تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على ذلك الصراع الخفي بين جماعة الشعراء " المارقين " عن الخط الرسمي للمجتمع ، و بين من كان يمثل راعيا لذلك الخط ، مما يكشف عن جدلية الصراع بين فئتين شكلتا طرفي نقيض .
فلا يمكن بأي حال أن نحكم على عصر بشار بأنه عصر غارق في المجون لا يؤمن بالله و اليوم الآخر ، و أنه عصر زندقة و إلحاد و " تطرف" لأن فيه بشارا و حماد عجرد و أضرابهما ... و العلة في رفض ذلك الحكم هي أن مجتمعا ينغمس في اللذة انغماسا ، لا ينشئ حضارة و لا يرقى في علم ... و لأن منهج التلقي يرفض تلك الأحكام التي تجعل الأدب ترجمة للواقع أو انعكاسا حرفيا له، و لأننا ـ و هذا الأهم ـ نجد وقتئذ أبرز الزهاد و الدعاة الذين عرفهم التاريخ الإسلامي ، إن عصرا يجمع في أيامه بين الحسن البصري و مالك بن دينار ، و بين حماد عجرد و بشار ، لخليق بالتدبر و الاعتبار.
فكيف تلقت هذه الجماعة شعر " الأعمى الملحد " ؟
لما بلغ الحسن البصريَّ خبر بشار مع نسوة خمس1عابه و هتف به2، و ها هو بشار نفسه يحكي عن خبر له مع مالك بن دينار قائلا : ( ما شعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح ، فقلت يا جارية انظري من هذا ، فرجعت إلي و قالت : هذا مالك بن دينار ، فقلت : ما هو من أشكالي و لا أضرابي ، ثم قلت : ائذني له ، فدخل فقال : يا أبا معاذ ، أتشتم أعراض الناس و تشبب بنسائهم ! فلم يكن عندي إلا أن دفعتُ عن نفسي و قلت : لا أعود ، فخرج عني ... )3 إذ يلاحظ من خلال هذا الخبر أن جماعة علماء الدين لم تكن تعترض على كل شعر بشار و إنما على صنف خاص حتمه وظيفة هذه الجماعة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، إنه جنس الهجاء المدقع و الغزل الفاحش اللذين اشتهر بهما بشار : "، أتشتم أعراض الناس و تشبب بنسائهم " فإذا نظرنا إلى الغزل فإنه لم يكن من المحرمات في عمومه لأن كثيرا من الفقهاء قد قالوا شعرا رقيقا ، و لكن غزل بشار كان يمثل خطورة على سلوك النساء و الشباب4كما يتضح من الخبر التالي الذي يبين فيه أبو عبيدة السبب في نهي الخليفة المهدي بشارا عن ذكر النساء قائلا : ( كان أول ذلك استهتار نساء البصرة و شبانها بشعره ، حتى قال سوار بن عبد الله الأكبر و مالك بن دينار : ما شيء أدعى لأهل المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى ، و ما زالا يعظانه ، و كان واصل ابن عطاء يقول : إن من أخدع حبائل الشيطان ، و أغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد ، فلما كـــــثر ذلك ، و انتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي ، و أنشد المهدي ما مدحه به ، نهاه عن ذكر النساء و قول التشبيب ) 5
إن أفق هذه الفئة عارض أفق بشار ، و هذا ما يعكسه بجلاء قول ابن برد عن مالك بن دينار : ( ما هو من أشكالي و لا أضرابي ) ، لذا كان من الطبيعي أن يواجه تارة بالنصيحة المباشرة كما فعل مالك ، عندما خاطبه برفق و أد ب و كناه : ( يا أبا معاذ ) ، مذكرا بهجائه المدقع : ( أتشتم أعراض الناس ؟ ) ، و بغزله الذي تجاوز الحدود ، و هدّ ما يبنيه مالك و أضرابه : ( و تشبب بنسائهم ) ؛ فلم يجد بشار من مخرج لورطته إلا أن يعد مالكا بعدم العودة لذلك مرة أخرى ! و تارة بالتشهير و الفضح عندما عابه الحسن البصري و هتف به ، و ها هو صديق الأمس ـ واصل بن عطاء ـ يتميز غيظا من هذه الفتنة التي سببها رفيق الدرب ، و يرى أن شعره من مصائد الشيطان التي تغوي الإنسان !
و هكذا يتضح أن جماعة الزهاد و الدعاة قد وقفت موقفا معارضا لجنس مخصوص من شعر بشار ، لأن هذا الجنس كان يعارض وظيفتها الإصلاحية ، و ينشر ما كانت تحاربه كما يروي ذلك نجم بن النطاح قائلا : ( عهدي بالبصرة و ليس فيها غزل و لا غزلة إلا يروي من شعر بشار ، و لا نائحة و لا مغنية إلا تتكسب به ، و لا ذو شرف إلا و هو يهابه ، و يخاف معرة لسانه )6مما يغري بمتابعة تلقي مختلف الجماعات المعاصرة لا سيما النساء و الشبان من جهة ، و السلطة السياسية من جهة ثانية ، ما دامت هذه الجماعة تستفيد من مدائح بشار، لكنها في الوقت ذاته تخشى من غضب السلطة الدينية التي تتمسك بتوجيه الرأي العام ، فكان موقفها مهادنا كما تجلى في نهي المهدي بشارا " عن ذكر النساء و قول التشبيب " كما مر بنا قبل قليل ، إلا أن هذه الجماعة لم تتسامح مع الشاعر حين امتد لسانه إلى حرماتها فكانت نهاية بشار7..
هوامش
1 – جاءه خمس نسوة نائحات يسألنه شعرا ينحن به فرفض دون أن يشاركنه طعامه و شرابه " فتماسكن ساعة ، ثم قالت واحدة منهن : ما عليكن ! هو أعمى فكلن من طعامه و اشربن من شرابه و خذن شعره ...." و الخبر في الاغاني 3/163
2 – نفسهه
3 – نفسه 3/164
4 – نفسه 3/205
5 – نفسه 3/176و 177
6 – نفسه 3/142
7- هجا بشار المهدي ببيتين كانا السبب في قتله انظر الأغاني 3/239
المراجع
رابطة ادباء الشام
التصانيف
شعر ادب كتب