آثر الشاعر " يحيى السماوي " أن يظلّ وفيا ً للتصنيفات النقدية التي تضع حدّا ً فاصلا ً بين الشعر والنثر ، فأصرّ على وضع جملة " نصوص نثرية " تحت عنوان مجموعته ( مسبحة من خرز الكلمات ) مع أن نصوص المجموعة تندرج عند بعض النقاد المحدثين في باب " القصائد النثرية " . وقصيدة النثر مصطلح شاع في الدراسات الحديثة ، يحدد طبيعة هذا النتاج الإبداعي الذي يتسم عادة بخصائص تجمع بين جماليات لغة الأدب ، وتتحرر من الوزن الشعري ، وإنْ كانت تتسم بإيقاع داخلي .
قصائد المجموعة أقرب إلى مقطوعات قصيرة تتناول خواطر أو رؤى محددة تمتاز بالعمق الفكري وجدّة المعنى والتكثيف ، وتعتمد تقنيات جمالية تقوم على المقابلات المعنوية والطباق اللفظي وبقية صنوف البلاغة ، وتحرص على تجسيد الفكرة بقالب تصويري حسّي مُستمدّ من الواقع أو الطبيعة ، وهو مما يمنحها جدة وابتكارا .. وهذا اللون الأدبي الذي نطلق عليه تسمية " قصيدة النثر " شاع في الأدب العربي المعاصر . وآثر بعض النقاد أن يصفه بالشعر المنثور .. فهو عند مريديه وكاتبيه من الشعراء ، شعر لا ينقصه إلآ الوزن ... أما عند الشاعر " يحيى السماوي " وسواه ممن يحترمون التصنيفات النقدية السائدة ويولون النثر الأدبي الرفيع منزلة كالتي للشعر ، فهو لون من الوان النثر الفني ، يندرج في باب الخاطرة الأدبية ، ولا شكّ أننا نحترم رأي " السماوي " في حفاظه على التصنيف التقليدي وعدم تقليله من أهمية النثر الفني ـ فهو عنده الضفة المقابلة لضفة الشعر في نهر الإبداع الأدبي ، ولعله تعمّد تضمين مجموعته النثرية هذه بعض مقطوعاته من شعر التفعيلة .. كما في قوله :
لا تسـأليني مَنْ أنا
فإنني أجهلُ مَنْ أكونْ
كلّ الذي أعرفه عني
أنا مدينة الحكمة ِ
لكنَّ الذي يدخلها
لابدّ أنْ يُصاب بالجنونْ
أو قوله :
ياسادتي الولاةُ في مدائن ِ الأحزانْ
جميعكم أحصنة ٌ
لا تملك الأمرَ على لجامها
فكيف للشعوب ِ أن تقيمَ مهرجانها
حين يقودُ ركبَها حصانْ
يركبه المحتلُّ والآفكُ
والمنبوذ ُ والجبان ْ ؟
أو قوله :
أخمرة ٌ صوفية ٌ
عَـتَّقها في ثغرك ِ العشقُ
يرى شاربُها الفردوسَ في دنياهْ ؟
أسكرني حين رشفتُ القبلة َ الأولى
فجُنَّتْ شفتي
وأدمنتْ أوردتي طِلاهْ
فكيف لا يسكرُ هذا الثغرُ
من شذاهْ ؟
ويبدو أن شيطان الشاعر حرّضه في بعض هذه المقاطع على أن يعود إلى طبيعته الأدبية ، فهو شاعر قبل أن يكون ناثرا .. وربما بدا له أن نظم الفكرة شعرا أسهل لديه وأحبّ إلى نفسه من كتابتها نثرا ، وربما أراد من وراء ذلك أن يخبر قارئه أن الشعر والنثر الفني توأم ٌ خرجا معا من رحم الأدب ، وأن لهما منزلة واحدة في ناموس الإبداع .
وإذا تجاوزنا جدل المصطلحات النقدية الذي لا نهاية له ، ودخلنا عالم المجموعة الطريفة شكلا ً ومضمونا ً ، أوحى لنا عنوانها المُـبتكر ، بالصلة الوثيقة بين الشاعر ومجتمعه .. فالسبحة أو المسبحة مظهر شرقي وأيقونة تفضي إلى كثير من الخصائص .. فهي لدى العامة وسيلة صلاة ، وأداة عدّ وحساب ، ومصدر إيقاع منتظم حين تحرّك حباتها الأصابع .. وهي إعلان عن إيقاع الزمن الهارب ، وتثبيت لمروره ، وهي لدى الشاعر " يحيى السماوي " حصيلة تأمل روحي ونفسي ، تمثل كل حبة من حباتها خاطرة تأملية مستقلة بذاتها ، لكنها تنتظم انتظام المسبحة الكلي في التعبير عن رؤيته الإنسانية والفنية ، وهي مشروع لقصيدة أو بعض ٍ من قصيدة إذا أحبّ الشاعر أن يحررها من ربقة التكثيف والتركيز .
في المجموعة تسع وتسعون خاطرة أو قصيدة نثرية أو تبريحة أدبية ، لكل منها استقلالها ومضمونها الخاص ، لكنها تصب في النهاية في كلٍّ واحد ٍ يعكس أنا الشاعر في استنطاق ذاته والتعبير عن آماله وآلامه ، وترتبط بحياته وتطلعاته .. فهي ليست لونا ً من الفكر الفلسفي المجرّد الذي لا يربط الخواطر أو النصوص برابط واحد ، إنها تعبير عن رؤية شعرية جمالية لها منطقها الخاص وسماتها الذاتية التي تمنحها صفة النسبية في الفكر ، فالشاعر يفكر ، وقد يُطابق تفكيره الحقائق العلمية والمنطقية ، وقد يخالفها ، وليس لنا أن ندينه لهذه المخالفة ، ونحن نعلم أن مسألة النسبية في العلوم الإنسانية تحتلّ اليوم مكانة بارزة في التفكير الفلسفي المعاصر الذي يشكك بمعطيات العلوم وعقم نتائجها ، وجمودها عند توصيف الفكر .. ثمة حقائق مطلقة في الفكر الانساني يُجمع عليها المفكرون كالقيم العامة من حق وحرية وعدل ومساواة وسيادة للقانون ، وهي التي يلتزمها الشعراء عادة ، فإذا تجاوزنا هذه الحقائق بدت الثقافة الإنسانية متنوعة ، لكل منها طبيعتها التي يجب أن تُحترم ـ على نقيض ما تذهب إليه الحداثة من الإيمان بعقل ٍ كونيّ مطلق ، يزعم أن العولمة أو العلم بلغاه ، مع أن نمطا ً آخر من التفكير يقوم على الحدس والمجاز ، أي رؤية الشيء من خلال شيء آخر ، أي أننا لانرى الحقيقة المطلقة بل تجلياتها في الوجود .
أبرز خصائص التأمل الفكري لدى " يحيى السماوي " التفكير من خلال الصور ، وكشف المفارقات الخفية في رؤية العالم .. يقول في أول نص من نصوص مجموعته النثرية :
صـغـير كالبرتقالة قلبي ..
لكنه
يسَـعُ العالمَ كله
وهذا التفكير الشعري الذي يقوم على الصورة والمجاز والتقابل المعنوي ، للفلسفة أن ترفضه ، وللعلم أن يقلل من شأنه ـ لكنه يُفضي إلى إثارة أسئلة جديرة بأن يُجاب عنها ، لما فيه من عمق وابتكار ، ولم يصل العلم إلى تعليل ظاهرة الحب وانجذاب القلب إلى المحبوب .. يقدم الشاعر " السماوي " هذه الفكرة بثوب من المجاز ، ويمهّد للسؤال الذي لا يُجيب عنه العلم أو الفلسفة ، ويتركه معلقا ً بلا جواب ، ليشركنا معه في التأمل :
أنت ِ لستِ شمسا ً
وأنا لستُ زهرة دوّار الشمس ..
فلماذا لا يتجه قلبي
إلآ نحوك ؟ !
لقد علل علم الفلك إنجذاب الكواكب والأقمار لقانون الجاذبية ، لكنه لم يعلل سرّ انجذاب القلوب إلى ما تهوى . وقد تأخذ خاطرة " السماوي " طابعا ذاتيا ، لكنه يمثل حالة لايستحيل أن تقع في تجاذبنا ، مما يجمع بين البشر من تماثل مشترك في الأوضاع والأحوال ، كالنصّ الذي يمثل وضعه في المغترب موزّعا ً قلبه بين حرقة الغربة وأمل العودة :
بين احتضاري في غيابك
وانبعاثي في حضورك :
أتدلّى مشنوقا ً بحبل أسئلتي
مُحدّقا ً بغد ٍ مضى
وبالأمس الذي لم يأت ِ بعد
نلاحظ كيف قَلَبَ " السماوي " المعادلة فجعل الغد ماضيا ً ، والأمس مستقبلا ً ، لأنه في غمرة استسلامه للقادم المجهول وحنينه للماضي الذي كان عليه وطنه قبل الديكتاتورية والاحتلال ، قد ضاعت أمامه معالم الزمن ، والتبست دورته في مواجهة محنة لا يعرف نتائجها . هكذا أسلم النصّ إلى إلى جدلية عجيبة لا تقلّ غرابة عن منظور زمانه المغلوط .
ويبرز " السماوي " في بعض خواطره قدرته على تعمية القارئ عما تفضي إليه الخاطرة .. فهو يفاجئنا دون توقع بنتيجة يرتاح لها فؤاده :
أكلُّ هذه السنين العجاف ..
الهجير ..
الحرائق ..
معسكرات اللجوء ... المنافي ..
وقلبي لم يزلْ
أعمقَ خضرة ً من كلّ بساتين الدنيا ؟ !!
هكذا .. يجهد " السماوي " أن يطيل المقدمات في نصوصه ليشوّقنا ، فيمضي بعيدا في الوصف والتخييل لنمضي معه في رحلة الفكر والتأمل ، ثم يكون الختام على غير ما نتوقع :
كلٌّ يذهب في حال سبيله :
النهرُ نحو البحر ..
السنابل نحو التنّور ..
العصفور نحو العشّ ..
الآفك نحو اللعنة ..
القلم نحو الورقة ..
الصلوات نحو الله ..
الوطن نحو الصيارفة ..
وقلبي نحوك !
ولا يخفى ما تتضمنه كثير من نصوصه النثرية هذه من سخرية مبطنة ، كما في قوله عن ذهاب " الوطن نحو الصيارفة " فالعبارة تثير في النفس الحقد على المحتل واللصوص الذين نجحوا في إقامة امبراطورياتهم المالية على حساب جياع الشعب العراقي ومرضاه ومعوزيه ومشرديه .
يفصح " السماوي " عن التفكير الحدسي الذي يمارسه الشاعر ، فهو أكثر أنسنة ً من فكر العالِم وأبعد أثرا ً في حياة البشر من الكشوف العلمية التي لم تنجح في تخفيف معاناة الانسان :
أعرف تماما ً أين يرقد " نيوتن "
وأين كان الحقلُ
لكن :
في أي تنور انتهت الشجرة ؟
وفي أية معدة استقرت التفاحة ؟
العلماء يعنون بوصف الظاهرة وتقنينها ، أما الشعراء فينصرف تفكيرهم إلى الانسان وما يهمه ويحرره من جلاديه ومُستغِليه ...
" السماوي " منشغل بهموم الانسان في عصر ٍ لا إنساني ... عصر لامكان فيه للضعيف في غابة الأقوياء ... إنه منحاز للجماهير ... الجماهير هي الأجدر بالحياة من لصوص السلطات والقادة النرجسيين .. وهذا ما يقوله نص " السماوي " عن العبيد والكادحين الذين شيّدوا الإهرامات وسور الصين وجنائن بابل ، فإذا بالقادة النرجسيين يسرقون إنجازاتهم :
أعرفُ أنَّ العبيد
هم الذين شيّدوا :
الأهرام ..
سور الصين ..
جنائن بابل ..
ولكن :
أين ذَهَبَ عرقُ جباههم ؟
وصراخهم تحت لسع السياط
أين استقر ؟
هكذا يرفع " السماوي " من شأن التفكير الانساني الشعري مقابل تسفيه الفكر الذي لم يلتفت إلى عذابات البشرية .. بل ويسفه العلم الذي سخّر كشوفه للحروب والمنازعات المدمرة ، فـ "السماوي " يكره الحرب ويرفضها ، كما يكره ما يسمى في عصرنا إرهابا ... يكره الارهاب حتى لو كان سيؤدي إلى جرح سعفة من سعف نخلة فراتية أو يصيب بالذعر عصفورا من عصافير حدائق دجلة ـ لكنه يقرُّ به إذا كان سبيلا ً لنيل الحرية من ديكتاتور أو محتل ، ويؤدي إلى نيل الشعوب حقوقها المغتصبة :
إنْ كان يستأصل محتلّا ً
وما يتركُ في مستنقع السلطة من أذنابْ ..
إنْ كان يستأصل من بستاننا الضباعَ
والجرادَ ..
والذئابْ
وسارقي قوت الجماهير ِ
وتجّار الشعارات التي شوّهتِ المحرابْ ..
إنْ كان يجتث ُّ الدراويش
المفخخين بالحقد ..
وساسة الدهاليز
الذين يعرضون بيتنا للبيع
خلف البابْ
فإنني :
أبارك الإرهابْ
أو :
إرتباك عاشقين
أفزعهما انفجارُ قنبلة
أو صفارة إنذار ..
سقوط عصفور بشظية ..
أو جرح سعفة نخلة :
أسباب وجيهة
لرفضي الحروب
ما لم تكنْ
ذودا ً عن وطن ٍ
وكنسا ً لوحل احتلال !
**
يشكل ثنائي الوطن والمنفى الخلفية الفكرية لمجموعة ( مسبحة من خرز الكلمات ) .. فالوطن يتجلى في صورة معشوقة يمنحها الشاعر حبا يصل حدّ الذوبان فيها والإتحاد بها :
الوطن جسد
الحب روح
بعقد قِرانهما
يتشكّل
قوس قزح المواطنة
ويُقام الفردوس الأرضي
..............
.................
الحب والوطن
توأمان سياميان ..
متشابهان
باستثناء :
أنّ للوطن حدودا
ولا حدود للحب !
الحب جوهر حياتنا الإنسانية ، يكبر في كل لحظة .. وبالحب يفتح الانسان قفل باب المستحيل :
كلُّ ضـغـائن العالم
أضعفُ من أنْ
تهزم
قلبين متحابّين
.........
.................
نحن كالأسماك ياحبيبتي :
نموتُ إذا لم نغرقْ
بحب الوطن ..
وكالحب :
تصدأ مرايانا
إنْ لم نُزِل ْ عنها ضبابَ الكراهية
لنلاحظ دعاءه المدهش :
ذات دعاء
تضرّعتْ روحي :
اللهمَّ أعطِني قلبا ً لا يعرف الحب ..
واغفرْ لي جنوحي
لأن القلب الذي لا يعرف الحب
لن يعرف العبادة !
لكن وطنه ممتحنٌ بالبلاء ... ممتحن بالطواغيت حينا ، وبالمحتلين واللصوص حينا .. يُسرق نفطه وتُهدر ثرواته ، وليس للشعب منه نصيب .. وليس للشاعر سوى فانوس خبا زيته :
أملك من الوطن :
إسمه في جواز سفري المزوّر ...
لستُ حُرّا ً فأطلّ من الشرفات ..
ولا عبدا ً فأحطم قيودي ..
أنا العبد الحرّ
والحرّ العبد ..
محكوم بانتظار " غودو " جديد
لم تلده أمّه بعد !
......
........
كلّ ما أملك :
قلبٌ في مقتبل العشق
وفانوس نفطيّ
أنتظر موعد بطاقة التموين
لأسرجه !
بماذا يُغويك عاشقٌ
لا يملك من بحر نفط الوطن
لترا ً واحدا ً لفانوسه
في الوطن المعروض للإيجار ؟ ً
تماهي الشاعر بوطنه هو الذي جعله يقول :
حين عذبني وطني
قتلته
ودفنته في قلبي !
والشاعر معلق بين الأمل والألم في منفاه ، تصبو عينه إلى وطن ينقذه من الارتهان لوجع الغربة :
إثنان لا ينضبان :
الألم ... والأمل
الأول بحرٌ أحمق
والثاني طوق نجاة ..
لن أخشى حماقاتي
مادمت ِ طوق النجاة
ياحبيبة من ماء وتراب
وكثيرا ما يعمد " السماوي " إلى التشخيص في إطار جدلية الأضداد ، متأثرا ً بأسلوب الشاعر أبي تمام في ترسيخ هذه الجدلية من خلال التقابل المعنوي الذي يجلو عبر التضاد حقائق خفية يتكلم فيها الجماد :
أيها الحزن لا تحزن ..
أدرك أنك ستشعر باليُتم بعدي ..
لن أتخلى عنك
أنت وحدك مَنْ أخلص لي
فكنت مُلاصقي كثيابي
حين تخلى عني الفرح
في وطن يأخذ شكل التابوت !
الخاطرة / القصيدة عند الشاعر " يحيى السماوي " تعكس عزف أوتار قلبه وآلامه وآماله التي تلتقي في مواجعها آلام أبناء شعبه ، ونجد في كثير من مضامين هذه النصوص النثرية في شعره وقد أخذت شكلا جديدا .. فالنخلة في مجموعته هذه ترمز إلى أرض وطنه ، والشاعر يحنو عليها حتى من جرح عابر .
وتتسع الخاطرة لتغدو قصيدة لفكر الشاعر ، كالحبّة تنتشي وتمرع فتنفلق لتغدو شجرة وارفة الأغصان بموهبة التخيّل والتصوير .
يريد منا الشاعر " السماوي " أن نفكر بقلوبنا ، ونقرأ حقائق الوجود من كتاب الحياة ، وأن نستمد قناعاتنا من آهات المنكوبين ومن عرق جباه الكادحين والمظلومين ، فيظل للشعر أو النثر الفني موقع الريادة في بناء مستقبل البشرية .
المراجع
رابطة ادباء الشام
التصانيف
شعر ادب كتب