ثمة طبقات متراكبة للصراع في سوريا وعليه...فهو من جهة أولى، صراع بين قوى الإصلاح والحرية والديمقراطية وخصومها...وهو من جهة ثانية، "تسوية حساب" بين معسكري "الاعتدال" و"الممانعة"...وهو صراع على النفوذ الإقليمي والدولي في المشرق والخليج الأعلى من جهة ثالثة...وهو "صراع أصوليات" لا تخطئه العين من جهة رابعة، سنخصص له مقالة اليوم.
لم يعد لبنان وحده، ساحة الاختبار الحقيقي للصراع على تخوم "الفالق الزلزالي" السنّي الشيعي، فقد أصبح العراق ساحة ثانية، أشد احتداماً، لهذا الصراع وتجلياته....وامتد الأمر ليشمل بأشكال مختلفة، ولأسباب مختلفة، ساحات عربية وإقليمية أخرى عديدة.
لم يُخفِ فريقا الانقسام اللبناني انحيازهما المطلق للنظام أو المعارضة السوريين...فريق 14 آذار يسبق المعارضة السورية في أطروحاتها، حتى ان الرئيس سعد الحريري يرهن عودته لبيروت بسقوط الأسد في دمشق، ويتهم النظام بالمسؤولية عن التفجيرين قبل أن يفعل المجلس الوطني السوري وجماعة الإخوان المسلمين ذلك، وتتحول بعض مناطق شمال لبنان وشرقه، إلى ملاذات آمنة لتهريب الرجال والسلاح، وإيواء مقاتلي الجيش السوري الحر (المنشق)....فيما فريق 8 آذار، يتولى دور الوكيل السياسي والإعلامي والأمني للنظام السوري، يتبنى مفرداته وخطابه، ويجيّش أنصاره لدعمه، ويضع الخطط – ربما – لقلب الطاولة على الرؤوس، إذا ما أزفت لحظة السقوط الكبير في دمشق...باختصار، فإن لبنان يتحول إلى ما يشبه "حمص ثانية"، حيث تنخرط الفسيفساء الديموغرافية السورية / المشرقية، في صراع ضارٍ، ينذر بأكل الأخضر واليابس.
في العراق، جاءت ارتدادات الزلزال عنيفة للغاية، ومن سوء طالع العراقيين، أن انفجار الأزمة السورية، تزامن مع إتمام انسحاب القوات الأمريكية من العراق...الكتل الشيعية الرئيسة التي ناصب معظمها، النظام السوري أشد العداء، حتى انها اتهمته بتفجيرات بغداد 2009 وطالبت بتحويل قادة النظام إلى محكمة الجنايات الدولية، تصطف اليوم خلف النظام السوري، وتنظر للمشهد السوري من عدسة إقليمية أوسع، ترى في سوريا حلقة في الصراع لإسقاط "الهلال الشيعي"، لهذا نراها تنبري لتقديم كل عون مالي واقتصادي ونفطي وتجاري وسياحي متاح للنظام...بل ويعتبر بعضها سقوطه "خطاً أحمر"...وهي مستعدة للذهاب حتى آخر أشواط المعركة.
في المقابل، نقلت القائمة العراقية، الممثل الرئيس للعرب السنة في العراق، بندقيتها من كتف إلى كتف...إياد علاوي كان صديقاً لنظام الأسد، ومرشحه لرئاسة الحكومة بدلاً عن نوري المالكي، وصالح المطلق لم أشاهده شخصياً إلا في "شيراتون دمشق"، والبعثيون المحسوبون عليها اتخذوا من دمشق مقراً لهم...لكن الصورة اختلفت تماماً هذه الأيام...القائمة تحتفظ بأوثق الروابط مع المعارضة السورية، وهي تتبنى أطروحاتها، وتدعو لتغيير النظام...وهذا ما شهدنا انعكاسا وخيماً له في العلاقة بين قطبي العملية السياسية في العراق، القائمة والتحالف، من دون أن نقلل بالطبع من الأسباب الأخرى للخلاف بين الفريقين.
الإسلام السني، الليبرالي التركي، قاد مسيرة التقارب مع سوريا، وانفتح عليها...لكن سياقات الأزمة السورية باعدته عن نظام الأسد، وجعلت من "العدالة والتنمية" رأس حربة في الجهود الإقليمية والدولية الرامية لإسقاط النظام في سوريا، فيما علمانيو تركيا وقوميّوها، الذين تضرروا كثيراً من موجة الإسلام السياسي الصاعد في بلادهم، والذين طالما ناصبوا النظام السوري أشد العداء، يتقربون من دمشق اليوم، ويقودون المعارضة ضد حكومتهم، بل ويتهمون أنقرة بأنها تقود تركيا لحرب أمريكية بالوكالة، ضد سوريا.
الإسلام السني، غير الليبرالي، الذي رفع رايات المقاومة والممانعة، في عمان والقاهرة وغيرهما، لم نعد نعثر في أدبياته على أي أثر لهذا المفردات...لم يعد التدخل الدولي استعماراً و"الناتو" بات مشروع حليف، ولم لا طالما أن الهدف الأول والأخير هو إسقاط النظام وإحلال "الإخوان" محله، حتى وإن تم ذلك على ظهر دبابة أمريكية، رغم أنها الدبابة ذاتها، التي أقاموا الدنيا ولم يقعدوها ضدها عندما تحركت صوب بغداد، علماً بأن "إخواناً" لهم كانوا على متنها تلك الأيام....وحدهم إخوان فلسطين (حماس) لم يفقدوا بوصلتهم، وحفظوا توازن خطابهم واتزانه حيال الأزمة السورية، ولم يتدحرجوا إلى قعر الفالق المذهبي.
هو الانقسام المذهبي على امتداد خطوط العرض والطول في الإقليم برمته، وقد جرف إلى صفوف تيارات وحركات من خارجه، فاليساريون والقوميون، معظمهم على الأقل، اصطفوا خلف النظام السوري، تارة تحت مسمى الممانعة وأخرى نكاية بالإسلام السياسي الصاعد في دولهم، والليبراليون الذين ناصبوا الإسلاميين أشد العداء، يصطفون اليوم معهم في الخندق ذاته، تارة تحت مبرر الاعتدال، وأخرى تحت تأثيرات المشهد الدولي الضاغط، وللبحث صلة.
المراجع
جريدة الدستور
التصانيف
صحافة عريب الرنتاوي جريدة الدستور