عزيز على نفسي أن أشغل بقلمي هذه المساحة من مجلتنا "الرسالة" وهي المساحة التي كانت مخصصة لفقيدنا، وفقيد الأدب والنقد، الدكتور علي عشري زايد (1937م ـ 2003) يقدم في كل عدد منها جديدًا قيمًا بعنوان "أدباء دعاة". والأديب الداعية هو الأديب الذي يتخذ من أدبه ـ شعرًا ونثرًا ـ آلية للدعوة إلى الله على بصيرة، والانتصار ـ بالكلمة الآسرة ـ للقيم الإسلامية والإنسانية العليا، أي أنه الشخصية التي يتوافر فيها "ازدواجية حميدة" هي "المنطق الدعوي والأداء الجمالي، أو المضمون الفكري في أرقى وأسمح مفاهيمه، و الشعور الحي النابض وكل أولئك يؤدى في تشكيل لغوي آسر.
وهذا العطاء الذي كان يقدمه الدكتور عشري إنما هو مظهر من مظاهر اهتمامه بالقيم والوجهات التراثية , وكأنه يبعث من جديد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرًا، وإن من الشعر لحكمة" ، فالحكمة تعني الفكر الناضج النافع المثمر، والسحر يعني الجانب الجمالي التأثيري وجدانًا، وتصويرًا وتعبيرًا.
ولأمر ما كان للإسلام شعراؤه الذين يذبون عن الدعوة، ويواجهون افتراءات المشركين، ويدعون إلى القيم الإسلامية العليا، وعلى رأسهم وأشهرهم الصحابي الجليل حسان بن ثابت.
كما كان للجيوش الإسلامية خطباؤها الذين يسيرون بين الصفوف يحمسون الجيوش، ويحثونهم على الجهاد، والصبر، والثبات، ويشترط في "خطيب الجيش" أن يكون جهوري الصوت، قوي النبر، ناصع البيان , بالغ التأثير.
ناقد رسالي
عاش علي عشري في منطقه، وسلوكه، وتعامله مع الآخرين نموذجًا طيبًا جدًّا للخلق الدمث، والهدوء والرزانة والطبع النبيل ، زيادة على عفة اللسان، واحترام الذات، واحترام الآخرين، وفي نطاق عمله الجامعي كان ـ بشهادة طلابه وزملائه ـ صادق العطاء، أمينًا في الأداء، ولو كان ذلك على حساب صحته، وإنكار ذاته، مع عزوفه الشديد عن الأضواء، والبحث عن الشهرة.
وقد كانت "شخصيته النقدية" تمثيلاً صادقًا لملامحه النفسية والخلقية، فرأينا فيها شخصية "الناقد الرسالي" الذي يؤمن أن النقد "أمانة" يجب أن تؤدى بعدل وإنصاف، في امتداداتها الإنسانية والأخلاقية، والعلمية، بحيث يكون التفريط فيها خطيئة لا مجرد خطأ.
الموضوعية أساسًا:
وتعتبر "الموضوعية" بمفهومها الصحيح الدقيق هي أهم الأسس التي يقوم عليها هذا "النقد الرسالي" . ولا نقصد بالموضوعية ما درج النقاد على جعله اصطلاحًا مقابلاً للذاتية، أو الغنائية، أو التأثرية ، ولا نقصد بالموضوعية "الحياد"؛ لأن الحياد قد يكون ظلمًا، والتحيز قد يكون هو عين الحق؛ فالحياد بين الحق والباطل يُعد ضربًا للموضوعية في صميمها، والتحيز للضعيف المظلوم في مواجهة القوي الظالم هو عين الموضوعية.
ولكننا نقصد بالموضوعية ـ في التعامل النقدي ـ مع الأدب والأدباء ـ الالتزام الكامل بأخلاق الناقد، كما يجب أن تكون، ومن أهمها التعامل مع "المادة" - أديبا أو أدبًا ,إنسانًا، أو إبداعًا ـ لذاتها، مع التجرد الكامل من هوى النفس، ونوازع العاطفة، ودون استجابة لمؤثرات، أو ضغوط سياسية، أو اجتماعية، أو أدبية، أو شخصية.
والموضوعية بهذا المفهوم ترفض الانطباعية أو التأثرية بمفهومها الحاد الذي طرحه الكاتب الإنجليزي "وليم هازلت 1778 ـ 1830) في قوله: "أقول ما أفكر، وأفكر فيما أشعر، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من أن تتأثر بأنواع من التأثر تجاه الأشياء، وعندي من الهمة ما يكفي للتصريح بها كما هي"([1]).
وذلك لأن التأثرية بمفهوما الحاد تستمد كيانها ـ بصفة أساسية - من الذوق الخاص، كما أن الأحكام التأثرية النقدية أحكام منفوشة تعوزها الدقة والتماسك، كما أنها غالبًا ما تدور في حلقة ضيقة لا تتعدى عبارات الإعجاب والثناء، أو الذم والتبرم، استنادًا إلى ما يراه التأثريون "من أن الشرح والتعليل في النقد يهدد الناقد بفقدان لذة القراءة، وضياع المتعة الجمالية للعمل الفني"([2]).
والموضوعية ترفض النظرة الجزئية الجافة، كتقييم النص على أساس مضمونه الفكري فحسب، أو على أساسه التعبيري فقط، . والموضوعية ـ بمفهومها الصحيح ـ تقوم على ركيزتين:
الأولى: هي الذوق الفني الرفيع الذي ينهل من موهبة فطرية، وتجارب ذاتية، واطلاع واسع المدى على مأثور الأدب والنقد.
والثانية: القواعد الفنية التي تستمد من خبرة لغوية وبلاغية، ورصيد فكري، وقدرة على الإفادة من القواعد والنظريات المختلفة في نقد الأثر الأدبي([3]).
وعلى الناقد أن يأخذ نفسه بعدد من المبادئ لا تتحقق الموضوعية إلا بها، وأهمها:
1ـ عدم الانبهار "بالأسماء المتوهجة" أيًّا كانت درجتها من التوهج والشهرة والمعرفة، وأن يكون تعامل الناقد مع إبداعات المشاهير، كتعامله مع "إبداعات المغامير" أي يتعامل الناقد مع الإبداع، لا المبدع، إلا إذا كان للمبدع على إبداعه بصمات شخصية مميزة.
2ـ شمولية القراءة والتمحيص، فالقراءة الجزئية لبعض إبداع الأديب، والاعتداد بما كتبه الآخرون عنه لا يقود الناقد إلى حكم صادق حاسم.
3ـ الالتزام بمرحلية الرأي، أو الموقف، أو الإبداع، وعدم الانطلاق من هذا الخاص المحدود إلى التعميم.
4ـ أن يكون تقييم إبداع الأديب في "مظلة" إبداعاته الأخرى، فلا ينظر إليه معزولاً عن غيره من إبداعات هذا الأديب؛ لأن بعضها يتأثر ببعضها الآخر، بل قد يتولد عنه.
ويرتبط بهذا المبدأ ضرورة التعرف على الترتيب الزمني لإبداعات الأديب، للتعرف على تطوره النفسي من ناحية، وتطوره الفكري والعقدي من ناحية أخرى.
5ـ استبطان الأثر الأدبي، وتعمقه، واستقصاء كل جزئياته، دون اكتفاء بسطحه الظاهر.
6ـ الحذر الشديد من خداع النصوص، ومن ثم كان على الناقد ألا يعطي النص أكثر من قيمته، ولا يحمله من الدلالات ما يعجز عن تحمله.
**********
وما سبق يطرح أهم ملامح "الناقد الرسالي" الذي يعتبر النقد "أمانة" يجب أن تؤدى بعدل وإنصاف اعتمادًا على الموضوعية بمفهومها الصحيح، بكل ما تتطلبه من لوازم وسمات، وقد أخذ علي عشري نفسه بهذه الملامح في منهجه النقدي، ولا يسألن سائل: كم كتابًا، أو دراسة ترك؟ ولكن من حقه أن يسأل: ما قيمة ما ترك؟ فالقاضي لا يحتل مكانته التاريخية بعدد القضايا التي نظرها وحكم فيها، ولكنه يحتل هذه المكانة بقدر حرصه على تحقيق العدل، والنزاهة والإنصاف، دون ميل عن الطريق المستقيم، بصرف النظر عن عدد القضايا التي نظرها.
وعلى هذا الأساس نقيم الدكتور عشري ناقدًا عل قلة ما كتب إذا قيس بآخرين خلفوا عشرات، بل مئات من الكتب والدراسات ، فدراساته ـ كا سنرى ـ تأخذ مقام الريادة في مجال النقد، قال عنه أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة: لقد ناقشته في أطروحته التي تقدم بها للحصول على درجة الماجستير، وكانت عن "موسيقى الشعر" فرأيتني أمام أطروحة تستحق درجة الدكتوراه.
وفي السطور التالية نقف مع بعض أعماله لنرى مدى مصداقية ما ذكرناه آنفًا من ملامحه النقدية، ومدى التزامه بالتوصيف الذي عرضناه في إيجاز شديد.
مع الدكتور غنيمي هلال:
فمن أمانته في البحث حرصه على الرجوع إلى كل طبعات الأثر الواحد حتى يخلص إلى أحكام نقدية صائبة، كما نرى في بحثه القيم عن أستاذنا الدكتور محمد غنيمي هلال([4]).
فقد رجع إلى كل طبعات كتابه "الأدب المقارن" الذي بلغ في طبعته الثالثة ثلاثة أضعاف طبعته الأولى([5])، ومثل ذلك يقال عن كتابه "ليلى والمجنون في الأدبين العربي والفارسي".
وبعقلية الناقد الواعي، وبعد استقراء شامل يستخلص الدكتور عشري أهم الملامح النفسية والعلمية في شخصية الدكتور غنيمي هلال، ويتتبع انعكاسات هذه الملامح على نتاجه، وأثرها العميق على اهتماماته العلمية، وطريقته في معالجة القضايا.
وأهم هذه السمات:
1ـ قلقه العلمي: الذي تمثل في مظهرين أساسين هما: دأبه على إعادة النظر في كتبه، في المجال النظري، والمجال التطبيقي، حتى إن الطبعة الأخيرة من الكتاب تبلغ ثلاثة أمثال الطبعة الأولى، والمظهر الثاني: ولعه بتناول الموضوع الواحد في أكثر من مؤلف من مؤلفاته، ولكن بأضواء جديدة، ومن زوايا مختلفة.
2ـ التدقيق، والتأصيل العلمي.
3ـ حماسته الشديدة لضرورة تلاقح الآداب والحضارات، وتفاعلها، وتبادلها التأثر والتأثير فيما بينها.
ريادة نقدية في استدعاء التراث:
وعلى قمة الريادة يقف كتابه "استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر" الذي استغرق تأليفه ستة أعوام من عمره، متواصلة العمل، شديدة المشاق، وهذه الدراسة تعد رائدة في موضوعها ومنهجها:
فبالمعيار الزمني: لم تعرف ـ في ساحة الأدب والنقد ـ دراسة متكاملة سبقتها إلى معالجة هذا الموضوع، كما أنها ـ بقدر علمي ـ لم تلحق بدراسة تتفوق عليها، أو تقاربها شمولاً وعمقًا ودقة، ومن أهم ما يميز هذه الدراسة:
1ـ أن صاحبها لم يتعبد فيها لمنهج واحد من مناهج البحث، بل استخدم أكثر من منهج تبعًا لما تتطلبه طبيعة البحث، وأهمها المنهجان التاريخي والفني.
2ـ أن الدراسة جمعت ما بين التنظير والتطبيق، فجاءت تنظيرات الباحث منزهة عن التجريد والتقرير، معتمدة على معروضات كثيرة متعددة من النصوص المتنوعة.
**********
كما جاءت هذه الدراسة رائدة "بالمعيار الكيفي" لما اتسمت به من العمق والوعي والشمول، كما ذكرنا.
وهي كذلك رائدة "بالمعيار التأثيري" فلا يستطيع أن يتخطاها، أو يغفلها من ينهض للبحث في تأثير المعطيات والقيم التراثية في الأدب العربي الحديث، والعلائق الفكرية والفنية بين القديم والحديث: شخصيات، ووقائع، ومناهج وتيارات([6]).
الولاء التراثي:
وهذه المعايشة الطويلة للتراث ـ في كل مناحيه ـ بعقلية واعية متعمقة، وحساسية مرهفة، غرست في نفس الدكتور عشري ما يمكن أن نسميه "الولاء التراثي" انشغالاً، وإقبالاً، وحبًا، وتواصلاً، وكل أولئك يتمثل في التنظير المنهجي من ناحية، وتتوالي دراساته التطبيقية، انطلاقًا من تنظيراته الدقيقة من ناحية أخرى، وهي تطبيقات متنوعة اتسعت لدراسة الفن، ودراسة الشخصية، ودراسة القومية، وكلها ـ على تنوعها ـ تتسم بالعمق والشمولية، والقدرة الفائقة على اعتصار النصوص واستخلاص ما فيها من دلالات.
مع السندباد في الرحلة الثامنة:
ففي دراسته الفنية عن شخصية سندباد في شعرنا المعاصر، وعنوانها "الرحلة الثامنة لسندباد، نراه يستقصي كل وجوه هذه الشخصية في شعرنا المعاصر: وجه المغامر الفنان، ووجه الثائر المصلح، ووجه المنفى الشريد، ووجه المهزوم الكسير، والوجه الحضاري الشامل.
ولكنه يخلص بعد عرض هذه الوجوه إلى أنها ـ وإن كانت أساسية ـ "ليست كل وجوه السندباد في شعرنا المعاصر، فكل هذه الوجوه ليست سوى أطر دلالية عامة، تندرج تحت كل واحد منها مجموعة من الوجوه التفصيلية، بحيث يمكن القول بأن وجوه السندباد في شعرنا المعاصر تتعدد بتعدد مرات توظيف الشعراء المعاصرين لهذه الشخصية في شعرنا المعاصر"([7]).
وكان طبيعيًّا أن ينطلق عشري من هذا المعروض الفكري الموضوعي لشخصية السندباد إلى عرض الأطر الفنية والأسلوبية التي عولجت فيها هذه الشخصية العجيبة، ولكن الذي لا يقل عن ذلك أهمية ودلالة على سمة الاستقصاء هو تتبع عشري لمكان شخصية السندباد في الآداب العالمية، بعد أن اكتشف حقيقة غريبة، وهي "أن اهتمام شعرائنا وكتابنا عمومًا بهذه الشخصية، وبألف ليلة وليلة بأسرها قد تأخر عن اهتمام الغربيين الكبير بهذا المصدر، وحفاوتهم به أكثر من قرنين من الزمان"([8]).
مع أبي فراس الحمداني:
ونرى نهجه في الاستقصاء ـ إلى حد الاستنزاف ـ في دراسته عن الصورة الفنية في قصيدة أبي فراس الحمداني. فهو يفرق ابتداء بين الصورة الشعرية، والصورة الأدبية، والصورة الفنية، وعلى عادته في عدم التعبد لمذهب أو اصطلاح معين "لأن الدراسة التطبيقية أكثر ملاءمة للنهوض بهذه المهمة، يمضي مستبطنًا شعر أبي فراس، ويخلص إلى حقيقة نقدية، مؤداها: أن أبا فراس استخدم كل أنماط الصورة المألوفة في عصره، وقبل عصره، وإن كان ثمة سمة عامة وراء هذه التلقائية، وعدم التكلف، أو بعبارة أدق: عدم بروز التكلف في تشكيل الصورة، وبالتحليل الفني لبناء هذه الصور نرى ثمرة هذا الجهد، ولا نرى الجهد نفسه، فثمة فارق بين بذل الجهد الذي هو شرط كل عمل عظيم، وبين التكلف"([9]).
ويمضي الكاتب مستخلصًا كل أنماط الصور الفنية في شعر أبي فراس إلى حد الاستنزاف، كما ذكرت آنفًا، وهي لا تتعدى الأنماط الآتية:
الصورة التشبيهية ـ الصورة الاستعارية ـ الصورة التشخيصية ـ الصورة الواقعية ـ الصورة الكنائية ـ الصورة الحوارية ـ الصورة التشكيلية ـ الصورة التناصية ـ الصورة القصيدة ـ ـ الصورة المكررة.
وهذه الدراسة بما فيها من دقة وعمق وموضوعية تعد نموذجًا راقيًا لدراسة النصوص التراثية بعيدًا عن أسر المذاهب النقدية، وخصوصًا ما واكب الحداثة، وما بعد الحداثة.
بصمات التراث في الشعر الكويتي:
وتتضح هذه الملامح في بحث قيم للدكتور عشري، جاء في ثلاثين صفحة عنوانه "استدعاء التراث في الشعر الكويتي", وفيه لم يترك نقطة من نقاط الموضوع إلا عالجها، وتعمقها، ففي حديثه عن صيغ التوظيف التراثي ودلالاته ومصادره في الشعر الكويتي، لا يترك مصدرًا إلا عرض له، كالمصدر الديني، والمصدر التاريخي، والمصدر الصوفي، والمصدر الأدبي، ولا يغفل عن ذكر منهجين لم يسترفدهما الشعر الكويتي إلا نادرًا، وهما المصدر الأسطوري والمصدر الشعبي([10]).
ولم يكتف بشعر المشاهير من أمثال: عبد الجليل الطباطبائي، وأحمد مشاري العدواني، وخليفة الوقيان، ومحمد الفايز، وعلي السبتي، وأحمند السقاف، وخالد سعود الزيد، وعبد الله العتيبي، وسعاد الصباح، بل يستقرئ ـ كذلك ـ شعر أشخاص ربما لم تتعد شهرتهم حدود الكويت، مثل: عبد الله سنان محمد، وجنة القريني، وإبراهيم الخالدي، ونجمة إدريس.
وهو استقصاء أفقي لو نظرنا إليه من زاوية الكم، وأهم منه الاستقصاء الرأسي الذي يتعمق شرائح المعروض المدروس: شخصيات، وفنًا، ووقائع.
وانطلاقًا من ولائه الموضوعي للتراث يرى عشري أن البعد التراثي مكون أصيل من مكونات الهوية القومية، بل لعله أهم هذه المكونات على الإطلاق، فالهوية القومية في تحليلها الأخير ليست سوى الملامح المشتركة للانتماء إلى أصول حضارية واحدة لأبناء أمة ضاربة بجذورها في أعماق تاريخ هذه الأمة، وباسطة ظلالها على حاضرها، وهذه الأصول ليست سوى التراث المشترك بين أبناء القومية الواحدة.
وتزداد ملامح الهوية القومية قوة ورسوخًا بمقدار تمسك أبناء هذه القومية بتلك الأصول، واعتزازهم بالانتماء إليها، ومن ثم يكون البعد التراثي شديد الوضوح في الإبداع الأدبي، والفني، والفكري، لكل أمة تعتز بهويتها القومية، وتتشبث بها، ويشتد هذا البعد بروزًا وتألقًا في الحقب التي يشتد فيها تشبث الأمة بأهداب قوميتها، واستنفارها لها، وهي ـ في العادة ـ مراحل الانتصار والانكسار في حياة الأمة التي تدعوها إلى الزهو بانتمائها القومي، أو إلى الإهابة بجذورها، والاتكاء عليها، في مواجهة خطر قائم([11]).
الولاء التراثي وحرية الإبداع:
ولكن الوفاء للتراث في معطياته الشكلية، وأطره الفنية قد يصطدم بما يجب أن يتمتع به الأديب من حرية الإبداع في نظر بعضهم، يحسم الدكتور عشري هذه القضية برؤية واعية، تتلخص في أن الفن التزام بقدر ما هو حرية، وتلك هي المعادلة الصعبة التي على المبدع المرتاد خوض غمار العثور على حل لها، فهو مطالب بأن يراعي التزامات الجنس الأدبي، أو الفني الذي يبدع في إطاره، وأن يتجاوز هذه الالتزامات في الوقت ذاته، مطالب أن يخضع لها، ويتمرد عليها، ولو سقط المبدع أسيرًا لأحد طرفي المعادلة لخرج نتاجه من دائرة الإبداع البكر المتفرد، ولو سقط أسيرًا لكل قيود الالتزامات الموروثة للإطار الفني. لما زاد ما ينشئه عن أن يكون إضافة كمية مبتذلة إلى الموروث الأدبي، ولو سقط أسير التمرد الكامل على هذه الالتزامات لخرج ما ينشئه عن دائرة الإبداع الأدبي والفني من الأساس . أما إذا تحرر من إسار طرفي المعادلة كليهما، فإن ما ينشئه يخرج عن أن يكون شيئًا خاضعًا لمفهوم الأدب والفن([12]).
ولكن بعض شعراء الجديد يلجأ إلى الأطر والأشكال التراثية في التعبير عن تجربته، ومع هذا نرى للدكتور عشري وقفة جادة ما أراها إلا حرصًا منه على القيم التراثية من ناحية، وعلى سلامة مسيرة الشاعر من ناحية أخرى، "فتمسك الشاعر بالشكل الموسيقي الموروث ـ وحدة الوزن ووحدة القافية ـ هو أنسب الأشكال لاحتواء رؤيته الشعرية، وأنه قادر على إبداع قصيدة حديثة في إطاره، بل إن العدول عن هذا الشكل في مثل هذه الحالة يعد نوعًا من التقصير يلام عليه الشاعر.
"أما حين يصبح التمسك بالشكل الموسيقى الموروث نوعًا من دفع تهمة العجز عن استخدامه، أو الغربة في إثبات القدرة على ممارسة الكتابة في إطاره، دون أن يكون في طبيعة رؤية الشاعر ما يستلزم هذا الشكل بالذات، ودون أن يكون لديه القدرة على تطويع هذا الشكل للرؤية الشعرية الحديثة، فإن الأمر يصبح خطرًا داهمًا لا يقل خطورة عن اصطناع الشكل الحر مجاراة لموجة التجديد الشكلي، دون أن يكون في طبيعة رؤية الشاعر ما يستوجب هذا الشكل أو يسوغه([13]).
شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن أهم نماذج الاستقصاء في البحث التراثي ما كتبه عن "استلهام شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الشعر العربي المعاصر"، إذ استقرأ هذا الشعر، وصنفه في إطار المنهج التسجيلي أربعة أنماط هي:
1ـ المطولة التاريخية.
2ـ قصيدة المديح النبوي.
3ـ قصيدة البوح والشكوى.
4ـ المسرحية والتمثيلية الشعرية.
وأمام كل النماذج التي عرضها عشري كانت له وقفته النقدية البصيرة تمحيصًا، وتعمقًا، وموازنة، وذلك حرصًا على تحديد طبيعة العلاقة بين المنطق التاريخي، والمعروض الفني، ومدى التفاعل بينهما كمًا وكيفًا، ويخلص إلى أن المطولة التاريخية ـ على سبيل التمثيل ـ تهتم بالأمانة التاريخية أكثر من اهتمامها بالتجويد الفني، ويظل التاريخ منافسًا للشعر في الاستحواذ على اهتمام الشاعر، ويظل الشاعر ـ في أغلب الأحوال ـ أكثر وفاء لدقة التسجيل منه لشاعرية التعبير([14]).
كما يخلص إلى أن معظم قصائد المديح النبوي في الشعر العربي المعاصر تدور في إطارلا تقليدي، سواء في مضامينها العامة، أو في لغتها وصورها وموسيقاها([15]).
واتجهت بعض القصائد اتجاهًا صوفيًا إشاريًا يصعب على القارئ معايشة مضامينها، مثل قصيدة نازك الملائكة "زنابق صوفية للرسول"([16])، وتعتبر هذه القصيدة ـ كما ذكرت ناظمتها ـ وأيد الكاتب حكمها هذا ـ محاولة جديدة لاستحداث شكل معاصر لفن المدائح النبوية.
أما قصيدة الشاعر السوداني محمد عبد الحي، وعنوانها "معلقة الإشارات" فهي "تهوم في أجواء من الغموض والغرابة تختلف عن تلك الأجواء الشفافة التي حلقت فيها قصيدة نازك الملائكة، فقد كانت أكثر إسرافًا في التجديد، وأكثر انسياقًا وراء المغامرات الجديدة في بناء القصيدة الحديثة"([17]).
وتكريسًا لطابعه في الاستقصاء وصولاً للحكم النقدي لا يكتفي عشري بالموازنة الخارجية أو الغيرية، أي الموازنة بين شاعرين أو أكثر في نطاق عمل واحد أو أكثر، بل يلجأ إلى ما يمكن أن نسميه "الموازنة الداخلية، أو الذاتية" أي الموازنة بين عملين أو أكثر لشاعر واحد، فهو يضع قصيدة "معلقة الإشارات" لمحمد عبد الحي، وهي قصيدة ـ كما عرفنا ـ "مسرفة في التجديد، وأكثر انسياقًا رواء المغامرات الجديدة في بناء القصيدة"...
يضعها على سبيل الموازنة في مواجهة قصيدة مدحية ثانية للشاعر نفسه، عنوانها "مطالع الجمال: العنقاء، الحمامة، الملاك"، ويحكم عليها بأنها أكثر تركيبًا وتعقيدًا من القصيدة وأخيلتها الغريبة، ورموزها، أو في بنائها الموسيقي المركب([18]).
وبمعايشته قصائد البث والشكوى التي يبث الشاعر فيها أحزانه، ويناجي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شاكيًا حال الأمة الإسلامية، وأشجان الوطن، وأشجان الذات، يلاحظ عشري أن كثيرًا من قصائد المدح يتصدرها أبيات من البث والشكوى، وهي ـ كما لاحظ الكاتب برهافة حسه النقدي ـ يغلب عليها التعبير العفوي التلقائي، وتخلو ـ أو تكاد ـ من الصور الشعرية المتأنقة المعقدة؛ لأن الشاعر حين يغلبه البوح ينقاد لسجيته، فيجيء شعره تلقائيًا، لا صنعة فيه، ولا تأنق، ويكون للتعبير العفوي المباشر أقرب منه إلى التصوير الشعري المركب ذي الإيحاءات المتعددة الفنية، وإن كان صدق الشعور وحرارته ـ في مثل هذا التعبير التلقائي ـ يعوض ما فيه من عدم الاحتفاء الشديد بالتصوير والتأنق في الصياغة الشعرية([19]).
والقالب المسرحي والتمثيلي كان ـ وما زال ـ أشد القوالب حرجًا في استلهام شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فثمة محاذير متعددة، من أهمها:
(1) أن شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شخصية مقدسة لا يجوز تمثيلها، أو تجسيدها.
(2) أن أحداث حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ جزء من تراث العقيدة الإسلامية، فلا يجوز التبديل فيها بحذف أو إضافة.
ولكن هذه المحاذير لم تمنع بعض الشعراء من محاولة استلهام شخصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ استلهامًا غير مباشر، كما فعل عزيز أباظة في "قافلة النور" ومحمود حسن إسماعيل في تمثيلية "معجزة الغار" ونظرًا للمحاذير التي أشرنا إليها من قبل حرمت هذه الأعمال الروح الدرامي، وبقيت الأحداث والشخصيات تكرارًا لواقعها التاريخي، كما غلبت الغنائية على الحوار([20]).
**********
وثمة صعوبات مشابهة تواجه الشاعر العربي المسلم في استلهام شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إطار المنهج التوظيفي، لما تقتضيه طبيعة هذا المنهج من تأويل في ملامح الشخصية المستلهمة، ومن إسقاط بعض ملامح الواقع المعاصر عليها، لتصبح هذه الشخصيات رموزًا لجوانب من هذا الواقع([21]).
ومع ذلك نظم الشاعر العراقي "شاذلي طاقة" قصيدة "ضائعون وغرباء" استلهم فيها شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليرمز بها إلى الإنسان العربي المسلم المنتظر الذي يخلص الأمة من آلامها وهوانها([22]).
ويدور في فلك مشابه الشاعران كاظم جواد([23])، وفؤاد الخشن([24])، ولكن تبقى قصيدة "الخروج" لصلاح عبد الصبور([25])، ذات تفردية وخصوصية، فقد استلهمت ـ في إطار المنهج التوظيفي ـ شخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بعض الرؤى والتجارب الخاصة، إذ استلهم الشاعر فيها حادثة الهجرة الشريفة، ليعبر من خلالها عن تجربة خاصة، وذلك دون التصريح بذكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحيث يمكن قراءة القصيدة على مستويين: مستوى مباشر، يمكن فيه للقارئ أن يقرأ القصيدة، دون أن يحس بأن هناك استلهامًا لشخصية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولحادثة الهجرة بالذات.
ومستوى غير مباشر أكثر تعمقًا، وأكثر ثراء إذا تمكن القارئ من اكتشاف النبع النقي الفياض الذي استلهمه الشاعر.
والرؤية الخاصة التي حاول الشاعر توظيف حادث الهجرة توظيفًا فنيًا للإيحاء بها، هي محاولة الشاعر الهرب من زيف المدنية الحديثة، وشرورها، ومن واقع حياته المرير، في ظل هذه المدنية، ومن ذاته التي نشأت وترعرعت في ظلال هذا الواقع الموبوء، وتشبعت بزيفه وشروره إلى واقع آخر أكثر نقاء وصدقًا، وذات أخرى أكثر طهرًا.
وقد رمز الشاعر بمكة المكرمة ـ دون أن يصرح باسمها ـ إلى كل ما يجب الفرار منه، من زيف المدنية المعاصرة، وواقع حياته الموبوء الذي ألقت عليه هذه المدنية بظلها الكثيف، وذاته التي لوثها هذا الواقع الموبوء:
أخرج من مدينتي من موطني القديم مطرحًا أثقال عيشى الأليم
فالشاعر لم يصرح باسم مكة المكرمة، وإنما عبر عنها باسم (مدينتي) كما يشبه نفسه ـ في خروجه الأسوان ـ باليتيم الذي لم يتخير واحدًا من الصحاب.
ويستحضر واقعة "سراقة بن مالك"، وكيف ساخت أقدام حصانه، وهو يعاني ما يعاني في مسيرة حياته، محاولاً التخلص من آلامه، وأثقال الزيوف والضياع:
سوخي إذن في الرمل سيقان الندمُ لا تتبعيني نحو مهجري نشدتك الجحيم
وأخيرًا بعد أن غسل الشاعر أعماقه، وانسلخ من ذاته المهترئة القديمة، يتحقق أمله في الوصول إلى مدينته
مدينة الصحو الذي يزخر بالأضواء
والشمس لا تفارق الظهيرة.
والقصيدة من أرقى قصائد الاستلهام التراثي، ويرجع الدكتور عشري تفوقها إلى اتسامها بما يسميه "ثنائية المستوى الدلالي": فالقارئ يستطيع أن يقرأها وهو خالي الذهن من الأسماء التاريخية التي تشير إليها القصيدة بطريقة غير مباشرة (مكة ـ الهجرة ـ الغار ـ ملاحقة سراقة ـ الوصول إلى المدينة المنورة) , وإن كان كل أولئك يمثل مراحل نفسية منصهرة في التجربة الشعرية، تجربة المعاناة القاسية، والشعور الحاد بالغربة، والقيام بالهجرة الروحية، وتنتهي بالوصول إلى محطة الطهر والنقاء، أو المدينة الفاضلة.. مدينة الصحو والشمس التي لا تغيب.
هذا هو المستوى الأول، أما المستوى الثاني فهو المستوى الأرقى إذا ما قرأها القارئ مستصحبًا المسميات المرموز إليها، وما تفرغه على مضمون القصيدة من امتدادات وإيحاءات.
وبذلك بلغ صلاح عبد الصبور، ـ بهذه القصيدة ـ مقامًا لا يبلغه إلا الأقلون من الشعراء الموهوبين.
**********
وبعد: فهذه نماذج من عطاء الدكتور علي عشري ـ رحمه الله ـ وقفنا أمامها نحاول التعرف منها على منحاه النقدي، وكلها تقطع بأصالته، وأمانته، وشخصية النقدية الرائدة بحرصه على الموضوعية الحقيقية، وانتصاره للتراث العربي الذي رأى فيه عصارة حية سرت، وتسري في أعطاف الإبداع الحديث، وخصوصًا الشعر، وكان ـ يرحمه الله ـ في نقده تمثيلاً حيًّا لملامحه الخلقية والنفسية والإنسانية: أمانة، ودقة وأناة وحكمة ورزانة، وتركنا الحبيب علي عشري ليترك مكانه شاغرًا، وكأنه المقصود بقول أبي تمام:
راحت وفود الناس عن قبره فارغة الأيدي وملأى القلوب
قد راعها ما رزئت إنما يعرف فقد الشمس عند المغيب