أبو حية النميري، ينتمي إلى قبيلة نمير بن عامر وهي إحدى قبائل هوازن، وقبيلة هوازن من أعظم قبائل العرب النجدية، وتمتد منازلها من نجد حتى تحاذي الحجاز، بل إن مدينة الطائف الحجازية من مدن هوازن إذ هي مدينة ثقيف، وثقيف إحدى قبائل هوازن.
وكان النسابون العرب يقولون: إذا كاثرت فكاثر بهوازن، إشارة إلى كثرة  أعدادها وبالإضافة إلى نمير وثقيف فإن من قبائل هوازن: بني هلال الذين اشتهروا بالتغريبة الهلالية وامتد نفوذ هلال حتى الشمال الإفريقي، ومنهم بنو قشير الذين ينتمي إليهم الامام مسلم بن الحجاج صاحب صحيح مسلم.
فالشاعر أبو حية ينتمي إلى إحدى قبائل هوازن الشهيرة، وهي من جمرات العرب، وجمرات العرب هي القبائل التي اعتمدت على قوتها الذاتية في حروبها ولم تلجأ إلى التحالف مع غيرها من القبائل.
وأبو حية كنية الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن خباب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وهوازن إحدى قبائل قيس بن مضر العدنانية.
وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، أي أنه عاش العهدين الأموي والعباسي، ومن البديهي أنه عاش أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية، وقيل إنه عاش حتى أدرك وفاة المنصور ، ثاني خلفاء بني العباس ، وأنه رثاه بشعره.
وقدر الزركلي  وفاته نحو 183هـ 800م، أما ولادته فلم يشر إليها أحد.
وأبو حية شاعر مجيد ،أثنى على شعره عدد من علماء الشعر، منهم صاحب الأغاني، فقد وصف شعره فقال:
(أبو حية شاعر مجيد مقدم ، كان فصيحاً مقصداً راجزاً (أي يقول القصيد والرجز).
وكان أبو عمرو بن العلاء عالم اللغة يقدمه.
وأكثر الأمير الأديب الشاعر أسامة بن منقذ من الاختيار من شعر أبي حية في كتابه، "المنازل والديار".
وأثنى الأصمعي على شعره ، وعده وسطاً في الشعر وقال: أبو حية النميري كالرجل الربعة، لا يعد طويلاً ولا قصيراً ، فالأصمعي يريد أن يقول بأن أبا حية لا يرتفع بشعره إلى طبقة الفحول ، ولا ينحط به إلى طبقة المتشاعرين.
وقل أن تجد كتاباً من كتب الأدب القديمة إلا وفيه اختيارات من شعر أبي حية ، وهذا يدل على نفاسة شعره وتقدمه.
ثم إن صاحب الأغاني يقول: أبو حية من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية وقد مدح الخلفاء فيهما جميعاً.
أقول: إذا كان الخلفاء يستمعون إلى شعر أبي حية ويجيزون مدائحه فإن في هذا تزكية لشعره.
ولكن أبا الفرج يتناقض تناقضاً عجيباً وهو يصف أبا حية بأنه "كان أهوج جباناً بخيلاً كذابا" ويردف قائلاً: "وكان معروفاً بذلك أجمع".
أي أنه كان معروفاً  بين الخاصة والعامة بالهوج والجبن والبخل والكذب!
أقول: كيف يستمع الخلفاء في الدولتين الأموية والعباسية إلى شعر رجل : أهوج ... جبان... بخيل..... كذاب!!
وقد كرر هذه الأوصاف بعد صاحب الأغاني عدد كبير ممن تناولوا حياة أبي حية وشعره ، دون أن يتوقفوا عند تناقض صاحب الأغاني، ودون أن يسائلوا أنفسهم : كيف يكون هذا الرجل شاعراً  مجوداً مقدماً بين الشعراء ، يستمع إليه الخلفاء ويجيزونه على شعره وفي الوقت نفسه يكون أهوج كذاباً! وجباناً بخيلاً! لقد جعلوا الرجل ملتاثاً في عقله ، جباناً في مواقفه، بخيلاً بماله، كذاباً في منطقة! وفي الوقت نفسه شاعراً مجوداً مقدماً يروون شعره الرائق البديع!
أريد أنا أن أرفع الحيف عن سيرة هذا الشاعر المبدع، فأتناول ما قاله صاحب الأغاني بالتحليل والنقد، وأنا لست مع تقديس الرجال المتقدمين من علماء الشعر واللغة والنقد، فآراؤهم يجب أن تخضع للنقد والتحليل، وأنا قد قرأت كتاب الأغاني أكثر من مرة فرأيت مؤلفة أبا الفرج يطعن في كثير من الرجال دون وجه حق ، ورأيته يعمد إلى تشويه صور الخلفاء والسادة من العرب حتى لاحظ ذلك كثير من الدارسين، فنسبوه إلى الشعوبية!
روى صاحب الأغاني أنه كان لأبي حية النميري سيف يسميه لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق ...ثم بعد هذه المقدمة الطاعنة بالشاعر يقول:دخل كلب على أبي حية ليلاً، فظنه لصاً فانتضى سيفه لعاب المنية وقال: أيها المغتر بنا، المجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته ،اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك، إني والله إن أدع قيساً لا تقوم لها، وما قيس؟ ثملأ والله الفضاء خيلاً ورجْلاً، سبحان الله ، ما أكثرها وأطيبها.
ثم قال أبو الفرج : وبينما هو كذلك (أي أبو حية) إذ خرج الكلب، فقال أبو حية: الحمد لله الذي مسخك كلباً، وكفانا حربا !!
أقول: لي أكثر من تعليق على هذا النص:
الأول: أن الصياغة فيه متينة السبك، واضحة المعاني، عليها من ظلال البلاغة ما يكفي لتزكيتها بيانياً، فإن كان قائلها أبو حية فقد أجاد ، ولا أظن رجلاً ملتاثاً يأتي بمثلها.
الثاني: أن أبا الفرج عمد إلى إرسال إضاءة على النص قبل، إيراده وضع فيها المتلقي (القارئ) في حالة الاستعداد للحكم المسبق على الشاعر بالاضطراب العقلي، ثم إنه ختم النص بتأكيد هذا الحكم عندما أنطق الشاعر بكلمة ساخرة تستجلب الضحك: الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حربا.
الثالث: أن هذا النص يدخل في باب القصة والأحدوثة، وهي قصة متماسكة – على قصرها – وتعطي صورة هزلية أكثر منها صورة جادة.
وقد ظهر نوع من القصص يطلقون على القصة منه: القصة القصيرة جداً، وهذا النص الذي بين أيدينا من هذا الباب، فإذا كان قائله أبو حية فهو قد سبق كل من ألف في القصة القصيرة جداً ،وكل من دعا إلى هذا النوع من القصص، وعلينا أن نسجل له هذا السبق!
وسوف نرى فيما يلي من هذه الدراسة أن لأبي حية سبقاً آخر في مجال الخيال المتقدم جداً والذي جمح فيه جموحاً بعيداً.
روى أبو الفرج خبرين أسندهما إلى أبي حية، ورأى أنهما دليلان آخران على لوثة أبي حية، وما أوردهما أبو الفرج إلا ليستخف بالشاعر وينسبه إلى الجنون.
قال أبو الفرج راوياً على لسان أبي حية: عن لي ظبيٌ يوماَ فرميته (بسهم)فراغ عن سهمي ، فعارضه السهم ، ثم راغ فعارضه السهم، فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه!
لا شك أن أبا حية حين كان يروي هذا الحدث لم يكن جاداً ، وإنما متخيلاً لصورة يتمنى أن تدخل في باب الحقيقة، وعلى بعد أبي حية الزمني من تاريخنا ( عاش أبو حية قبل ألف ومائتي عام) فإن خياله هذا أصبح اليوم متحققاً فيما يدعونه بالصواريخ الذكية التي تلاحق الهدف حتى تدركه وتصيبه!
إذن لم يكن أبو حية ملتاثاً حين حدث بهذا الحديث، بل كان ذكياً ذكاءً مفرطاً، وذا خيال بعيد الغور لم يستطع أن يجاريه فيه أبو الفرج ومن جاء بعده، وكل من كان مثل أبي حية ذكياً ذا خيال جامح سخر منه أهل زمانه.
ومن خيال أبي حية الجامح الذي أصبح اليوم حقيقة قوله: ( رميت والله ظبية، فلما نفذ سهمي عن القوس ذكرت بالظبية حبيبة لي، فعدوت خلف السهم حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها).
نعم تخيل أبو حية أنه يستطيع أن يوقف السهم المنطلق باللحاق به، فهو يحتاج إلى سرعة أكبر من سرعة السهم... ونحن الآن نملك هذه المقدرة، وربما ذكرنا هذا بالصواريخ التي تعترض الصواريخ الأخرى فتوقفها ... بل تسقطها.
خيالات أبي حية بالأمس أصبحت حقائق اليوم.
ولم يكن أبو حية بدعاً في الخيال، فقد عدّ النقاد في قديم الزمان بيت شعر للمهلهل بن ربيعة بأنه أكذب بيت شعر قالته العرب، وهو قوله:
ولولا الريح اسمع من بحجر        صليل البيض تقرع بالذكور
ذلك لأن المسافة بين "حجر " و"الذكور" بعيدة جداً.
ونحن اليوم نسمع أصوات الإذاعات على مسافات أبعد كثيراً من مسافة المهلهل ، بل غدونا نسمع الصوت ونرى مع الصوت الصورة ومن مسافات لم يكن أحد يتخيل أن تصلنا منها.
وفي بيت المهلهل أمر آخر هو إدراكه أن الريح ربما أعاقت السرعة .
وما دمنا في الحديث عن الخيال، والجامح منه بخاصة، فأحب أن أذكر أن مؤلف "ألف ليلة وليلة" أورد قصصاً خيالية جامحة ، بعيدة المدى، أصبحت حقائق بعد قرون من هذا الخيال، منها بساط الريح الذي تخيل الكاتب أن هذا البساط يطير بقوة الريح فوق المدن والناس، وتحقق هذا اليوم في الطائرات، بل إن الطائرات أبعد خيالاً من بساط الريح.
وأخرى من ألف ليلة وعلي بابا الذي اخترع كلمة السرّ (password) لفتح كهفه: افتح يا سمسم، وتحقق هذا الخيال الجامح في عهدنا بأكثر مما تخيله مؤلف علي بابا في ألف ليلة.
ومثل هذه الخيالات التي تحققت ما أورده جول فيرن في روايته عشرين ألف فرسخ تحت سطح البحر، فإن الآلة التي تخيلها للسفر تحت سطح الماء تحققت فيما بعد باختراع الغواصة!
إذن، لم يكن أبو حية في خياله ملتاثاً ولا كذاباً، بل إنه كان سابقاً لزمانه في خيالاته سبقاً بعيداً.
يحتاج أبو حية من الدارسين المعاصرين إعادة قراءة، ويحتاج إلى أن ننظر بالأحكام السابقة للنقاد القدامى نظرة جديدة، ولنا أن نقول نظرة معاصرة ، فقد أُطلقت تلك الأحكام في زمان مغرق في القدم، ونحن الأن نعيش زماناً غير الذي عاشوه!
بعد هذا البيان الذي أوردته دفاعاً عن أبي حية كإنسان آتاه الله موهبة خيالية واسعة ،وبعد أن بينت أن النقاد القدامى كانوا يقدمون شعره ويقدرونه، وبعد أن بينت أن شاعراً يستمع إلى شعره عدد من خلفاء بني أمية وبني العباس لا يمكن إلا أن يكون إنساناً عاقلاً سوياً ذكياً مبدعاً ، أحب أن أعرض نماذج من شعره الرائق البديع، مع التنوية بأن الدكتور يحيى الجبوري الباحث العراقي القدير قد جمع شعره وحققه ونشره في دمشق عام 1975 وأن هذا الجمع ربما احتاج إلى مزيد من البحث والتقصي فلربما وجدنا شعراً  لأبي حية في مصادر لم يطلع عليها أستاذنا الجبوري، وقد لاحظت أنا أن اختيارات الأمير أسامة بن منقذ من شعر أبي حية في كتابه" المنازل والديار "كانت مقتصرة على مطالع قصائد طوال ذكر فيها أبو حية المنازل والديار على عادة الشعراء العرب القدماء في ذلك.
قال: أبو حية(1):
رمته أناة من ربيعة عامر
فجاء كخوط  البان ، لا متتابع
فقلن لها سراً: فديناك لا يرح
فألقت قناعاً دونه الشمس، واتقت 
وقالت، فلما أفرغت في فؤاده
فودَّ بجدع الأنف لو أن صحبه
 
نؤوم الضحى، في مأتم أي ّ مأتم
ولكن بسيما ذي وقارٍ وميسم
صحيحاً، وإن لم تقتليه فألممي
بأحسن موصولين؛ كفٍ ومعصم
وعينيه منها السحُر:قلن له قم
تنادوا وقالوا في المناخ له:نم
وقال (2):
أخو الشيب لا يدنو إلى الحور بالهوى
يعاطينه كأس السلوّ عن الهوى
 
ليقرب، إلا ازداد في قربه بعدا
ويمنعنه وصلاً يعاطينه المردا
وقال(3):
ألا حيّ من أجل الحبيب المغانيا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
 
لبسن البلى مما لبسن اللياليا
تقاضاه شيء لا يملُّ التقاضيا
وقال أبو علي القالي في أماليه:أنشدنا أبو بكر الأنباري على أبي العباس المبرد لأبي حية النميري وأنا أسمع(4):
وخبرك الواشون أن لن أحبكم
أصدُّ ، وما الصد الذي تعلمينه، 
حياءً وبقيا أن تشيع نميمه
وإن دماً لو تعلمين جنيته
أما إنه لو كان غيرك أرقلت
ولكنه والله ما طلَّ مسلماً
إذاهن ساقطن الأحاديث للفتى
رمين فأقصدن القلوب، ولن ترى
 
بلى، وستور الله ذات المحارم
عزاءً بكم، إلا اتباع العلاقم
بنا وبكم، أفٍ لأهل النمائم
على الحيّ، جاني مثله غير سالم
إليه القنا بالراعفات اللهازم
كغرّ الثنايا واضحات الملاغم
سقاط حصى المرجان من سلك ناظم
دماً مائراً إلا جوىً في الحيازم
ومن شعره يمدح الخليفة المنصور، ويهجو بني حسن في قصيدة مطلعها(5):
عوجا نحيي ديار الحيّ بالسند
 
وهل بتلك الديار اليوم من أحد
ومنها:
أحين شيم فلم يترك لهم ترةً
سللتموه عليكم يا بني حسن
قد أصبحت لبني العباس صافيةً
وأصبحت كلهاة الليث في فمه
 
سيف تقلده الرئبال ذو اللبد
ما إن لكم من فلاح آخر الأبد
لجدع آناف أهل البغي والحسد
ومن يحاول شيئاً في فم الأسد
وله أيضاً (6):
رمتني وستر الله بيني وبينها
رميم التي قالت لجارات بيتها
ألا رب يومٍ لو رمتني رميتها
يرى الناس أني قد سلوت، وإنني
 
عشية آرام الكناس رميم
ضمنت لكن أن لا يزال يهيم
ولكن عهدي بالنضال قديم
لمرميّ أحناء الضلوع، سقيم

المراجع

رابطة ادباء الشام

التصانيف

كتب   شعر   ادب