  أن يبنى ضمن موسوعة غير محدودة العناصر والتخوم ، فما إن نتوهم أننا بدأنا التخلص من لحظة التلقي المباشر، والقصديات الأساسية للنص، حتى تنفتح القراءة على ممكنات لا عد لها ولا حصر، والحقيقة أن الأساس في قراءة النص - أي نص - ليس الوصول إلى مدلول نهائي يطمئن إليه الفكر والتفكير ويعتبره نهاية الرحلة، إن الفائدة تكمن في الإحالات ذاتها، فالنص هو بالنهاية لعبة من الإحالات اللامتناهية ، لا كمّاً دلالياً منجزاً  ومنتهياً.
وربما كان الشكل الروائي في قدس الأقداس، قناعاً فنياً يحاول الكاتب من خلاله إعادة تشكيل تجارب حياته الشخصية بأقصى قدر ممكن من الموضوعية، لأن الهدف من الكتابة ليس المجابهة بقدر ما هو تعميق الفهم بشروط الحياة الخاصة والعامة التي تشكل وعي الذات الكاتبة ضمنها، ومن هنا وجب التركيز في مجال السيرة الذاتية على الصدق في المعلومة  والجرأة في التعبير عن التجربة التي تستوجب التسجيل  أو التوثيق، أو في أبسط الحالات التعميم بواسطة الكتابة، وكاتبنا هنا يبدو كمن لا تعنيه تلك الحدود بين السيرة الذاتية والرواية، وكأنما كان منشغلاً بتقنية كتابة تجعله يبدو كمن يكتب مثلما يأكل ويشرب  ويتحدث  ويحاور  ويخاصم، بهدف إبراز الذات في عريها الفطري، وفي الحقيقة  إن القراءة الأولية للنص تكشف أن المحتوى العام للرواية يتشكل من مواد سيرية، أي من ذكريات الكاتب وتجارب حياته الشخصية، في وسط عائلي ريفي  تلعب فيه علاقات القرابة الدور الأهم في الحياة، وغالباً ما تحيل الرواية إلى فضاءات الطفولة البعيدة وعلاقاتها الحميمة المفتقدة ، للاحتفال بها، كما لو كانت طفولة العالم التي يحرص الفن عموماً على العودة إليها والتذكير بها  لما تنطوي عليه من قيم البراءة والنقاء، وهي قيم لا ينتمي إليها إلا من تذوق المعاناة، وبالأصل كلنا  عندما نكتب  فإنما نكتب سيرنا الشخصية بشكل موارب, وكل كتابة هي في النهاية كتابة عن الذات بشكل أو بآخر،مع الأخذ بعين الاعتبار أن هناك فرق بين أن تكون الكتابة ذاتية واعية بماهيتها هذه ، أو كتابة ذاتية لا تقدم سوى الذات في وحدتها، لأن العمل الروائي يفترض أنه يقدم اختزالاً لفهم العالم والحياة في وعي الكاتب، ويبدو أن  رواية قدس الأقداس هي نموذج من تلك الكتابة الذاتية الواعية، وأريد لها أن تكون متأرجحة بين السيرة الذاتية والرواية التخييلية البحتة، وربما كانتهما معاً ، لأسباب كثيرة ليس آخرها ابتعادها عن أنموذج المذكرات والتوثيق ، وميلها لإبراز( مكبوت النص ) في مكتوبه.. من ناحية، ومن ناحية ثانية إلى إقامة فراق ما  بين فكرة البطل الايجابي، وبين الشخصية الروائية الأولى ( الاسكندر) ، أي أن هناك فرق بين الفرد الروائي والذات الروائية، والحقيقة هي كذلك، فالفرد غير الذات، لأن وجود الفرد كفرد، بالتضاد الحتمي مع وجود الجمع كجمع، كسلطة مانعة، إنما يتحدر من الذات، شرط أن تكون الذات قد وعت ذاتها، هذا الوعي هو المهم بالنسبة لنا ، الوعي الذي غالباً ما شكل فارقاً بين نصوص كثيرة كتبت منذ أجيال ولا تزال تكتب، وعادة ما يتم إلباسها ثياب السيرة الذاتية، من رحلة (ابن خلدون)  شرقاً وغرباً، إلى سيرة (ابن سينا)..  التي أملاها على تلميذه الجرجاني، إلى( أيام) طه حسين  و(إبراهيم الكاتب) للمازني، وزكي نجيب محمود في قصة( نفس)، وغيرها..  وغيرها من النصوص التي لم تعن كثيراً بحمل الوعي الفردي الكاشف، وبين نصوص روائية كتبت انطلاقاً من وعي قوي بفردية أصحابها، انطلاقاً من رغبتها المتعمدة في التعبير عن تلك الفردية، المجابهة لنقل، عن فرد نبعت خصوصيته في أنه اختار طوعاً أن ينتمي إلى الأقلية في مجتمعه انطلاقاً من تكون ثقافي أو فكري و سياسي ، وإذا كان مفهوم السيرة الذاتية تقنياً يستلزم اندماج المؤلف مع السارد إلى درجة يصعب فيها التمييز بينهما، فإن التفرقة تقوم في النص إلى جانب مسألة قصدية إبراز الوعي الفردي، أو حتمية ظهوره بتأثير الذات الواعية كما تمت الإشارة سابقاً ، في التخييل، أو اصطناع التخييل تقنياً، التخييل غير الواقعي بواسطة سارد يتوجب عليه أن يصدق دائماً ما يسرد، في حين أن ذلك ليس مفروضاً على المؤلف، ومن هنا نستطيع فهم لعبة المكان ( القدس).. تذكّر القدس كمكان أول.. أولي.. بدئي، أراد الكاتب أن تكون مكان تشيؤ شخصية السارد ، وموقف الكاتب هنا لا يعدو كونه تحولاً مقصوداً له وظيفته السردية، إضافة للوظيفة المناط بها إبراز الوعي الفردي، بحيث يبقى الموقف في غائيته.. دلالته، وليس فقط في سرديته من حيث المهام التجميلية في السرد، ودائما تنزاح المهمة عن التفاصيل التي ينهض بها السارد، وربما كانت عرضية بالنسبة للمؤلف، ويبدو في ذلك أن النص يبتعد في التخييل  والتفاصيل المتعلقة بالمكان أكثر مما تحتمله موضوعة السيرة الذاتية، خصوصاً في استحضار مكان يستحيل معه الكلام عن السيرة الذاتية، ألا وهو ( القدس).. لاستحالة تصور وجود المؤلف- وهو الطرف المعني بالسيرة الذاتية-  في هكذا مكان، مع الأخذ بعين الاعتبار المكان المحدد في الرواية، ولأسباب تتعلق طبعاً بالآن والإمكان، هو مكان ثانٍ، يخلق فضاءً ثانياً،  وتبقى المسألة متعلقة بإمكان السارد فقط، ويجب النظر إليه في غائيته فقط ، مع التأكيد أن الابتعاد في التخييل لدى السارد، لا تنفي غائية المؤلف، وإلا كنا أمام نص منفلت من الرقابة، وتخييل السارد هنا  هو معطى تقني يبرر ويسبب لفهم لعبة ليس المكان فقط، بل الاسم المتماهي مع اسم الفاتح العظيم، بالإضافة للتقنيات الأخرى التي تحيل إلى مسألة السيرة الذاتية، ونستطيع من خلال التركيز على أسلوب المناجاة التي لا يتصور حضورها بهذا الحجم في نص غير معني بالسيرة الذاتية أن نفهم ذلك ، إضافة لوجود مقاطع شعرية كثيرة.. وشبه شعرية، لا يمكن أن  ترتد طبعا – وفي أي نص- إلى السارد، بل إلى المؤلف بطبيعة الأحوال، وقد كثر الحديث في هذه المسألة بالنظر إلى نصوص لكتاب كبار ينفون موضوعة السيرة الذاتية عن أعمالهم، وتبقى المقاطع الشعرية المتضمنة بهذا دون أب أو أم في النص، من حيث غياب المؤلف  واتصالها بالسارد فقط، وحتى في مجال طرح الرؤى والأفكار، فإن كاتبنا يبدو حاضراً بقوة، يوصّف  ويعمم  ويؤرخ، كما في ( فصول الجنون).. وهو بكامله تقريباً من هجس ذات المؤلف الواعية لما تقول، وتنزع مقولات الرؤية باتجاه التركيز على تفاصيل المشاعر  والموازنة  والتقييم، وإعلان أحكام القيمة، فاسم الاسكندر( باني الإسكندرية والفاتح العظيم) .. مختار بعناية وبشكل مدروس وفق تقديري ، بحيث أن السارد لا يكون متجاوزاً منطق الأمور العقلية مهما أوغل في التوصيف، فالاسكندر والقدس - كاسمين- يعطيان كرمز أكثر مما يأخذان، في كل الأحوال تبدو الحركة بالأصل من الناحية التقنية وكأنها تشكل نوعاً من تثاؤب النص، لكن هل كان النص بالأساس يشكو من كسل أو ترهل؟.. لا نعتقد ذلك، فالسارد بدا بعد هذا كله وكأنه يتابع بقوة  ما بدأه من سرد، لكن دون أن يبنى على الشيء مقتضاه ، فالقدس وشوارعها والمسجد الأقصى، ومسألة الحياة الأخرى، السابقة، أو المفترضة، لم تفتح أو تعد بفتح فضاءات جديدة أو مختلفة، متصلة أو مفارقة لمسار السرد الأصلي، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن المسألة تحيل إلى كلام مختلف  فيما يتعلق بمنظومة الفكر لدى الكاتب ، على مستوى الموقف من الماورائيات ( الميتا وجود).. ولا نستطيع الدفع بمعرفتنا الصميمية بالكاتب ، فهذه مسألة أخرى، تتعلق بإمكانية الحكم بالعلم الشخصي ، ومن وراء النص، نحن تعرفنا على ( الاسكندر).. المناضل التقدمي في حزب معارض، الذي يتمتع بعقل نقدي ،( الصدق والحب أعمق أشكال الإيمان..كما أنني لا أنسجم مع التعصب الديني..).. وأيضاً ( تصوري ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين، في عصر الكومبيوتر والاتصالات، يرسل شباب وشابات جامعيون، مهندسون وحقوقيون،وأطباء وحاملو شهادات برمجة كومبيوتر، يرسلون استخارة من مدينة نائية إلى شيخ في العاصمة لمعرفة رأيه في خطبة فلان على فلانة،أو الاستفسار عن كيفية دخول الحمام، بالرجل اليسرى أم اليمنى)..وأيضاً ( أنصحك بقراءة الكتب العلمية، والتاريخية والنقدية، من مختلف المدارس والاتجاهات).. ويتكلم بجرأة حتى داخل التنظيم، ويصدر عن فهم متقدم فيما يتصل بالحياة الحزبية  والحياة العامة، وبدا أحياناً كمن يتنبأ بما سيحدث لاحقاً في تنظيمه من انقسامات، كيف لا والأمور تقرأ من مظاهرها ( أغلب تقارير المنظمات التي أعدت من قبل أمنائها  أيدت التقربر  وأطنبت في الإشادة  بمضمونه، كيف لا  وهؤلاء الأمناء منتقون بعناية ليبقوا مؤيدين للقيادة التي عينتهم بأسلوبها الديمقراطي العتيد..).. حتى أن إيراد المداخلات المفترضة في الاجتماعات  أو المؤتمرات، تبدو وكأنها وثائق حقيقية، من حيث التفاصيل  وتسمية الأشياء بمسمياتها، حتى لغتها وأسلوبها ، بما يشي بنوع من التوثيق، أو أريد له أن يكون كذلك، وأعتقد أنه من التزيّد بمكان القول بالفصل هنا بين السارد الذي يوجه الشخصية ، ويقولها.. ويتقول على لسانها، وبين الكاتب، ما يقطع بحتمية القول بالسيرة الذاتية، لكن مسألة القدس والحياة الأخرى، تأتي لتقطع النسق العام الذي يضعنا الكاتب أمامه، مما يخلخل البنية الروائية ذاتها، ونصبح حيال سيرة ذاتية إشكالية، من نوع خاص، سيرة مغلفة ، مغطاة بغطاء رقيق شفاف، وكيف يحجب الشفق الضباب؟..
   إذن لا يبقى أمامنا سوى الافتراض أن الكاتب ربما أراد الهرب من تهمة لم تثبت عليه بالأصل، وهي النرجسية، هذه الصفة يمكن تلمسها لدى السارد، المتماهي مع الاسكندر العظيم، ويستعير الكثير من صفات هذه الشخصية ، خصوصاً ما يتعلق بالنبل والشجاعة، لكننا نسأل هل صفات النبل والشجاعة، وحتى بناء الاسكندرية، تكفي لتجاهل مسألة الغزو واجتياح البلدان، ؟.. فهذا الفاتح، يصنف وفق تقدير سارد الكاتب، الاسكندر الجديد، وهو ضمير الرواية بامتياز، وبما يقدم نفسه لنا في النص بحيث يمكن تلمسه كنسق عام، أن الاسكندر الكبير وأمثاله ، هم من الغزاة ، الذين أرهقوا العالم بمغامراتهم العسكرية، فكيف يتسق الأمر بيننا وبين الكاتب هنا؟.. ولماذا لم يكن  خالد بن الوليد أو عمر بن العاص أو الناصر صلاح الدين مثلاً؟.. أو الظاهر بيبرس؟.. خصوصاً أن المكان هو القدس، وليس الاسكندرية، ومن منهم الأكثر تمثيلاً لهوية القدس مقارنة بالاسكندر ؟.. هل يمكن القول بأن الأمور هي هكذا من حيث الحقيقة؟.. وأية حقيقة؟.. لا يستطيع الكاتب إلا أن يسلم معنا بأن الحقائق الروائية هي في النهاية  حقائق محايثة للواقع أو للخيال، ربما يقول أنا لا أتبنى بالضرورة مقولات السارد،  لكننا نعلم أن هذا الأخير يخفي وراءه  مؤلفاً،  والاسكندر كشخصية ساردة هو الشخصية الرئيسية في الرواية، وعليها تقع مسؤولية مقولات الرواية، خصوصاً عند استخدام ضمير الأنا في القص، إذن المسألة تتعلق بشخصية الاسم والمسمى معاً ، وإحالات ذلك على الوعي الذاتي للكاتب، ومدى مطابقته للمقول الفكري العام في الرواية .. وعلى لسان السارد تحديداً، أما مسألة المكان، فلا تشكل في تقديري مشكلة ، حتى على المستوى البنائي، إذ لا تعدو كونها تناصاً توثيقياً، الهدف منه متابعة التخييل السردي في مستوياته المفتوحة، وليس في مساراته الأصلية التي لم يطرأ عليها تبديل أو تغيير في المسار الخطي للرواية، فمثل هذا الوصف لمدينة القدس بالتفصيل الوارد، يفترض المشاهدة والمعاينة الحقيقية، وقد يبدو تحميل ذلك ، أو نسبته إلى السارد أمراً طبيعياً، وتعطي انطباعاً باللجوء إلى المراجع المختصة التوثيقية بالنسبة للمؤلف، وليس عليه – أي المؤلف سوى السير بلعبة عدم تصديق سارده، ( والقدس  أين القدس في كل ذلك؟.. سأل الاسكندر.. لا تضحك الناس على سذاجتك، أجاب الفيومي)... لكن ألا يثير كل هذا نوعاً من الأسئلة قد لا يكون الكاتب معني بالإجابة عليها في النص، أو ربما يكون، فهو بحركته تلك أصبح سليل معنيين معنى( أب)، هو معنى المجاز الذي أتاح التجلي باسم الاسكندر، وما يستتبع ذلك من معاني العقل والفكر والثقافة، ووحدة المكانين المفترضة تاريخياً وثقافياً، ومعنى( أم)، هو معنى الحياة بالجسد ، وكل منهما يحيا في قلبين منفصلين، فكيف سيتحول هذا المعنى الروائي إلى الحياة في قلب واحد؟.. وهو يمثل وحدة المختلف المؤتلف، أو المتصل المنفصل، هل هذا  لمساءلة الهوية؟.. بوصفها عالماً مغلقاً؟.. فالهوية ربما أصبحت اثنتين، بهذه الخلخلة ربما انبعثت في الرواية إمكانات واحتمالات كثيرة فيما يتعلق بالذات والآخر، تتكلم الذات مع الآخر، الفرد والجمع، كأنهما هوية واحدة، ويصبح الكاتب كأنه وسيط بينهما، ويصبح النص كأنه نسيج يندرج  المحيط الجيو ثقافي  والحضاري والتاريخي في خيوطه،  صوت واحد تصدح به حنجرة الكون، وما نسميه ( الأنا).. يصبح الـ(  نحن ).. أو الأنا المستمرة في الماضي والحاضر ، وربما المستقبل  في تمظهرات متوالدة من بعضها، وتحيل إلى معناها.
قدس الأقداس.. رؤية روائية تمجد الحياة التي تستحق أن تعاش، بتمجيدها للإنسان  وهو يدير صراعه الخفي ، أو المعلن مع الحياة.
*     *    *     *     *
افتتح النقاش الأديب مالك صقور مبيناً أنه جرى التأخر في الحديث عن الرواية... وتحدث تلازم هذه الندوة مع إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية، مبيناً أهمية ومكانة القدس وعظمتها فهي مدينة تلتقي فيها الديانات الثلاث، وهي مكينة كبيرة برمزيتها أكبر بكثير مما يجري اليوم... متمنياً أن تعود القدس إلى أهلها، منوهاً بتقرير الكاتب بأنّه: من أجل القدس الحياة جديرة أن تعاش... ثم انتقل إلى التعريف بالرواية، مبيناً أنّه تتألف من 28 فصل يمكن أن تكون في 28 رواية، فيها النثر والشعر ... وقال: لن أتحدث عن الرواية فنياً لأنّ الملوحي، وسلمى سلمان، وعلم الدين عبد اللطيف أغنوا هذا البحث، فيها لعبة فنية جميلة، فلسطيني يتقمص يقول لأبيه أنا فلسطيني... يلتقي بفاديم اليهودي الروسي مرتين... يذكرني فادين بليبرمان...
الرواية رواية إشكالية تمثل اختزال العالم في فكر قارئها...
ثم تحدث مجموعة من الأدباء متسائلين إن كان أدب السيرة الذاتية يرقى إلى مستوى الرواية، وتوقفوا عند مسألة النجوى في النص، وماذا تقدمه فنياً، وتحدث الأديب محمود حسن عن ضرورة الابتعاد عن المباشرة والتسطيح، وتساءل كيف يؤمن ماركسي بالماورائيات والتقمص؟
وتحدث الأديب سمير حماد عن الرواية بحميمية مبيناً أنّها ملحمة مناضل حقيقي ورجل حقيقي في وجه الفساد... ونوه إلى أنّ الكاتب أدخل مقطوعات شعرية ربما ليستريح أو يريح القارئ... ونوه إلى أنّ الكاتب كان موفقاً في اختيار اسم بطل الرواية (الاسكندر) وموضوعها القدس ومحاربة الفساد...
 
*     *    *    *     *
وفي الختام تحدث مؤلف الرواية الأديب شاهر أحمد نصر شاكراً فرع طرطوس لاتحاد الكتاب العرب على تنظيمه هذه الندوة لمناقشة رواية "قدس الأقداس"، وتلازمها مع إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية، وتابع قائلاً:
أشكر لكم حضوركم، وأشكر الأديب الناقد والمحامي علم الدين عبد اللطيف على دراسته النقدية لرواية "قدس الأقداس" وإنّه لشرف لي، ولرواية "قدس الأقداس" أن تقام هذه الندوة مع إعلان القدس عاصمة للثقافة العربية، وأصارحكم أن مسألة القدس هي أحد أسباب كتابتي هذه الرواية  عام 1995  والتي صدرت طبعتها الأولى عن دار الكنوز الأدبية في بيروت عام 2001، وطبعتها الثانية عن دار المركز الثقافي بدمشق عام 2007 وأثمن الجهد الذي بذله الأستاذ علم الدين لإعداد هذه الدراسة، وأود أن أهنأه على أسلوبه وحسه النقدي الذي مكنّه من الغوص في كثير من المفاصل في عمق البنية الروائية بنجاح ومقدرة. كما أشكر جميع السادة الأدباء الذي قدموا مداخلات أو تساؤلات حول الرواية، وفي هذه المناسبة أجد واجباً علي أن أذكر بالامتنان الأستاذ عبد المعين الملوحي، الذي قدم مشكوراً للطبعة الأولى من الرواية، ورأى أنّها تعكس ارتباط عربي بفلسطين وبقدس الأقداس خاصة... وأشكر الأستاذة الفاضلة سلمى سلمان التي عنونت مقالها النقدي للرواية بـ"الإنسان عندما يستعصي على الفساد"...
  أعتقد أنّ كثيراً من الأفكار والآراء التي أثيرت حول الرواية قيمة ومفيدة، التي قد أتفق وقد أختلف مع الكثير منها... ولا شكّ أنّكم تعلمون أنني بعد إصدار هذا النص أصبحت أنظر إليه نظرة نقدية، وأنني عندما كتبته، وبعدما نشرته لم أشعر كأي كاتب أنّه يمثل الكمال، ويثير كامل الرضى... لكنني رغبت في تناول وإثارة قضايا، وتقديم مادة زعمت أنّها ستكون مفيدة، وأنّ الكثيرين يتجنبون إثارتها...
  أوافقكم الرأي أنّ الجوانب الجمالية ركن أساسي في العمل الفني، وأعتقد أنّ موضوع العمل الفني وبنيته أيضاً هو أحد أركانه وجانب من جوانبه الجمالية... متسائلاً هل تمت مقاربة موضوع الرواية مقاربة كافية في هذه الندوة... إنني من أنصار الاستفادة من جميع المدارس والمذاهب الفنية، بما في ذلك مقولة أو نظرية الفن للفن، لا توجد لدي أية مواقف متزمتة من أية مدرسة، أجهد للاطلاع عليها جميعها، والاستفادة منها بالتحرر من قيودها... أحاول أن أكون حراً... وأقيس حريتي بقدر ما أستطيع تقديمه لإثراء إنسانية وحرية الإنسان... وعندما أقول الإنسان أعني بالدرجة الأولى ابن وطني الذي يقاسمني حياتي اليومية، ومن ثم الإنسانية جمعاء... يقول البعض جهد الكاتب لتقديم كل ما لديه دفعة واحدة... أقول: الرواية حياة... والكتابة مسؤولية... نعم من الضروري أن يجهد الكاتب، ويجهد، ويقدم كل ما لديه وأفضل ما لديه احتراماً لنفسه وللقارئ... ولا أعتقد أنه من الإنصاف اتهام النبع عندما يتدفق أنّه يقدم كل ما لديه... النبع يقدم ما يقدمه، المهم أن تكون مياهه عذبة وتدفقه جميلاً... نعم من الضروري أن يقدم الكاتب ما لديه عاملاً بالقول المأثور: "اعمل لدنياك كأنّك تموت غداً، واعمل لآخرتك كأنكّ تعيش أبدا"...
  يوجد لدي الكثير مما أريد قوله، لكنني سأوجز كثيراً، واسمحوا لي أن أتقدم ببعض الأفكار التي أتمنى أن تتضمن إجابات حول استفسارات البعض:
  هل لامس العمل جوهر بنيتنا وحالة إنساننا... أ تضمن في طياته مأساة الانتظار، وتحقيق وانهيار كل الآمال. أيدفع النص القارئ على التفكير بالحاضر والمستقبل... أليست القدس والقضية الفلسطينية متجذرة في أعماق أعماقنا، ألا تجري في عروقنا ودمائنا، ألا يشعر كل واحد منا أنّه فلسطيني... ألا يتقمص فلسطيني كلاً منا كما تقمص الاسكندر الكنعاني فلسطيني سحقته جنازير دبابات المعتدي الغاصب؟ أليس الفساد الطاغي ضمن البنية المحمية بالأحكام العرفية هو أحد أهم عوائق عودتنا إلى القدس؟ وفي خضم هذه اللوحة القاتمة ألا يوجد من يحبون الوطن محبة صادقة أمثال الاسكندر، وهل تقل مقارعة الصهونية وربيبها الفساد عن أية فتوحات عظمى؟ علماّ بأنه لا توجد علاقة بين الاسكندر في الرواية والاسكندر الفاتح، ولقب الاسكندر منتشر كثيراً في موروثنا، وموروث مختلف الشعوب، وإذا أردتم أن أسترسل أكثر، أذكركم بأنّ الثوري الروسي الكسندر شقيق لينين الأكبر الذي أعدمه القيصر كان من أكبر الحوافز التي دفعت لينين في الاتجاه الثوري والذي قاد ثورة غيرت وجه التاريخ...
  أحد الأسئلة التي أطرحها على نفسي عندما أكتب هو: هل أحبت الشخصية الوطن، والحياة، والإنسان، والحرية حتى النهاية؟ هل صانت المحبة: عبق وسر إنسانية الإنسان؟ هل استطاعت أن تحفز مثل هذه المشاعر عند المتلقي؟ هل لامست القلب، وحفزت العقل؟ هل استطاعت أن تقبض على جوهر قوة وإنسانية الإنسان؟
محكوم على الإنسان الحقيقي أن يكون قوياً. علينا أن نبقى أقوياء...  هل نعرف ما هو كامن في أعماق الإنسان؟ وأين يكمن سرّ قوتنا؟ هل المخرج في الفكر، أم في الحلم، أم في الواقع، أم فيها جميعها؟
  يبدو أنّ الاسكندر ولد في زمن يعمم فيه داء العقم، لكنّه يتعايش بصبر مع الأيام القاسية ويأبى أن ينكسر... وأمثاله في أعماق المجتمع كثر... ألا نحتاج دائماً إلى من يشبهه، كي تبقى الحياة جديرة أن تُعاش. أشكركم ثانية... ونأمل أن تكون لقاءاتنا قريبة في القدس محققين أحلام الاسكندر في أن يجد رغيفاً غير مشوه، ويعيش لحظات من الحرية، ويعود إلى مدينته الحبيبة القدس.

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب