تثير رواية "عُرس الزين" مجموعة من الإشكاليات السردية الهامة سوف أقف عند ثلاث منها :
الإشكالية الأولى "لغة السرد الواقعي" : فالمفهوم السائد لدى كثير من المبدعين والنقاد العرب أن السرد الواقعي لايتطلب استخدام اللغة الشاعرية إذ وهو ينقل الواقع يبدو أشبه بعدسة الكاميرا التي تلتقط التفاصيل الخارجية للبيئة الاجتماعية وشخوصها ، لذا فاللغة المناسبة يجب أن تخلو من أية محسنات لتغدو أقرب إلى لغة الحوار اليومي ، وربما كان هذا الرأي هو نوع من ردة الفعل إزاء المبالغة في استخدام المحسنات البديعية واللغة الشعرية التي راجت خلال فترتي الكلاسيكية والرومانتيكية في الرواية العربية .
والحقيقة أن هذا المفهوم تسبب دون قصد في تراجع جاذبية الرواية لدى القارئ العربي لفترة طويلة إذ كم من الأدباء يمتلك تلك الموهبة الفذة التي مكنت نجيب محفوظ من أن يستخدم خلال مرحلته الواقعية – القاهرة الجديدة ، خان الخليلي ، زقاق المدق ، بداية ونهاية ، الثلاثية – لغة أقرب إلى اللغة المحكية لكنها في الوقت ذاته تتميز بجاذبية متفردة وبعذوبة فائقة إلى جانب سلامة قدرتها الإيحائية ؟ 
إن ذلك المفهوم الذي ساد الخطاب النقدي طويلاً يخالف جوهر الواقعية من حيث كونها آلية لسبر أغوار الشخصيات عبر الوعي بحقائق واقعها بأكثر من كونها اداة لنقل الواقع كما هو على غرار ماتفعله عدسات الكاميرا ، لذا فإن أحد أهم رواد الواقعية والرمز الأكبر للمذهب الطبيعي وهو الكاتب الفرنسي إميل زولا دعا من خلال نقده للأدب الواقعي إلى صياغة ماأطلق عليه "شعر الواقع" وقد طبق ذلك في أعماله وعلى رأسها روايته الأشهر "الأرض" التي تحوي مقاطع شعرية من أجمل ما يكون ، ويبدو أن الطيب صالح قد تأثر بهذه الرواية تحديداً إذ نجده في "عُرس الزين" يقدم وقفات نصية شبيهة بتلك التي قدمها زولا في "الأرض" مستخدماً في ذلك لغة أيروسية ذات نكهة افريقية ساخنة معبراً ببراعة لامثيل لها عن قوة الالتقاء الجنسي بين الذكر والأنثى عند ذروتها القصوى حتى لتبدو تلك الوقفات كأنها زخات حياة تفيض على النص الروائي روعة وجمالا ، وانظروا معي إلى هذه الوقفة الاستعارية التي تعبر عن موضوع الرواية – وهو العرس – أجمل تعبير (تتابعت الأعوام عام يتلو عاما ، ينتفخ صدر النيل كما يمتلئ صدر الرجال بالغيظ ، ويسيل الماء على الضفتين فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء ، عند اسفل البيوت تنق الضفادع بالليل وتهب من الشمال ريح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من اريج زهر الطلح ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل ، وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتها ظلال النخل وأغصان الشجر والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة فإذا أقيم حفل عرس على بعد ميلين تسمع زغاريده ودق طبوله وعزف طنابيره ومزاميره كأنه يمين دارك ، ويتنفس النيل الصعداء، وتستيقظ ذات يوم فإذا صدر النيل قد هبط وإذا الماء قد انحسر عن الجانبين ، يستقر في مجرى واحد كبير يمتد شرقاً وغربا ، تطلع منه الشمس في الصباح وتغطس فيه عند المغيب ، وتنظر فإذا أرض ممتدة ريانة ملساء ترك عليها الماء دروباً رشيقة مصقولة في هروبه إلى مجراه الطبيعي ، رائحة الأرض الآن تملأ أنفك فتذكرك برائحة النخل حين يتهيأ للقاح ، الأرض ساكنة مبتلة ولكنك تحس أن بطنها ينطوي على سر عظيم ، كأنها امرأة عارمة الشهوة تستعد لملاقاة بعلها ، الأرض ساكنة ولكن أحشاءها تضج بماء دافق هو ماء الحياة والخصب ، الأرض مبتلة متوثبة تتهيأ للعطاء ، ويطعن شئ حاد أحشاء الأرض ، لحظة نشوة وألم وعطاء ، وفي المكان الذي طعن في أحشاء الأرض تتدفق البذور ، وكما يضم رحم الأنثى الجنين في حنان ودفء وحب ، كذلك ينطوي باطن الأرض على حب القمح والذرة واللوبيا ، وتتشقق الأرض عن نبات وثمر) ، وانظروا أيضاً إلى هذه البراعة اللغوية في وصف الفتاة الجميلة مستلهماً صور البيئة المحلية (كانت عزة ابنة العمدة في الخامسة عشرة من عمرها وقد تفتح جمالها فجأة كما تنتعش النخلة الصبية حين يأتيها الماء بعد الظمأ ، كانت ذهبية اللون مثل حقل الحنطة قبيل الحصاد وكانت عيناها واسعتين سوداوين في وجه صافي الحسن دقيق الملامح ورموش عينيها طويلة سوداء ترفعهما ببطء فيحس الناظر إليها بوخز في قلبه) والنص الروائي مترع بمثل هذه المقاطع الشعرية الجميلة التي أضفت على الرواية على بساطة فكرتها ألقاً وبهاء .
الإشكالية الثانية "الفصحى و العامية" : وهي تكاد تكون إشكالية خاصة بالأدب العربي نظراً لذلك البون الشاسع بين العربية الفصحى واللهجات المحلية والذي لايوجد بنفس القدر في اللغات الأخرى ، ومازال الجدال دائراً بين فريقين الأول يصر على استخدام العربية الفصحى سواء في السرد أو في الحوار معللاً ذلك بأنها أكثر قدرة وثراء في تنويع الدلالات وتعميقها وأقدر على الثبات في وجه الزمن من العامية التي تتميز بمحدودية المفردات وبسرعة تغير الدلالات في الوقت ذاته ، أما الفريق الثاني فيرى أن للغة العامية خاصية تتميز بها وهي سرعة الدلالة على معنى مرتبط بها في ذهن المتلقي دون حاجة لشرح أو لتفسير وهو ما يجعل الكاتب أقدر على التعبير بها عن واقع الحياة ، وهذا الفريق ينقسم بدوره بين من يؤيد استخدام العامية في الحوار فقط ومن يؤيد استخدامها في سائر المستويات السردية .
ونعود لما ذكرناه خلال مناقشة الإشكالية السابقة من رفض النظر إلى الواقعية في الأدب كأداة لنقل الواقع كما هو مما يجعلنا نؤكد على ضرورة الفصل بين مفهومي الواقعية الفنية والواقعية اللغوية المختلطين في أذهان البعض ، وعلى سبيل المثال فإنه لايخالف الواقع أن يتحاور العامة في رواية ما باللغة الفصحى ولكن مايخالف الواقع هو أن يناقشوا قضايا فكرية أو اجتماعية بتناول لايتفق مع معطياتهم الثقافية ولو كان بلهجة عامية ، ولعل أبرز مثال على ذلك روايات نجيب محفوظ في مرحلتها الواقعية التي تمكن فيها من تطويع الفصحى سرداً وحواراً بأعلى درجات التمكن مما اعتبره البعض أحد أهم أسباب قوة رواياته وتميزها ومن ذلك ماقاله الدكتور طه حسين : " إن روعة قصص نجيب محفوظ تأتي من لغتها فهي لم تكتب في اللغة العامية المبتذلة ولم تكتب في اللغة الفصحى القديمة التي يشق فهمها على أوساط الناس وإنما كتبت في لغة وسطى يفهمها كل قارئ لها مهما يكن حظه من الثقافة ويفهمها الأميون إن قرئت عليهم ، وهي مع ذلك لغة فصيحة نقية لاعوج فيها ولافساد ، وقد تجري فيها الجملة العامية أحياناً حين لايكون منها بد فيحسن موقعها وتبلغ منك موقع الرضا" ..
ولعل هذه الشهادة من طه حسين في ضوء روعة السرد المحفوظي وتميزه إضافة إلى تأثر كبار النقاد العرب بالتيار القومي الذي وجد في الفصحى أداة لتوثيق الروابط بين القراء العرب على اختلاف لهجاتهم المحلية ، لعل ذلك كله قد ساعد على استقرار فكرة اللغة الوسطى وتأثر الكتاب بها لزمن طويل حتى عاد تيار العامية يشق طريقه مصعداً في دروب الرواية العربية في مرحلة مابعد الحداثة ، لذا فإن استخدام الطيب صالح للغة العامية المحلية في حوارات "عُرس الزين" في تلك المرحلة الواقعية المحفوظية التي احتفت باللغة الوسطى وازدرت العامية الصريحة لهو أمر مثير للدهشة خاصة وأنه كان قادراً على استخدام تلك اللغة الوسطى بحرفية عالية على نحو مافعل في أعمال أخرى ، وهو ما يجعلنا نميل إلى أن المؤلف وجد في ذلك الجرس الإفريقي النحاسي الذي يميز اللهجة السودانية مايمنح اللغة الايروسية التي استخدمها في سرده مزيداً من العمق والفاعلية للتعبير عن خصوصية الموضوع ..
وقد خطر لي أن أقارن بين الاستخدام الواقعي داخل النص للهجة السودانية حلوة المفردات عذبة الإيقاع والاستخدام المفترض للفصحى فأدهشني أن المقارنة كانت دائماً لصالح الأولى ، وإليكم بعض الأمثلة على ذلك :
-       سمعت الخبر ؟ الزين مو داير يعرس .
-       عوك يا أهل الحلة ، ياناس البلد عزة بنت العمدة كاتلالها كتيل ، الزين مكتول في حوش العمدة .
-   البت أنا مضيتها ليك دحين قدام الناس الحاضرين بعد تحش قمحك وتلم تمرك وتبيعه وتحضر القروش نجي نعقد لك .
-       الزين حبابه عشرة ، الزين ود حلال .
-       بت عمي تعرسيني ؟
-       معجزة يازول ، مافي اثنين ثلاثة .
وهكذا تمضي الرواية بحواراتها العامية المغرقة في المحلية البعيدة عن الابتذال حتى يجد المؤلف نفسه مدفوعاً للتدخل – بلا مبرر -  لتفسير ما لايحتاج إلى تفسير حين ينطق الناظر بهذه العبارة :
- ياراجل دي سنة غريبة جداً ، وألا أنا غلطان ؟
فيفاجئنا السارد بجملة عجيبة أخلت باتزان النص بكل معنى الكلمة معقباً على كلام الناظر: (لم يكن الناظر يستعمل عبارة زول أي شخص كبقية أهل البلد ، بل كان يقول رجل في بداية جمله) مما تسبب بلا شك في النيل من طلاوة التعبير السوداني المتفرد والمعروف "زول" وهو ماينقلنا إلى مسألة السارد العليم ...
الإشكالية الثالثة "السارد العليم" : من أبرز الملامح التي ميزت تيار الواقعية في الرواية منذ نشأته تخلي الكاتب عن وجوده المحسوس داخل النص سواء عن طريق بث مشاعره أوإبداء مواقفه وآراءه الخاصة أو تدخله لتفسير الأحداث كأمر مساير لهذا النسق الإبداعي الذي يحاول التعرف على خبايا النفس البشرية بشكل موضوعي من خلال العالم الواقعي الذي يتوارى السارد خلفه كي لايؤثر ظهوره على المسار الطبيعي للأحداث وعلى النتائج التي يجب أن ينفرد القارئ وحده باستخلاصها من خلال العمل الفني ، وتبرز هذه الخاصية بصورة أكثر وضوحاً في أعمال الواقعية السحرية التي يفقد فيها السارد قدرته تماماً سواء على التفسير أو على التوقع حيث تتلاشى تقنية السارد العليم الذي يصل هنا إلى حد التماهي مع القارئ في دهشته وذهوله أمام الظواهر العجيبة ...
ولقد نجح الطيب صالح – جزئياً – في أنسنة الصوت الساردي خلال نص "عُرس الزين" مقدماً أمثلة هامة لتواري السارد خلف الشخصية عاجزاً – أو ممتنعاً – عن التفسير ، ومن ذلك :
- ينظر الزين بعينيه الصغيرتين كعيني الفأر القابعتين في محجرين غائرين إلى الفتاة الجميلة فيصيبه منها شئ – لعله حب ؟
-  ويزعم أناس أن الحنين برفقة من الأولياء السائحين الذين يضربون في الأرض يتعبدون والحنين قلما يتحدث مع أحد من أهل البلد وإن سئل أين يذهب ستة أشهر كل عام لايجيب ، ولا أحد يدري ماذا يأكل وماذا يشرب فهو لايحمل زاداً في أسفاره الطويلة .
- ويرى أهل البلد هذه الأعمال من الزين فيزداد عجبهم ، لعله نبي الله الخضر ، لعله ملاك أنزله الله في هيكل آدمي زري ليذكر عباده أن القلب الكبير قد يخفق حتى في الصدر المجوف والسمت المضحك كصدر الزين وسمته .
- ولم تقل سعدية شيئاً ، لو أنها فاهت بكلمة واحدة لهدأ روع آمنة قليلا .. هذه المرأة القليلة الكلام لماذا لاتقول شيئاً ؟ وأخيراً رفعت سعدية أهداب عينيها الطويلة ونظرت إلى آمنة نظرة لم تفهمها ، لم يكن فيها غضب أو حقد أو عتاب أو ود .
- وضحك فلم ير الناس كما عهدوا سنين صفراوين في فمه ولكنهم رأوا صفاً من السنان اللامعة في فكه الأعلى وصفاً من اسنان كأنها من صدف البحر في فكه الأسفل ، وكأنما الزين تحول إلى شخص آخر .  
- شئ ما لم يفهمه أهل البلد منع الرجل من اتخاذ الخطوة الحاسمة : حرمان ابنه من الميراث .
- لكن كيف حدثت المعجزة ؟ اختلفت الأقاويل ، قالت حليمة بائعة اللبن لآمنة وكأنها تغيظها بمزيد من أنباء عرس الزين ان نعمة رأت الحنين في منامها فقال لها "عرسي الزين التعرس الزين مابتندم" .. وزعم الطريفي لزملائه في المدرسة أن نعمة وجدت الزين في حشد من النساء يغازلهن ويعبثن به فحدجتهن بنظرة صارمة وقالت لهن "باكر كلكن تأكلن وتشربن في عرسه" .. وروى عبد الصمد للناس في السوق ان الزين هو الذي طلب الزواج من نعمة وأنه صادفها في الطريق فقال لها "بت عمي تعرسيني ؟" .. إلا أن المرجح أن الذي حدث غير هذا ...
غير أن صفة الصدق الفني التي لازمت هذا النص الروائي البديع تخلخل ثباتها في بعض الأحيان تحت وقع طرقات أيديولوجية ألحت على الكاتب فقدمت لنا بنية مهزوزة بل ومهترئة في مواضع بعينها تباغتنا فيبدو معها المشهد دخيلاً على النص ، ومن ذلك مقطع وصفه لرؤية أهل البلد لإمام المسجد فلننظر إليه وهو يستخدم تقنية السارد العليم الذي يسيطر على الأشياء دراية وتفسيراً واستنتاجاً : (كان رجلا ملحاحاً متزمتاً كثير الكلام ، في رأي أهل البلد ، كانوا في دخيلتهم يحتقرونه ... وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أحياناً أن ينسوها : الموت والآخرة والصلاة فعلق على شخصه في أذهانهم شئ قديم كئيب مثل نسيج العنكبوت ، إذا ذكر اسمه خطر على بالهم تلقائياً موت عزيز لديهم أو تذكروا صلاة الفجر في عز الشتاء ومايرتبط بذلك من وضوء بالماء البارد يشقق الرجلين وخروج من الفراش الدافئ إلى لفح الصقيع وسير في غبش الفجر إلى المسجد) ، وإليكم أيضاً هذه الفقرة التي تقدم مثالاً واضحاً لخطاب أيديولوجي فج المباشرة (يخرج الرجل من المسجد بعد صلاة الجمعة زائغ العينين ويحس وهلة كأن سير الحياة قد توقف ، ينظر إلى حقله بما فيه من نخل وزرع وشجر فلا يحس بأي غبطة في نفسه، يحس أنها جميعاً عرض زائل وأن الحياة التي يحياها بما فيها من فرح وحزن ماهي إلا جسر إلى عالم آخر ، ويقف برهة يسأل نفسه ماذا أعد لذلك العالم الآخر ؟ لكن جزئيات الحياة ماتلبث أن تشغل فكره ، وسريعاً أسرع مما كان يتوقع تغيب صورة العالم الآخر البعيد وتأخذ الأشياء أوضاعها الطبيعية وينظر إلى حقله فيحس مرة أخرى بذلك الفرح القديم الذي يعطيه مبررات وجوده ) ، وكأننا هنا بالطيب صالح يطل علينا برأسه من خلال فجوات ذلك الاهتراء ليصف لنا مشاعره الخاصة ورؤيته الذاتية وكأنها صدى استباقياً لصرخته الشهيرة "من أين أتى هؤلاء ؟" والمؤسف حقاً أن المبدع الكبير قد وقع فريسة سهلة للعنة الأيديولوجية فبدت روايته الرائعة التي تشبه القطعة النادرة من النسيج الشرقي الثمين وقد انسكبت عليها بقعة لونية قبيحة لن يمحوها الزمن ...

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

شعر   ادب   كتب