منذ بدأ الجهاد في سبيل الله , وهناك من يقع من المسلمين أسير بيد الكفار , فإما انهم يقتلونهم شرَّ قِتلة , وإما انهم يذيقونهم أصناف العذاب والذل والإهانة , مع السجن الطويل في المعتقلات يتمنون الموت ولا يجدونه , فيتجرعون هم وأهاليهم مرارة الأسر والفراق , كما يحدث اليوم مع الكثير من المعتقلين في أراضي القتال والجهاد , كفلسطين وغيرها من البلدان الإسلامية المستباحة من قبل الكفار .
وهذا أيضاً ما صوره كُل من خُبيب بن عدي - رضي الله عنه -, والوزير الكاتب أبي بكر الأشبوني(1) , - كما سيأتي لاحقاً -.
   ولذا كان الإمام أحمد بن حنبل الشيباني – رضي الله عنه – , يرى أن يقاتل المجاهد حتى الموت ( الشهادة ) ولا يستسلم للعدو , فيقول : ( ما يعجبني أن يَسْتأسِرُوا . وقال : يُقاتل أحب إلي .. الأسر شديد ولابد من الموت . وقال : يٌقاتل ولو أعطوه الأمان قد لا يفون )(2) .
ثم لا ننسى ألم ومعانات أهالي الأسرى-  وخاصة الأمهات – , ومن ذلك ما روى الواقدي في " فتوح الشام " عن قصة صابر بن أوس الذي أُسر في أحد المعارك , فكانت أمه مزروعة بنت عملوق الحُميرية – وهي من فصحاء زمانها - تندبه و تبكيه , وتقول :
أيـا  ولـدي قـد زاد قلبي تلهبا
وقـد أضرمت نار المصيبة شعلة
وأسأل عنك الركب كي يخبرونني
فـلم  يكن فيهم مخبر عنك صادقاً
فيا  ولدي مذ غبت كدرت عيشتي
وفـكـري مـقسوم وعقلي مولهٌ
فـإن تـك حـياً صمت لله حجةً
 
 
 
 
 
وقـد أحرقت مني الخدود المدامعُ
وقد  حميت مني الحشا والأضالعُ
بـحـالـك  كيما تستكن المدامعُ
ولا مـنـهـم من قال إنك راجعُ
فـقـلبي  مصدوع وطرفي دامعُ
ودمـعـي  مسفوح وداري بلاقعُ
وإن تكن الأخرى فما العبد صانعُ
    بل قد يضطر البعض من الأسرى إلى إذلال أنفسه , فيلجئ إلى مدح رؤساء وكبار الكفار من أجل استعطافهم كي يخلوا سبيله ويطلقوا سراحه , كما حصل لعمر بن حسن النحوي الصقلي – رحمه الله – , الذي وقع أسيراً عند نصارى صقلية , فانشد أبياتاً يمدح بها ملك صقلية " رُجّار " لعله يُفرج عنه , يقول فيها :
طـلب السلوّ لو أن غير سُعاد
ورجا  زيارة طيفها في صدها
والله  لـولا الملك رُجّارُ الذي
ما عاف كأس المجد يوم فراقها
 
 
 
 
حـلـت سـويداء قلبه وفؤاده
وغـرامـه  يـأبى لذيذ رقاده
أهـدى  لـحُـبيّه عظم وداده
ورأى مُـحيَّا المجد في ميلاده
فعلق أبو الحسن القِفطي – رحمه الله – على هذه الأبيات , قائلاً : " والله يغفر لهذا الشاعر في مدحه الملك الكافر , ولكنه معذور , إذ هو مأسور "(3) .
 ومن أشعار الأسرى والمعتقلين من الصحابة , ما جاء في السيرة النبوية أن خُبيب بن عدي – رضي الله عنه - وقع في قبضة مشركي هذيل أسيراً , فلما اجتمعوا عليه وقربوه للقتل , طلب منهم أن يصلي ركعتين – وكان أول من سن الركعتين عند القتل – , ثم دعا بعد ذلك , وقال : " اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا ثم قال :
لـقـد أجـمع الأحزاب حولي وألبوا
وكـلـهـم مـبـدي الـعداوة جاهدٌ
وقـد قـربـوا أبـنـاءهم ونساءهم
إلـى  الله أشـكو غربتي بعد كربتي
فذا  العرش صبرني على ما يراد بي
وقـد  خـيروني الكفر والموت دونهُ
ومـا  بـي حـذار الموت إني لميت
ولـسـت  أبـالـي حين أقتل مسلماً
وذلـك  فـي ذات الإلـه وإن يـشأ
فـلـسـت بـمـبـد لـلعدو تخشعاً
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
قـبـائـلـهم  واستجمعوا كل مجمعِ
عـلـي لأنـي فـي وثـاق بمضيعِ
وقـربـت  مـن جـذع طويل مُمنع
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فـقد  بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
فـقـد  ذرفت عيناي من غير مجزعٍ
وإن إلـى ربـي إيـابـي ومرجعي
عـلى  أي شق كان في الله مضجعي
يـبـارك  عـلى أوصال شلوٍ ممزعِ
ولا  جـزعـاً إنـي إلى الله مرجعي
فقال له أبو سفيان : أيسرك أن محمداً عندنا تُضرب عنقه وإنك في أهلك ؟ فقال : لا والله , ما يسرني أني في أهلي , وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكةٌ تؤذيه "(4) ومن أشعار من وقع في الأسر أيضاً , أعشى همدان الذي كان ضمن من أغزاه الحجاج بن يوسف الثقفي بلاد الديلم , فقال يشكو حاله وشدة الكرب الذي أصابه في الأسر(5) :
أصـبـحـت  رهـناً للعداة مكبّلاً
ولـقـد  أرانـي قـبل ذلك ناعماً
واستنكرت ساقي والوثاق وساعدي
وأصـابـنـي قوم وكنت أصيبهم
وإذا  تـصـبك من الحوادث نكبة
 
 
 
 
 
أمـسي وأصبح في الأداهم أرسف
جـذلان آبـى أن أضـام وآنـف
وأنا امرؤ بادي الأشاجع أعجف(6)
فـالآن  أصـبـر للزمان وأعرف
فـصـبـر  لـهـا فلعلّها تتكشّف
 ومن أكثر من حفظ عنه الشعر في الأسر ، أبو فراس الحمداني الذي أسرته الروم , فقال قصائد متعددة سميت بالروميات لكثرتها , ومن أجملها , وأشهرها قوله وقد سمع حمامة تنوح بقربه على شجرة عالية(7) :
أقـول  وقد ناحت بقربي حمامةٌ
معاذ الهوى ما ذقت طارقة الهوى
أتـحـمـل محزون الفؤاد قوادمٌ
أيـا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
تـعالي  تَريْ روحاً لدي ضعيفةً
أيـضـحك مأسورٌ وتبكي طليقة
لـقد كنتُ أولى منك بالدمع مقلةً
 
 
 
 
 
 
 
أيـا  جارتي هل تشعرين بحالي
ولا خـطـرت منك الهموم ببالِ
عـلى غصن نائي المسافة عالي
تـعـالـي أقاسمك الهموم تعالي
تـردَّدُ فـي جـسـم يُعذب بالي
ويـسكت  محزون ويندب سالي
ولـكنَّ دمعي في الحوادث غالي
 ومن رومياته أيضاً من " يتيمة الدهر " للثعالبي :
أراك  عـصي الدَّمع شيمتك الصبرُ
بـلـى أنـا مـشتاق وعندي لوعةٌ
إذا الليل أضوى بي بسطت يد الرجا
تـكـاد  تضيء النار بين جوانحي
 
 
 
 
أمـا  لـلـهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ
ولـكـن مـثـلـي لا يذاع له سرُ
وأذلـلـت  دمـعاً من خلائقه الكبرُ
إذا  هـي أذكـتـها الصبابة والفِكرُ
 وللوزير الكاتب أبي بكر محمد بن سوار الأشبوني الأندلسي , - الأنف الذكر – قصيدة طويلة ومعبرة , قالها وهو أسير في مدينة قورية(8)، يصف بها كيفية القبض عليه حينما هجم عليهم النصارى(9), منها قوله :
ولـمـا بـدا وجـه الصباح تطلعت
فـقلت  لهم : خيل النصارى فشمَّروا
وكـانـت  حـميّا النوم قد صرعتهم
وأفـردت سـهـمـاً واحداً في كنانة
وكـنت  عهدت الحرب مكراً وخدعةً
فـطـاعـنـتُهم  حتى تحطّمت القنا
وأضـرِّج أثـوابـي دمـاً وثـيابهُم
وأحـدق  بـي والـموت يكشر نابه
فـأعـطـيـتها وهي الدنية صاغراً
فـطاروا  وصاروا بي إلى مستقرهم
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
خـيـولٌ مـن الـوادي محجلةٌ غرُ
إلـيـهـا وكـروا هاهنا يحسن الكرُّ
فـفُـلُّـوا ولـوا مـدبرين وما فرّوا
من الحرب لا يُخشى على مثله الكسرُ
ولـكـن  من المقدور ما لامرئ مكرُ
وضـاربـتـهم  حتى تكسرت البُتر
كـأنّ  الـذي بـيـني وبينهم عطرُ
ومـنـظـره  جـهـمٌ وناظره شزرُ
وقد  كان لي في الموت لو يدني عذرُ
يـصـاحـبـني ذلٌ ويصحبهم فخرُ
 ونختم ببيتين لعبد الله بن إبراهيم بن مثنى الطوسي المعروف بابن المؤدب ، المأسور بصقلية(10) :
لا يـذكـر الله قـوماً
جاهدت بالسيف جهدي
 
 
حـلـلـت فيهم بخيرِ
حـتى أُسرت وغيري

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب