في المقال الماضي عرضتُ لنموذج من التراث الشعبيّ المُحْيَى مؤخّرًا، ويستهدف الأطفال خاصّة. منوّهًا عمّا أُوجد من مبرّرات لتلك الممارسة المسمّاة "الدوخلة"، إذ قيل إنها تنمّي في نفوس الأطفال روح المحافظة على ممتلكاتهم، ورعايتها، والاستعداد للتضحية من أجل الآخرين. وكأنه ما كان ينقصنا إلاّ بعض خزعبيلات (تربويّة!)، من بقايا ماضينا الجاهليّ وثقافتنا اللا عقلانيّة!
وحين نتأمّل في (الدوخلة)، نموذجًا طقسيًّا، وكما جاء وصفها في المساق السابق، فإنه- وبغضّ النظر عن البُعد العقدي الكامن وراءها اليوم- لا يشكّ من له أدنى إلمام بالميثولوجيّات والأساطير العربيّة وغير العربيّة أن لها- كأضرابها من العادات- جذورًا ما في تصوّر الشعوب القديمة، وأنها تدور حول عناصر من طقوس التضحية الرمزيّة. وبقراءة سِيْمَوِيَّة بسيطة نقف فيها على مفردات بارزة ذات مغزى، منها: عنصر "النبات"، و"الرُّز"، أو "بقايا العظام من وجبة العيد"، ثم "البحر"- أو الماء- و"الشمس"، إذ تُرمَى الدوخلة في البحر ظُهر عيد الأضحى المبارك، حينما تكون الشمس في كَبِد السماء؛ وبلفظٍ آخر في وقت "التمام" الشمسيّ، الذي كان المصريّون القدماء- مثلاً، ومِثْلهم غيرهم، كعرب الجزيرة وما أحاط بها- يُناجون إله الشمس، الذي اعتقدوا أنه الموجد للكون، وسمّوه: "آتوم". وعلى أساس الاعتقاد في الماء- أصلَ المنشأ- يرد في العقيدة الأوزيريّة المصريّة القديمة أنه "كان هناك وجود قبل أن يكون (آتوم)، فهناك كان (نون) الماء الأزليّ، وهناك كانت امرأته (نونة)..."، لكن الظلام كان يرفّ على وجه الماء، وإنما بمولد آتوم انبثق النور(1). فكلّ ما تتضمنه احتفاليّة الدوخلة إذن يشير في أصله إلى طقس تضحيةٍ أسطوريّ واضح، بل هو ما يرد في تسمية الدوخلة بـ"الضحيّة"، ويتردّد في الطقس الإنشاديّ، الذي يطلب فيه الأطفال أن تحلّلهم الدوخلة من الذنوب: "الله ويّاش يا ضحيّتي، حلّليني وابري ذمّتي… أشربي من ماي زمزم، وأشربي من قطرة الدم!"
وهكذا يُنبش الماضي الدفين، عَلِمه من عَلِمه وجَهِلَه من جَهِلَه، وتُستردّ بقايا جهالاته بملايين الريالات، باسم إحياء التراث الشعبويّ البديع، دون تفكيرٍ أو دراسة لمنابعه أو آثاره التربويّة والثقافيّة. ليس إلاّ أننا وجدنا شعوبًا أخرى تُحيي خرافاتها، وتجعل لطقوسها البدائيّة أعيادًا، فأخذنا نبادر بدورنا إلى تقليدها في إحياء خرافاتنا، فليسوا بخيرٍ منا، ونحن نملك- فيما نملك من خيرٍ عميم- من أوابد الخرافات ما يمكن أن نُفاخر به العالمين، كيف لا، وقد ظللنا نصدّر منها عبر التاريخ إلى الشعوب الأخرى! ذلك مع الفارق في ما يحدث اليوم، وهو أن تلك الشعوب- ولاسيما ذات الحضارة- قد وعت تاريخ تلك التراثات، إذ درستها، وأقامت حولها البحوث والاستقراءات، جاعلة دراسة الأديان، والميثولوجيّات، والأنثروبوليجيّات المقارنة، تخصّصات جامعيّة، وموادّ ثقافيّة وعلميّة، يعلمها المختصّون، ويلمّ بأطرافها العامّة. ثم هي إنما تقيم تلك المناسبات، إذ تُقيمها، رمزيًّا، وعلى سبيل التسليّة والتفكّه. إضافة إلى أن لها- قبل كلّ شيء- رؤيتها الثقافيّة، التي لنا أن نتفق معها فيها أو أن نختلف، لا أن نقلّد ونحاكي، بلا تساؤل ولا استقلال شخصيّة. كما أن تلك الطقوس، إذ تُقام هناك، تُقام في أُممٍ يديرها العِلم والعقل، وبشكلٍ غالب ومسيطر، وتحكمها القوانين والأنظمة، فلم تَعُد تلك الطقوس إلاّ مسرحةً تسلويّة، غير ذات معنى فعّال في واقع الناس. بل لقد توظّف لمنافع اقتصاديّة، وغايات سياحيّة، ولدلالات ثقافيّة جديدة، تتساوق والعصر والمجتمع الحديث، لا كما يمكن أن تكون عليه الحال في مجتمعاتنا، التي الخرافة فيها ما تزال حيّة ضاربة بأطنابها، وما برحت قُوْتَها اليومي، في عيدٍ وغير عيد. بالإضافة إلى أن الجهل بكثير من أنساق العادات والتقاليد وأصولها وتفرّعاتها ما يزال مطبقًا، وكثيرًا ما تُلبس لبوس القِيَم الأخلاقيّة، أو حتى الإسلاميّة! وشتّان، إذن، بين حال وحال!
ولا غرو، فثمّة منظومة ضبابيّة متعاضدة في تعاملنا والتراث، بشتّى صوره ومستوياته. ألا نرى أن قراءاتنا التقليديّة- حتى في تراثنا العربي القديم- قد ظلّت معجميّة سطحيّة جامدة، تسلّم بشروح بالية، على غرار شروح الزوزني والتبريزي وأضرابهما لشِعرنا الجاهلي، بعيدًا عن السياقات النصوصيّة- الواقعيّة، والثقافيّة، والميثولوجيّة- التي أنتجت اللغة والأدب وعادات العرب وتقاليدهم؟
لقد ظللنا نجهل من حقّ تراثنا الشِّعريّ- على سبيل المثال، ومعظم تراثنا شِعريّ- أمرين مهمّين: ثقافة العرب قبل الإسلام، مذ افترضنا أن الجاهليّة مثل الإسلام، والوثنيّة كالتوحيد، أو تخيّلنا أن عقائد العرب قبل الإسلام شيء وشِعرهم شيء آخر مختلف، متجانفين عن مواجهة أساطير العرب، التي تحدّث عنها العلماء والمستكشفون، منذ "كتاب الأصنام"، لأبي المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبي (-204هـ)، إلى "بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب"، لمحمود شكري الآلوسي، إلى غيرهما من الباحثين والآثاريّين. وفي أحسن حالاتنا غرسنا في أذهان أجيالنا- وذلك هو الأمر الآخر- أن تلك الأوابد محض أباطيل بائدة، لكن لا صلة لها بأدب العرب، ولا بحياتهم، ولا بما ورثناه عنهم إلى اليوم. أمرها عجيب هذه الثقافة الأدبيّة والنقديّة، التي، بلا حسٍّ تاريخيّ، ولا نظرٍ معرفيّ، صوّرت لنا الجاهليّين مسلمين، أو كالمسلمين، وقرأت شِعرهم الجاهلي كالشِّعر الإسلامي، واستمرّ بها متوالدًا هذا الفكر السطحيّ، أو المعمّى، ومنذ وقتٍ مبكّر. وعليه، لم تكن الحال كما قال لنا (أبو عمرو ابن العلاء): "ما انتهَى إليكم ممّا قالت العربُ إلاّ أقلّه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم عِلم وشِعرٌ كثير"، فحسب، بل ظلّ التجهيل بهذا القليل الذي وصل إلينا، وبما يحمله من تراث، هو ديدن القراءات التقليديّة أيضًا، وظلّ البحث في ما وراء ذلك منكَرًا من القول وزورًا. وكان يتمّ فينا هذا النهج الصادّ عن دراسة حياة العرب حقّ دراستها- من خلال أدبها- عبر طرقٍ عدّة، منها: الحذف، والإضافة، والكذب في مادة الأدب؛ لجعله متوائمًا، متماشيًا مع ما تُراد عليه الصورة، لا مع ما هي عليه حقيقة، ولا مع ما جاء عن العرب في مصادر أخرى. وهنا قامت مدرسة الوضع، والتغيير، والتبديل في قصائد العرب، إلى جانب التوظيف، والاستشهاد، والنحل، والانتحال؛ ولمآرب دينيّة وقَبَلِيّة وسياسيّة، لا شطّ لها ولا ساحل.
ثم جاءت الخطوة الثانية من خلال شرح ذلك الشِّعر على أيدي شُرّاحه، يحدوها هدفٌ نبيل- لكنه يفضي إلى خيانة النصوص والتاريخ والحقائق- وهو: أسلمة ذلك التراث، ما أمكن إلى ذلك سبيل. وربما حَدَثَ بعض ذلك بحُسن نيةٍ، أو عن جهلٍ بأصوله ورموزه وخلفيّاته. غير أن النتيجة واحدة، وهي: جَهْل التراث جهلاً مترتّبًا عليه قبول ما لا يُقبل منه أو رفض ما كان ينبغي أن يُقبل. والجهل هو بيت الداء، كالمعدة، وقد يكون جهلنا بالجاهليّة أخطر من الجاهليّة نفسها؛ من حيث هو خطرٌ مركّب، كجهل مريضٍ بالسرطان أنه مريض به! ولذلك كلّه كان محقًّا طه حسين في ملاحظته أن ذلك الشِّعر الذي نَسِمُه بالجاهلي لا يمثّل الجاهليّة كما وصفها القرآن الكريم، ولا يعكس تمامًا حياة العرب ووثنيّاتهم، ولا حتى ما تُحدِّثنا عنه أخبارهم الباقية؛ إذ لا يختلف الشِّعر الجاهلي كثيرًا عن شِعر صدر الإسلام، أو عن الشِّعر الأمويّ، أو العباسيّ، اللهم إلاّ في بعض المفردات والصور، لا أكثر من ذلك. بل إن غير قليل من الشِّعر في العصور الإسلاميّة يبدو أقلّ امتثالاً للقِيَم الإسلاميّة من الشِّعر المسمّى "الجاهليّ"، ولا أدلّ على هذا من شِعر النقائض في العصر الأمويّ، والفحش والمجون في العصر العباسيّ! فكيف اتفق ذلك؟! أ ولا نرى- أيضًا- أنه لا يكاد يختلف الأمر بين خطاب القصيدة الجاهليّة وخطاب الشاعر العربي اليوم، سِوى في بعض المعجم وعناصر البيئة، فبدلاً من الحديث عن الناقة ربما تحدّث شاعر اليوم المتمدّن عن السيّارة أو الطائرة، أمّا القِيَم، وأمّا الأنساق الاجتماعيّة والثقافيّة، فهي هي تقريبًا.
كأن الشِّعر، إذن، لم يك لغة الأسئلة الأولى، وجوديّةً وكونيّةً، التي تعتلج في نفس الإنسان وتعتمل في مجتمعه، ولاسيما في تلك الحِقب العتيقة، القلقة، الممزّقة بين العقائد والدول! ومن ثم مال طه حسين، وفق مقدّماته المُلْمَح إليها، إلى القول: إن معظم ما أصررنا على الزعم أنه شِعرنا الجاهلي أكاذيب منحولة على العرب، وأحاديث مجالس أمويّة، و"سوالف" أسفار وقوافل، لا يُركن إليها ولا تدلّ على شيء. وهو- وإنْ عَمَّم استنتاجه هذا- كان يقف حائرًا بالفعل أمام ذلك المطبخ الهائل الذي غَيَّر ملامح الشِّعر الجاهلي وبدّلها، مادّة وتفسيرًا، إمّا بتغيير الشِّعر نفسه، أو بتقديم قراءات سطحيّة مباشرة عنه، لا تتخطّى كثيرًا معاني الكلمات قاموسيًّا، لزوزنيّ أو لتبريزيّ أو لشنتمريّ، في جهلٍ فاضح بالجزيرة وأهلها وسالف تاريخها وفِكرها.. وهكذا درجنا على ما وجدنا لدى آبائنا من المصنّفين، ممّن كان همّهم الأوّل الشاهد النحوي، أو اللغوي، أو الشاهد على اسم حيوان، أو نبات، أو حَجَر، ولا صلة لهم- من بَعْد- بما يعنيه الشِّعر من أبعاد نفسيّة، وأنساق اجتماعيّة، ورموز فكريّة، وإشارات إنسانيّة وحضاريّة.
(ونواصل النقاش، إن شاء الله).
(1) انظر: السقّاف، أبكار، (2004)، نحو آفاق أوسع-1: المراحل التطوّريّة للإنسان، الدِّين في مصر والعصور القديمة وعند العبريين، (بيروت: مؤسّسة الانتشار)، 38.
* صحيفة "الجزيرة"، المجلة الثقافية، الخميس 19 جمادى الأولى 1430هـ= 14 مايو 2009م، العدد283، ص8.
المراجع
رابطة ادباء الشام
التصانيف
ادب شعر كتاب