ما دام رشدي شاعراً غنائياً مفرطاً بالرومانسية لابد أن نتوقع تناغماً يحصل في بناء قصيدته ولمعرفة هذا علينا دراسة شعره من حيث البناء .
إن شعر رشدي الذي بين أيدينا يقسم إلى قسمين من حيث البناء ، الأول قصائد متوسطة الطول تتكون من عدة أبيات ومن الشعر العمودي وهذا يتمثل في ديوانه الأول ( همسات عشتروت ) فهي قصائد وجدانية كانت تمثل بداياته ولو كان الشاعر لم يطبع هذا الديوان وبعد مرحلة نضجه لما طبع تلك القصائد فهي تفتقد ذلك الترابط بين أبياتها فإننا لو أجرينا تطبيقاً بحذف بعض الأبيات وتقديمها أو تأخيرها لرأينا ذلك التفكك والحشو في القصيدة ، ففي قصيدة حرمان([1]) المتكونة من ستين بيتاً لو حذفنا وأخرنا لما حصل تخلخل في موضوعاتها فالقصيدة تبدأ بالمطلع :
ظلال الحياة ظلال الدجى تهوم في لحنها الموعـد
هدوء عميق على جانبيه وليـل يهيم به سـرمدي
وأنعام لحن رخيم جميـل ولطف نسيم الصبا المائد
ففي الأبيات الثلاثة لا يتوقع القارئ إننا جمعناها من أجزاء متفرقة من القصيدة فرتبناها بهذا الشكل فنجدها ذات فكرة مرتبة ولو أجرينا حذفاً لغيرها من الأبيات أو تقديمها لما حصل تأثير في القصيدة وهذا ما يدل على إن الشاعر في بداياته لا يهتم في بناء قصيدته وعندما نضج شعره ازدادت تجاربه بدأ يركز كثيراً على جمع أطراف قصيدته . والذي لمسناه في دراسة شعره أنه أستطاع أن يتخلص من هذا التفكك فلجأ إلى تقسيم قصائده إلى مقاطع وهذا النوع الثاني الذي بنى عليه الشاعر نظام قصيدته التقسيم هذا يجسد موقفه الشعوري الموحد وأن المقاطع طالت أم قصرت سوف تساهم في نمو قصيدته .
وقد جمع بين الشعر العمودي والحر في بداية حياته وبعد الديوانين الأولين ( مسات وأغان) بدأ يعتمد على القصيدة الحرة أكثر من العمودية وأن قصائده المتضمنة عدة مقاطع لا تعني أنها تملك نفساً واحداً فأن محاولاته الأولى تفتقد تماماً هذا الجانب ولكنه في دواوينه الخمسة التالية استطاع أن يقدم قصيدة ناجحة يقل فيها هذا التفكك في البناء
وكما يقول أحد الباحثين( أن من العبث أن نطالب الشاعر في قصيدة غنائية الإتيان بأبيات يأخذ بعضها برقاب بعض فذلك لانجد إلاّ في القصيدة الدرامية)([2]) .
وليس بمكاننا أن نحلل جميع قصائد الشعر الحر في هذه الدراسة المحدودة ولكن لا بأس أن نختار للشاعر قصيدتين نقدهما بعض النقاد كي نكشف ونلمح إلى ذلك البناء الذي تكونت منه قصيدته والأفق الفكري والمعنوي الذي أراده الشاعر في أسلوبه . ومن القصائد المشهورة قصيدة الرحيل فهي قصيدة تستوفي المرء عند بنائها ولغتها وعنايتها الفنية ولا نلوم عبد الوهاب العدواني عندما درسها ونقدها مسهباً وأضاف إليها تكملة لعنوانها([3]) .
والقصيدة ندرسها ثم نعطي حكمنا النهائي فهي قصيدة مهمة للشاعر شبيهة بقصائد السياب التي أشتهر بها مثل أنشودة المطر وحفار القبور ، وكما كان المطر رمزاً عند السياب أتخذ رشدي الرحيل رمزاً لما فيه من دلالات نفسية تعبر عن المعاني وما في ألفاظها من إيحاء ورموز ، القصيدة تتكون من خمس مقاطع وفي المقطع الأول قال:
في عينيه الصافيتين السوداوين تراوح دمعه
في شفتيه اليابستين تغرد لوعة
ما أقسى أن يشعر الإنسان
وهب الأرض للحب
وأعطى للوطن الصامت ما يملكه الإنسان
ويعود بلا وجه
لا كسرة خبز
لا باقة ورد
لاشيء سوى الأحزان([4])
يخبرني إن طعام الغربة مر
كان الحب الأول
والبيت الأول
والقافية الأولى
في أهداب قصيدة
يهمس لي ما أقسى
أن يفترش العاشق حقل النسيان .
ثمة إشارات أرادها الشاعر وأولها صورة الوطن [الصامت] الذي أعطاه تلك الصفقة إشارة إلى تذكرة لأبنائه المشردين ثم الحب الأول والبيت الأول والقافية الأولى أراد بها الشاعر الإشارة إلى بواكير الأشياء ، فالباكورة الجديدة لها ذاتها ونشوتها ثم يشير إلى مرارة الغربة التي يعاني منها المغترب ويحب الرحيل بدلاً من الحرمان لا كسرة خبز – ولا باقة ورد لاشيء سوى الأحزان .
وما الرحيل إلاّ سبب العودة إلى الوطن (الوطن – المرأة – الابن) وحين ينظر إلى أبنه علي بعينين صافيتين دامعتين لم تفقد براءة الأبوة ويتحدث إليه بشفتين يابستين ثم يشير إلى عمق حبه للوطن([5]) قائلاً
هذا وطني سأقبل تربته الخضراء
هذا وطني خذني من المهد إلى اللحد
وطرز أقمطتي السمراء .
فهو يخاطبه ويذكره بالوطن الذي رعاهما طفلين ( لأب وأبنه) وقد عاد إليه ببراءة الطفولة معانقاً بكل ما بها (الصبح – الليل – السجن-الموت) قائلاً :
هذا وطني في الليل أراه ..
في الصبح أراه ..
في السجن أراه
في الأكفان البيضاء .
وفي المقطع الثاني نجده قائلاً :
ناديت الوطن أراحل عني
والأنهار ... قال وأعذاق التمر
وكانت غابات النخيل بعيدة
وغطى في عينيه الظل وما جاوبني أحد
همست لي نفسي أنت غريب في الوطن النائي
ووحيد في ليل الغربة خلف البحر..
حزين في صبح الرقص عيونك في الشمس([6]).
فالوطن سر حياة الإنسان إذا توحد الشاعر مع وطنه يصيح النسيان صعباً لأن الإنسان الحر لا ينسى ذاته فالوطن للشاعر هو الحب الأول والبيت الأول في قصيدة وجوده الإنساني ، ونجد تناقضاً في هذا المقطع أشار إليه عبد الوهاب العدواني " هذا الكلام في القصيدة جداً خطير ومرد خطورته إلى أن الشاعر يتحدث عن وطن غير الوطن الذي يعاصيه على النسيان ، والنسيان في تفكيره الشعري كائن خرافي غريب مقدوره أن يغتال كل شيء فهو باب ودرب ورحله وزمن وضفة ومرفأ ومحار "([7]) .
ورشدي يشير إلى نفسه مقيماً ووطنه راحلاً تأكيداً لحالة الحب من طرفة ورمزاً لحالة الرفض والتنكير في الطرف الآخر ، وإن المدهش في تصوير حالتي ( الإقامة والرحيل] أن يحاول الفعل الشعري ، إضاعة معالم الوضوح في الموقف المتبادل بين الوطن ومشاعر المغترب تعزيزاً للوحدة الوجدانية بينما من طرف الشاعر وحده . وفي المقطع الثالث يقول :
كيف أرد النهر إلى منبعه
وأغوي المطر الأسمر يلثم أرضي الجرداء
وأسير مع الماء
في أي غابات أروح مع الدرب وأي الأسماء
أسأل عنها أي الأسماء ..
قالت ساحرة العشق
خذ العطر وزهرة منتصف الليل
تواري بين الأشلاء
مت أنت الميت بين الأحياء
خضب في الليل ضفائرها وأمنح عينيك الملح وقطرة ماء([8])
أنه يتساءل كيف يرد النهر إلى منبعه ويذكر تربته الجرداء ويصور أمرأة يسير مع الماء إليها وهو يشير إلى الماضي ويرمز بين هاجس تلقائي في الشعر وقدرة على الصناعة الهادئة ( زهرة منتصف الليل) (خضي في الليل ضفائرها) ، إنه يطوع العبارة تطويعاً فنيا مشكلا بالإشارة والمهارة والمقطع يكمل ما سبقه في المقطع السابق فالوطن ثم المرأة ويكتمل مثلثه الذي بناه- الوطن – المرأة ثم الولد قائلاً :
قال رأيت الصبر بعينيها
واللوعة في شفتيها
والثوب الأسود مرخيا
فهربت إلى الصحراء
أين اللوحة ... سألت الليل
وسألت الفجر
سألت الزهرة والجوزاء ..
قالوا رحلت .. أين وأيقظني يسأل أين الأثداء
إنه ينتهي بولده علي الذي حرم صغيراً من ثدي أمه ونلاحظ ذلك الاسترسال الذي يميز بناء قصيدته وليس بالتهويم اللغوي الفارغ الذي لا يعطي ابداعاً .
ومما يراه العدواني ( إن هذا المقطع أثقل المقاطع )، نؤيد رأيه فالقصيدة ممتلئة بالشعر تغني بروحه ورؤاه وقلبه ولغته الموحية .
وفي المقطع الثالث أشار إلى المرأة التي عاد بها بعد أن تجرع الصعاب والعلقم في غربته فهو كالطفل يبكي بين أحضانها ويريد بتلك الإشارة أن يربط بين أحضان الوطن في المقطع الأول فإن الوطن المرأة مكان سكنه ومثواه ومن نجد رأي العدواني ما يفسر سؤالنا ( أن رشدياً جافى المنطق هذا بحكم الشاعرية الحرة التي لا تخضع لأي اعتبار أو تأثير خارجي ونعني تأثير الوعي على حالة الاستغراق في عملية الإبداع)([9]) . فهو يسترجع ذاكرته ما بينه وبين الوطن قبل أن تنتقل منه وكأنه يعيش رحلة خيالية كانت قد وقعت أو لم تقع أو إنها رحلة باطنية .. إنها رحلة يهرب بها في لحظات الوطن إلى أرض الحلم ورموزه واضحة تكشف ذلك الهروب إلى الصحراء والواحة ثم الجوزاء .
وهو بكل هذا يخلق الخيط الذي يشده بالوطن وهو يعيش صراعاً بين وجدانه. كيف يرجع إلى الوطن ولم يجد الهجر بديلاً عنه ، فالغربة أطعمته طعاماً مراً وكل شي لا يغريه في ترك الوطن وهاهو يسأل الليل – الزهرة – الجوزاء سؤاله عن ذلك المكان الذي يبحث عنه ويجده في المقطع الأخير قائلاً :
قال وعدت وكان الليل رخياً
والاشرعة البيضاء ترف
وفي قلبي وردة صيف حمراء
والمطر الناعم والأنداء
هذا وطني سأقبل تربته الخضراء.
وقد عاد إلى الوطن الذي وهبه الحب ويلاقيه بوردة حب حمراء ، فالقصيدة بهذا البناء الرائع تصور تصويراً بارعاً رحلة استغراق داخلية سرية في ملكوت ذاته كما عبر عنها العدواني([10]) ( لا يمكن أن تكون قصيدة الرحيل تسجيلاً لمقام من مقامات الرحلة الباطنية على مذهب الصوفية ) .
ونراها بدقة أنها سيرة ذاتية لرشدي وهي خلاصة حرمانه وضياعه بهذا النفس الدرامي والبناء المتسلسل . ولعل الدارس في المستقبل يتوسع في دراسة أوسع لتحليل قصائده التي تميل وتقترب من الصوفية . ومثل هذا الأسلوب في بناء قصيدته ذات المقاطع يتطور بأسلوب قصصي يحكي فيه الشاعر معاناته ، طفولته ، صباه ، زواجه ، فراقه ، سجنه ، وقد يبدأ بالتذكير والإرجاع وكثيراً ما يلخص الأحداث بعبارات مركزة تجنباً للتفضيل وخوفاً من أحداث الملل ، وعندما يستخدم الإرجاع يريد إثارة القارئ وشدة لمواجعه والمه وهو يعلم بعدم جدوى ذلك ، فالحدث قد فات أمره ، انظر قوله :
كنت معي في مثل هذا اليوم من أيار
كنت معي تضحك جذل لو رأت أهدابك الأزهار
كنت تموتين من الحب وكانت تضحك الأشجار([11]).
فالإشارة واضحة في الزمن ( كنت) ويستخدم أسلوب التذكر وكأنه يختلق شخصاً يحاوره قوله :
لا أذكر شيئاً ، قال الرجل القادم هل تذكر شيئاً
قال النهر لوجه الرجل القادم([12])
وبهذا اللون القصصي يحاول رشدي أن يظهر صوته عالياً ولكنه يمارس قمعاً على الصوت الآخر أن يجعل صوته لسان حال الآخرين قوله :
ها أنا وجهي على وجهك ينحب
وقوله :
أنت غدرت الثلاثين ترى من كان يعلم
إن ذلك الطفل ذلك الصخب المجنون يهرم([13]).
ولو تابعنا القصيدة نجد صوت الشاعر طاغياً عليها وفي أغلب قصائده يمهد للأحداث وفي بعضها يدلف بشكل مباشر مشيراً إلى ذاته ( أنا) أو أحد الضمائر ( وحدي – أمشى) ([14]) وتزداد الانفعالية المتوترة في أسلوبه حيث تشمل القصيدة على فكرة متوترة منفعلة تصاغ بألفاظ خاصة في صورة من المعاناة المباشرة وليس مجرد شكل من أشكال الاستعداد للاضطراب فهو يشكو ويستخدم قصيدته الشعرية باعتبارها وسيلة تعبيره مع أن استخدامها لا يخلو من الصعوبة ولأن إبداع الشاعر ينصب على فن دون أخر فن آخر قوله في تصوير اضطرابه النفسي قائلاً :
يدنو مني الصوت الجلاد ويدنو السوط
وتسقط في ذهني الأسئلة السوداء([15])
فهو يعيش قصيدته بالحوار كما أكد الناقد عبد الرحمن طهمازي"([16]) في أسلوبه القصصي يسعى رشدي على إنعاش قصيدته وتنشيطها شكلياً بمبادرة لغوية هي الحوار وعلينا أن لانذهب بعيداً فالحوار هو مجرد استئذان ولا يدخل في نزعة قصصية أو أدبية أخرى لكن هذا الأمر الشكلي يقوم على أساس سايكولوجي".
ونستنتج من خلال دراستنا بناء قصيدته إنه يهدف من الحوار الى ثلاثة أهداف، أولها أن يخفف العزلة الذاتية التي يعيشها فيشرك الآخرين معه وثانيهما ، رغبته في معالجة حزنه الذاتي فهو يفترض فرضية ويختلق صوتاً لأمرأة ندري من هي وثالثهما رغبته في تضخيم معاناته وحزنه ..
قوله :
هل أتنبأ أنك عدت الآن
ومعطفك الأسود مبتل بالمطر الناعم والاشذاء
حسنا غادرت الفسحة بين الباب([17])
وانظر الى الأسئلة التي يطرحها – هل ، حسنا) ويبدأ بالسرد واستخدام الأفعال الموحية المتحركة – تمتمت، اشعلت ، أوقدت ، فتحت ... ) أنها أفعال مرتبة ترتيباً سردياً منطقياً لا فعل يتم قبل الآخر. ولم يكن هذا وحيداً في قصائده بل يتكرر([18]).. وهكذا نخلص بأن بناء قصائده القائمة على القصص بقيت محافظة على نفسها الغنائي لأن حركتها تحاول أن تحمل الطابع الذهني الخارجي الذي يبعد عن العقدة فيبث الحياة فيه باسلوب مباشر وصريح . ولهذا أستخدم الجمل القصيرة حيناً وآخر يتخيل أمامه شخصاً ميتاً فيرثيه قوله :
قال هل نألف الموت عشنا
في كل ليل
قال هل تعشق الموت
عاشقاً ما زال يلوب([19]) .
وكثيراً ما يختلق وجوداً للغائب ويصطنع معه حواراً([20]) ، ومن استخداماته المباشرة في بناء قصيدته استعاراته أقوال الآخرين وحصرها بين أقواس مرة تتمثل بصوت امرأة أو صديق وكأنه ينقل مشاعر الطرف الآخر والذي صدر منه حقاً أو توقعه منه أنظر قوله :
ضحكت شفتاك وتمتمت
ومن يعرفنا لو عدنا غير الأشلاء ([21])
وعلى لسان شخص آخر قوله :
مددت يديك إلى عنقي
أغمضت عيوني وهمست
سأحمل جرحك – أسقي في منزلنا أزهارك
أحمل كل أوراق أبي([22])
فالكلام محصور بين الأقواس في النص الأول لإمرأة مجهولة وفي النص الثاني لولده علي وهو يتوقع قولهما فينقله بهذه الصورة .
ومن مميزات أسلوبه في بناء قصيدته على وحدة الزمن من خلال خلق الحركة والصورة الناطقة والعبارة الموحية وبغنائية لا يمكن أن تفارق قصائد يبنيها على أساس القصة الشعرية مستنداً إلى تلك الرومانسية التي من ذاتيته انظر إلى وحدة الزمن :
العذاب الأخير بين صمتي ووجهك
بين ارتعاش المواقد
في ليلة العشق ذاهلة وإنطفائي
كيف تبدو لك الأرض هذا المساء([23]) .
ووحدة المكان في قوله :
وحدي أذرع الليل أشم الأرض
أجوس الطرقات المهجورة([24])
ومما يتميز به تأكيده على العنوان الذي يؤدي وظيفة مهمة ويعطي للعنوان موقعاً يسجل حضوراً نصيا داخل القصيدة حينا وآخر لا نلمح للعنوان دلالة في مضمون قصيدته ، ففي قصيدة النزهة نقرأ قوله في وسط القصيدة (أتنزه في وجه أمرأة تعرى)([25])
وأحياناً يلمح بشيء يريد ذكره ففي قصيدة القناع نقرأ قوله :
وكأن وجهك عاد للطرقات
حتى وجهك الثاني نسيته([26])
وقد يرمز للمناسبة بما يلائمها مثل قوله في قصيدة ( بطاقة معايدة) :
مر بنا العيد بلا أمطار([27])
فالعنوان لديه يكشف لنا غموضا نلاقيه في النص ويوجه القراءة بشكل أسهل فعندما نقرأ مثل ( الرحيل) نستدرك المعاني التي يريدها ، ومثل كلمة الغريب ، فالعنوانات باتت سمه في شعر رشدي تدل على الحرمان والشكوى ، فعلى سبيل المثال تسمية قصائده ( الرحيل) في دواوينه الثمانية ست مرات ، وعنوان أغنية ورد ثماني مرات([28..
وقد يغير العنوان في داخل الديوان الواحد وقصيدتا (عندما لانتكلم ) و( بوح ) في ديوانه للكلمات قد جاءتا بعنوانين مختلفين وهما يحملان الموضوع نفسه ولا ندري السر بالدقة ، ولعلنا نستنتج سبباً معقولاً وهو عند طبعه القصيدة المكررة في الديوان اضطر لوضع عنوان لها ولم يستطع حذفها كاملة وربما يريد أن يختبر ذكار القارء وفطنته ، والملاحظة نفسها تسأل عنها الناقد حاتم الصكر ولم يكشف سبباً لها تحتاج إلى تخمين لمتفرقات بناء . والغريب في الأمر ان الشاعر قد ذكر تاريخ كتابة القصيدتين فالأولى عام 1962 والثانية عام 1963 وكلاهما واحدة ، والمفيد في اختياره العنوانات بعد إعادة نشر قصائده يدلنا على إدراكه أهمية العنوان للقصيدة ، ولهذا يحصل تغيير في إضافة بعض المفردات وحذف بعضها عندما ينشر قصيدته في ديوانه ، وربما كان النشر في المجلة قد أعطى رأيا أستفاد منه في تعزيز تجربته ومما يسمعه من الآخرين فيضطر إلى إجراء بعض التغييرات عليها([29]).
ومما يجب ذكره إن الشاعر يهدف من هذه التصويبات التي يجريها والحذف والتغيير إنما تدل على متابعة الشاعر لتجاربه وعنايته ببناء قصيدته ذلك المران القاسي الذي سماها
رشدي يوما وأعطاه غنى وحيوية في تجربته الشعرية([30]) . ومما يلاحظ في أسلوبه إنه دلف إلى غرضه الشعري في بدايته حياته وخاصة في ديوان همسات بمقدمات ولكن بعد هذا الديوان والثاني الذي نراه قد دلف مباشرة لما يريد قوله مستفيداً من الفنون البلاغية في بناء قصيدته ، واجدين الفاظاً معبرة محمكة في عبارات مختزلة ورصينة مختارا لموضوعه الشعري ، وزنا منسجماً مع الألفاظ ، ومن مميزات بناء قصيدته تلك القدرة على نظم المقطع حيث يحشد فيه معاني كثيرة وصوراً خيالية رائعة قوله :
بهيج هو الرقص في أضلع الآخرين
غريب هو الموت تدنو خطاه
رويدا فلا تمسك العين حتى رؤاه
مميت هو الحب يحصد أحلى الزنابق أغلى السنين
وينأى([31]) .