لا شك أن تجارب البشرية موغلة في القدم ، تراكمت مع مرور الزمن ، فاستفاد منها اللاحق وطورها جيلاً تلو جيل ، وهذا ينطبق على الشعر العربي الذي انتهى إلينا أواخر العصر الجاهلي ، فقد مر الشعر الجاهلي بتطور مستمر منذ اهتدى العربي إلى تسجيل خواطره وتجاربه وتأملاته في شكل موسيقي بسيط ، حتى انتهى إلى تشكيل أولي مقبول وثابت سماه الحداء ، وأطلق عليه الخليل بن أحمد اسم الرجز .
كان مولد الشعر العربي في جزيرة العرب ، حيث عاش العربي حياة الصحراء بكل أبعادها ، وأخص هذه الأبعاد معاناته المستمرة مع التنقل على ظهور الإبل من مكان إلى آخر ، بحثا عما هو أفضل في حياته .
كان من المقبول والمفهوم أيضا أن يرتبط إحساسه الموسيقي بالصحراء وما يعينه على شظفها من الحيوانات وخاصة الإبل ، وأن يكون مولد أول المحاولات الشعرية ، وهو بحر الرجز ، مرتبطاً بالصحراء والإبل .
لا نريد أن نلتفت إلى ما قالوه من تفسيرات هذا الارتباط ، وحسبنا أن نقر أن بحر الرجز كان نتاج تجارب العربي في صحرائه ، وعلى متن إبله ، وكان أيضا نتاج حاجاته وهو يمارس هذه التجارب بشكل مستمر .
إذن كان الرجز تكثيفا للمحاولات الموسيقية الأولية في صحراء العرب ، التزمه العربي في الغناء لإبله أولاً ، وكان يسمي هذا الغناء حُداءً .
كان الرجز أبياتاً بسيطة ، تم تطور إلى مقطعات ، ولم يتطور إلى مطولات إلا بعد الجاهلية ( على أيدي الأغلب العجلي ، ثم العجاج وابنه رؤية ) .
إذا كان ظهور الرجز قد ارتبط بالإبل وحاجة العربي إليها في قطع الصحراء ، فإن للعربي حاجات أخرى ، مثله في ذلك مثل سائر البشر ، وعندما حاول أن يعبر عن هذه الحاجات بنغم موسيقى مناسب لم يسعفه وزن الرجز، فبحث عن وزن آخر ، فاهتدى إليه ، وهكذا كلما احتاج أن يعبر عن عاطفة جديدة اهتدى إلى وزن جديد ، حتى انتهى أواخر العصر الجاهلي وقد اهتدى إلى عدد من الأوزان ، يستخدمها في نظم موسيقي دعاه الخليل بن أحمد فيما بعد ببحور الشعر .
كان الرجز تطورًا للمحاولات البدائية الأولى للشعر العربي ، وكانت بحور الشعر الأخرى تطوراً للرجز ، بل إن كل بحر من بحور الشعر كان تطوراً لما سبقه من بحور حتى انتهينا في أواخر العصر الجاهلي إلى هذا الكم الكبير من بحور الشعر التي لبت الحاجات الموسيقية المختلقة للحس العربي المرهف ، رهافة الصحراء الرحبة ، الواسعة ، الواضحة ، القاسية قسوة الشمس التي لا ترحمها نهاراً وقساوة البرد الذي لا يرأف بها ليلاً .
وفي أثناء هذه المسيرة الطويلة في ميلاد الشعر خضعت هذه الأوزان إلى تجارب وتعديلات إلى أن استقرت في نظام متكامل عجيب ، يعجب الدارس لهذا النظام كيف استطاع هذا العربي البسيط أن يُحكمه هذا الإحكام الشامل الذي يسير بقوانين منتظمة راقية .
وعندما اطلع الدارسون على هذا النظام الموسيقي الهندسي نازعتهم أنفسهم إلى إنكار أن يكون هذا الابتداع من صنع هذا الإنسان ، فقالوا إن هذه الأوزان ألُهمها العربي إلهاماً ، ولم يكونها تكوينًا تطوريًا معتادا .
وحُق لهم ذلك ، إذ إن المطلع على روعة هذا النظام وإحكامه يقف منبهراً أمام هذا الإنجاز العجيب .
كانت بحور الشعر منذ الجاهلية الموغلة في القدم تقوم على نظام محكم سماه الخليل الدوائر العروضية ، بين في هذه الدوائر كيف بنى الإنسان العربي الجاهلي هذه الأنغام ، بل كيف اختار من هذا النظام عدداً من الأنغام مما ناسب لغته ونفسيته ، وكيف ترك أنغامًا أخرى ، اقتضى وجودها هذا النظام الشامل للدوائر العروضية ، لأنها لم تناسب لغته وذوقه وأحاسيسه .
ثم إن هذا العربي الصحراوي ضاق بالقوانين الصارمة لهذه الأوزان ، فاحتال على هذه القوانين ببعض التعديلات التي أسماها الخليل الزحافات والعلل ، ولفهم هذه التعديلات لا بُدَّ لنا أن نبين النظام الذي يقوم عليه بيت الشعر ، فبيت الشعر يتكون من وحدات موسيقية تسمى التفاعيل . وعدد هذه الوحدات لكل بيت تلتزم في بناء القصيدة كلها .
لم يشأ العربي الجاهلي أن يلتزم بصرامة الوزن الموسيقي للتفاعيل ، أو فلنقل إن هذا النسق الموسيقي الصارم كان يعترض تدفقه في النظم ، فعمد إلى بعض التعديلات التي سميت فيما بعد بالزحافات والعلل .
أما الزحافات فهي تعديلات في حجم الوحدة الموسيقية وفي تسلسلها النغمي .
أما التعديل في حجم الوحدة الموسيقية فيتحقق في حذف حرف أو حرفين من التفعيلة يلجأ إليه الشاعر حين لا تسعفه الكلمات بإكمال النغم الموسيقي ، ولكن دون أن يدخله هذا الحذف في باب الخلل الذي يعبر عنه أهل الموسيقى بالنشاز ، وندعوه نحن بالانكسار العروضي .
أما التغيير في التسلسل النغمي فيتمثل في تغيير في حركة حرف أو حرفين من حركات الوحدة الموسيقية (التفعيلة) كأن يسكن المتحرك أو يحرك الساكن .
وقد يبيح الشاعر لنفسه مجالاً أرحب فيستخدم الحذف والتغيير معاً .
والزحاف بأشكاله يمكن استخدامه في حشو بيت الشعر في أي مكان في القصيدة وهو ليس واجب الالتزام ، وللزحاف صور كثيرة تجدها مشروحة مفصلة في كتب العروض .
وأما العلل ففيها نقص وزيادة على الوحدة الموسيقية وهو لا يكون إلا في عروض بيت الشعر أو ضربه فقط وهو واجب الالتزام في جميع أبيات القصيدة إذا بدأ به الشاعر في بيته الأول .
وهناك تفصيلات في علل الزيادة والنقص تجدها في كتب العروض .
ليس من هدفنا فيما نكتب الآن أن نشرح الزحافات والعلل ، وحسبنا هنا أن نبين أن الزحافات والعلل كانت نوعاً من التطوير في الوزن الشعري احتاجه العربي الجاهلي فابتدعه واستخدمه ، ومن المستحسن هنا أن أشير إلى أن نظام الزحافات والعلل قد استوى مفهوما ومقبولا في أواخر العصر الجاهلي ولجأ إليه كبار الشعراء في قصائدهم، وعلى رأس هؤلاء الشعراء شعراء المعلقات ، وعلى رأس شعراء المعلقات امرؤ القيس ، بل إنه لأكثرهم استخداما لهذا التطور الموسيقي ، بل ولعله كان أستاذاً للشعراء بسبب هذه المرونة التي لجأ إليها من خلال استخدامه الواسع للزحافات والعلل .