العراق الوطن، والشاعر يحيى السماوي الإنسان، بينهما تناغم وجداني مؤثر، وعطاء شعري متواتر يعكس ما لدى الشاعر من حب للوطن الذي فرقته الحروب الديكتاتورية والمؤامرات، والمؤتمرات، حتى باتت (بغداد) غصة أليمة وكاوية في فؤاد الشاعر.
الحنين إلى الوطن قد يكون أقسى في حالة (السماوي/ بغداد)؛ لأن المدينة لا تزال تتناهبها ضواري الحروب، وضباع النزاعات التي تدمي القلب، وتفطر الوجدان، فالوطن حينما يكون في محنة يكون أكثر إيلاماً لأهله، وحينما يرحل الإنسان، ولاسيما إن كان شاعراً عن الوطن تصبح كل المدن سجناً لأحلامه أو قبراً لذكرياته وولعه بذلك المكان البعيد.
الشاعر السماوي عني بالمكان الذي ينأى عنه مرغماً حتى أنه يضع بينه وبين المدن الأثيرة إلى قلبه بحاراً ومحيطات فلعل العاصفة تهدأ، ويرحل الغزاة والإرهابيون ، ويعود الوطن إلى أهله، ويبث الشاعر أغاني العودة الدافئة لعيون المدائن وأهلها، فليس سوى الشعر من يعيد بريق العلاقة بين شاعر يحب الأوطان، ومدينة تنام على وعد بقرب الخلاص من منغصات كثيرة كحال بغداد الجريحة.
الشاعر السماوي لا يحنّ إلى مدينة بغداد ذاتها، وإنما يرى في هذه المدينة الأسطورة كل مدن الوطن، فهو الذي استهل أول أحزانه على فراق الوطن عام 1992م حينما قال في قصيدته المعنونة (قلبي على وطني):
أبدلت بالظل - الهجير - لأنني
قد كنت في داري غريب الدارِ
أنا ضائع مثل العراق ففتشي
عني بروضك لا بليل صحاري
فالشاعر يذعن لأمر الغربة، ومطالب الرحيل عن مدن تسكن الوجدان، فلا هو القادر على مقاومة ما يجري، ولا هو المتيقن بأن النأي هو أسلم طريق، فالغربة وضياع الوطن هما عاملان مهمان من عوامل هزيمة الشاعر وموت حلمه.
المدائن التي انغرست في الوجدان كنبتٍ معاند هي ما جعلت الشاعر السماوي يعيد على مسامع العالم ما حل بدجلة والفرات، وبغداد، والبصرة والسماوة، وما إلى تلك التخوم التي تهاوت في أتون نار حرب ضروس، لكن الشاعر يهرب من أرض المعركة لأنه لم يضع على كتفه سوى سلاح الشعر، فقد اكتشف الشاعر خصمه المتمثل بالقبح المدجج بعتاد كثير.. فالنصر المحتم للغزاة الذين لا يقيمون وزناً للجمال الذي يبشر به السماوي، فلا مكان للشعر طالما أن الجمال بات شيئاً من الماضي.
العودة إلى الوطن ودخول المدن من أبواب عالية باتا حلماً للشاعر العراقي وآن له أن يتمثله، ويصور أبعاده، بل ويحاول جاهداً أن يحدد معالم الغربة، وهل ستطول كما طالت غربة فلسطين وأهلها..
المدائن لا تجد من تحييها في الصباح إلا هؤلاء الذين تحجرت قلوبهم، ولاذوا بالصمت، ومقارعة الخطوب، وانتظار الموت؛ لأنهم في حياة لا تختلف كثيراً عما يعيشه الموتى؛ فالفقر، والتضور جوعاً، والجنون، وغياب الهدى هو ما يميز حال مدينة يحاول أن يعود إليها الشاعر بهذا الكم الهائل من الأحلام الوردية التي قد لا يكون لها مكان في زمن أسود.
قصائد السماوي في المدن، ولاسيما بصرته، وبغداده، والسماوة التي يحمل اسمها منذ أن أدرك الحياة.. فهو الحالم البغدادي، وإن كان سماوياً، والحزين البصري، والباكي على فراق الفرات.. فالأرض بنهرها هي حلم لم يفق الشاعر بعد من سورات تكوينه، فساعة يمني الذات بعودة سريعة، وفي لحظة أخرى يفر إلى أقصى مكان من اليأس وخيبة الأمل بقرب العودة إلى الوطن الذي يحاول أن يعانق أهله، حينما يعودون إليه محملين بوهج الحب.