الرابطة الأدبية - فلسطين
صدرت عن أكاديمية الإبداع في فلسطين الطبعة الأولى من كتاب "علم الوصول الجميل" للدكتور كمال غنيم، ذلك الكتاب الذي يقدّم طريقة مبسطة في فهم البلاغة العربية بعلومها الثلاثة: المعاني والبيان والبديع. ويعتمد الكتاب الإيجاز في طرح الموضوعات، ويحاول استقصاء معظم مسائل البلاغة، ويعتمد على شواهد القرآن الكريم والشعر العربي.
ويتميز الكتاب بمحاولة التجديد في الأمثلة البلاغية والشواهد الموظفة، ويسعى في أكثر من موضع إلى التجديد والخروج من أَسْر الجملة إلى رحابة النص الأدبي، وإعادة البلاغة إلى رحاب النقد الأدبي لكسر مظاهر الجمود التي حلت بها.
واعتمد الكتاب على طرح رؤية جديدة في كثير من المسائل، تعدّ إضافة لميدان البلاغة العربية، حيث صحح بعض التعريفات القديمة، من ذلك قوله عن تعريف الصفدي للجناس: "والحقيقة إن تعريفه قد أصابه نقصان، أما النقص الأول: فهو أنه لم يُشر إلى ضرورة اختلاف المعنى بين المتماثلين من الكلام، معتمداً على فهم الناس أن اقتصار التماثل على الحروف يعني الدلالة على الاختلاف في المعنى، وقد أشار إلى ذلك في اعتراضه على تعريف ابن النحوية، ولا شك أن الإشارة ضرورية لتأكيد الفهم ودقته. وأما النقص الثاني فيتمثل من وجهة نظري في احتواء تعريفه على نوعٍ غير معتدّ به من الجناس هو الجناس المعنوي، وذلك في قوله: (أو بمماثل يرادف معناه مماثلاً آخر نظماً)، معتبراً أن القول: (أمر عظيم تظهر اللوثة منه بالأسد) إذا أراد (الليث) فعدل إلى ما يرادفه (الأسد)، مشيراً إلى ظهور ذلك في الشعر دون النثر. وفي ذلك تكلف واضح، خصوصاً أن جمال الجناس نابع من موسيقاه. والغريب أن ذائقة الصفدي قد أبت ذلك، ولكن يبدو أن عقله الذي اعتمد التسلسل المنطقي والرغبة في حشد المعلومات دفعه إلى اعتباره ضمن تعريفه، فقد قال في تعليقه على الجناس المعنوي: "قلت: لا يخفى ما في هذا من التكلف والتعسف".
وناقش الكتاب ميثم البحراني في قوله بالجناس بالتلميح دون التصريح، حيث عدّه ميثم البحراني من أنواع الجناس الناقص، ومثّل لذلك بالقول: "حُلقت لحية موسى باسمه" أي بموسى الحلاقة، وكذلك ما عدّه البحراني من المصحّف، وقصد به تشابه الكلمتين في الخط دون اللفظ، ومثّل له بالقول: "غرّك عِزّك، فصار قصارُ ذلك ذلّك، فاخشَ فاحِشَ فِعلِك، فعّل بهذا تُهدى". حيث قال غنيم: "وأقول: ولا يخفى ما في ذلك من ابتعاد عن علة الجناس والحكمة منه، ذلك أنه يقوم على تشابه الكلمات لفظا وصوتا، مع اختلافها معنى، وسر جماله الإثراء الموسيقي، وكل ذلك لا يتحقق بالجناس المعنوي، والجناس بالتلميح دون التصريح، والجناس بالتصحيف، ولا يصحّ أن تسمى تلك الأشياء جناساً! إلا من باب الجناس الناقص، مثل: "فصار قُصار" حيث اختلف الحرف الأول فقط في الكلمتين".
وقدّم الكتاب طرقا سهلة للتمييز بين مفردات قد تختلط على المتلقي، من ذلك طريقة التمييز بين الاستعارتين المكنية والتصريحية من خلال التدقيق في المشبه به واعتباره هو ركيزة التمييز، فإن وجده المتلقي مذكورا صراحة في الاستعارة كانت الاستعارة تصريحية، وإن وجده مخفياً -دلّت عليه صفة من صفاته أو أثر من آثاره- كانت الاستعارة مكنية.
وقد ناقش آراء العلماء القدامى الكبار في موضوعية علمية ومنطقية محايدة في الطرح وإبداء الرأي، من ذلك قوله في معرض مناقشة رأي ابن الأثير في انتقاد اعتبار رد العجز على الصدر باباً مستقلاً لأنه من باب الجناس في معظمه. حيث قال: "وفيه ما يتميز عن الجناس من ثلاثة وجوه، الأول: احتوائه على نوع من اللفظين المكررين وهو ليس من الجناس، والثاني أن نسق ترتيب الجناس وما ألحق به منح هذا الباب ميزة إضافية، يمكننا أن نقدّر لها قيمة التميز، وأن نفردها باسم وعنوان مستقل، وإلا ما الفرق بين القافية والسجع والتصريع والتشطير؟ فكلها سجع لكن اختلاف التسمية أشار إلى فروق مميزة لها عن بعضها. والوجه الثالث: أن التصنيف لهذه المحسنّات شأنه شأن الكثير من التصنيفات الأدبية والبلاغية والنقدية لا يعدّ تصنيفاً قائماً على الفصل والحسم النهائي، لأن اللحمة العضوية تبقى قائمة فيما بينها. ويظل للتصنيف شرف محاولة الفهم، والانتباه لجماليات مميزة، وفروق دقيقة، تلك الجماليات التي تخدم المتذوق الحاذق ، وتفيد المتلقي الواعي، وتُبصّرُ الكاتب الواعد".
كما حاول أن يصل إلى آراء أكثر دقة عندما اختلف العلماء الكبار، من ذلك اختلاف السيوطي والزركشي حول قوله تعالى: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله"؛ حيث عدّ الزركشي التشبيه هو تشبيه معنوي بمعنوي، معتمدا في قوله على اعتقاده أن التشبيه قائم بين قسوة القلوب وقسوة الحجارة، بينما ذهب السيوطي إلى اعتبار التشبيه قائما فيها على تشبيه محسوس بمحسوس على أساس أن التشبيه بين القلوب والحجارة، وهما حسيّان. حيث قال: "قول الزركشي فيه نظر لأن قسوة الحجارة ليست أمرا معنويا بل هي صفة حسية في الحجارة، تبين درجة صلابتها وصلادتها، فلا يُعدّ التشبيه بين معنوي ومعنوي، وقول السيوطي فيه نظر لأن قسوة القلوب ليست حسيّة؛ بل إن المراد بالقلوب هنا معنوي لأن القلوب هي موطن العاطفة والانفعال لا القلوب المنسوجة من لحم ودم. ولذلك قد يكون من الأصوب النظر إلى التشبيه على أنه بين معنوي ومادي محسوس، فيكون هو أقرب للتجسيم منه للتوضيح".
وحاول الكتاب أن يصحح بعض المفاهيم، من ذلك الظن بأفضلية المشبه به عن المشبه في كل الأحوال. يقول غنيم: " وأقول: ليس في الأصل أن يكون المشبه به أقوى في الصفة من المشبه، من أدلة ذلك قوله تعالى : "وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا"، فالرحمة الإلهية أفضل بكثير من رحمة الأبوين، وطلب مشابهة رحمة الله لرحمتهما لابنهما في طفولته من باب تقريب شكل الرحمة لا أكثر، ولأنها أفضل رحمة يمكن أن يلمسها الإنسان في الحياة المعيشة. ومن ذلك قوله تعالى: "الله نور السماوات والأرض مَثَلُ نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري"، فنور الله لا يدانيه نور مشكاة ولا كوكب ولا نجم. وقد يحمل البعض ذلك على كونه من الطرد والعكس أو التشبيه المقلوب، لكن ذلك لا يلغي التنويه الذي نؤكد عليه هنا، وهو أن المشبه به ليس بالضرورة أن يكون هو في كل الحالات الأفضل أو الأقوى أو الأكثر تميزا. كما أن تميزه الظاهر في مجالٍ ما لا يعني تميزه التام على المشبه، فالأسد ليس بالضرورة أن يكون المفضل على البطل الشجاع! ولا القمر هو المفضل على الفتاة الحسناء! ولعل في ذلك دليل على قول من قال بفضل المتقدم على المتأخر في الصلاة الإبراهيمية، حيث لا يُوجد في مشابهة الصلاة ما يجزم برأي دون آخر، ويعضّد هذا الرأي أو ذاك مواضع أخرى من الأدلة الشرعية".
وقد حاول الكتاب الخروج عن النمط البلاغي السائد تدريجيا من خلال طرح معطيات أكثر اتساعا تستوعب النص بمجمله لا جملة من جمله فقط كما كان في السابق، من ذلك طرح الصورة الكلية كنوع من أنواع الصورة بخلاف الصور البيانية المعهودة المحصورة في التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز. وقد قال الكتاب في ذلك: "يمكن القول إن الصورة الجزئية ظلت تسيطر على الفهم البلاغي القديم الذي وصلت جهود مبدعيه إلى حدود العبارة ولم تتجاوزها بسبب جمود من جاءوا بعدهم، ونرى في هذا المجال ضرورة الإشارة إلى بلاغة جديدة احتضنها النقد في غفلة من البلاغة، من ذلك الصورة الكلية التي تتراكم فيها الجماليات على مدار النص لا على مدار جملة صغيرة هنا أو هناك. والصورة المركبة هي مجموعة من الصور الجزئية المترابطة، يوظفها الشاعر لأن الصور الجزئية لا تستطيع أن تستوعب عاطفته وفكرته بصورة متكاملة، وخصوصاً إذا كان الموقف على قدر من التعقيد أكبر من أن تستوعبه صورة جزئية".
وحاول الكتاب أن يضيف الجديد إلى مصطلحات البلاغة، من ذلك الجناس التركيبي، حيث يقول غنيم: "وأقول: يمكننا التوسع في النظر إلى الجناس لنراه يشمل أكثر من كلمة، ليكون "جناسا تركيبيا"، مثل القول: "في الشدائد يختار القلة سلامة المنهج، بينما يختار الكثيرون منهج السلامة". ففيه هنا جناس تركيبي ناقص بين "سلامة المنهج" و"منهج السلامة"، فالحروف في التركيبين هي الحروف نفسها، وإن حدث النقص فيها باختلاف ترتيبها، والمعنى فيه اختلاف يصل إلى حد التناقض والمفارقة، بين معنى الثبات والجرأة على التمسك بالحق، ومعنى الانحراف والجبن في إظهار الانتساب إلى الحق".
كما حاول الكتاب أن يلفت نظر المتلقي إلى سر الجمال الحقيقي للتعبير، بنسبته إلى الروح المتمثلة فيه لا إلا مجرد إقامة الشكل والتركيب، يقول غنيم:" وأقول: لا يعدّ التشبيه جميلا إذا لم تخالطه روح إبداع، وخروج عن المألوف وفق الممكن والمعقول. وشرف التشبيه لا يتحقق بمجرد وجود الأدوات، وتحقق العلاقات، لكن شرف التشبيه يتحقق بذلك ممزوجا في حسن الاختيار للمشبه به، والدقة أو البراعة في اقتناص وجه الشبه. وافهم معي كيف قال فارسنا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنما أعطيتك السيف، ولم أعطك الساعد!".
وقد جاء الكتاب في مائة وست وسبعين صفحة من الحجم المتوسط، وصدر عن أكاديمية الإبداع في فلسطين. ومن الجدير بالذكر أن الكتاب قد جاء ضمن سلسلة تعليمية تصدرها أكاديمية الإبداع تباعا حول فنون الإبداع المختلفة تحت شعار "كيف تتعلم في سبعة أيام؟"، حيث صدر عن دار النشر كتاب آخر عن تعلم موسيقى الشعر في سبعة أيام، وقد اشترك الكتابان في آلية الطرح المبسّط، وإضافة الجديد.